أخيرا يرى جيمسون أن عمارة ما بعد الحداثة هي عرض من أعراض اضمحلال حضاري مزمن، إنها «ليست إعادة بناء للمدن، وإنما موت لها»؛ فانتشار ما يسمى ب «الصناديق الزجاجية المترهلة» بمعظم المراكز المدنية في العالم، يشهد على ما يبدو بأن «الحداثة العليا قد ماتت ودفنت للأبد، وأن إبداعاتها التشكيلية قد نفدت نفادا كاملا، وأن أحلامها الأفلاطونية غير قابلة للتحقق.»
80
ويواصل جيمسون: «المدهش في التكوينات المعمارية الجديدة حول باريس وفي بقاع متعددة من أوروبا هو أنها جميعا لا تقدم أي «منظور» محدد على الإطلاق. القضية ليست فقط في أن الشوارع بمفهومها المعروف وقيمها الضمنية قد اختفت تماما من هذه التكوينات المعمارية، بل في أن كل الحدود المعروفة للشكل المعماري قد تلاشت أيضا. ذلك مذهل ومربك إلى حد كبير. وفي ظل هذا الارتباك الوجودي المدمر، الذي تمارسه ما بعد الحداثة على فضائها المكاني، يظهر لنا تشخيص نهائي وأخير لمدى عجزنا عن طرح أنفسنا في المكان وتعريفه بصورة تعكس وعيا حقيقيا به، وهو الأمر الذي يفسر بدوره ظهور التوجه الداعي لثقافة عالمية متعددة الجنسيات تذوب فيها الهويات فتصير مفتتة عاجزة عن موضعة ذواتها.»
81 •••
كان فن الرسم المعاصر أكثر تأثرا - مقارنة بالفنون الأخرى - بالقيم ما بعد الحداثية، ربما يعود ذلك إلى قابليته السريعة لاستيعاب التغيرات المتلاحقة، وربما أيضا لكثرة مدارسه وتنوعها، وقدرتها الكبيرة على التفاعل مع الجديد. والحال أن سمات ما بعد الحداثة يمكن ملاحظتها في فترة مبكرة عند النزعة المستقبلية والدادية. ولعل أعمال مارسيل دوشام
Marcel Duchamp
تعطينا نموذجا جيدا للإرهاصات الأولى لتيار ما بعد الحداثة في فن التصوير. اشتهر دوشام (1887-1968م) بالنزعة العدمية، التعبير عن اللاشيء، أو كما يقول بودريار: «لقد تمثل فعل دوشام في تقليص الأشياء إلى اللامعنى.»
82
وكان يراهن في فنه على أن الفنان لديه القدرة على تغيير أذواق المتلقين، وكانت قولته الشهيرة «نستطيع أن نجعل الناس تتقبل أي شيء» هي المحرك له، والسر الذي يكمن خلف كل أعماله الفنية الصادمة وغير المستساغة. قام بإدخال ما يسمى ب «الأشياء جاهزة الصنع»
ready-made
অজানা পৃষ্ঠা