دروس للشيخ عبد الله الجلالي
دروس للشيخ عبد الله الجلالي
জনগুলি
الجهاد في سبيل الله
إن الجهاد في سبيل الله ﷿ هو ذروة سنام الإسلام، ولا عزة للإسلام والمسلمين إلا به، ولا قيام للأمة إلا بإقامته، وما ذل المسلمون إلا يوم أن تركوه، وركنوا إلى أعدائهم.
وللجهاد حالات، وله أحكام ينبغي لكل مسلم معرفتها.
1 / 1
مكان نزول سورة الأنفال وسبب نزولها
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:١ - ١٩].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أحبتي في الله! هذه هي الحلقة الثانية من: "دروس من القرآن" أسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، ولقد كان الحديث في الحلقة السابقة عن أول سورة النور، وكيف حافظ الإسلام على الأخلاق والفضيلة، وحارب الرذيلة، لكن بناءً على رغبة إخوتي الذين يرون الجهاد يقرع أبواب الناس في هذه الأيام، آثرت أن يكون هذا الحديث في هذه الحلقة الثانية عن الجهاد في سبيل الله متمثلًا في جزء من سورة الأنفال التي نزلت يوم بدر، والتي تتكلم عن الجهاد من أولها إلى آخرها، وبناءً على ذلك ستكون هذه الحلقة -إن شاء الله- عن بعض سورة الأنفال، وعن الجهاد في سبيل الله.
ثم أيضًا بناءً على رغبة كثير من الإخوة في ألا نكثر في ذكر معاني الكلمات اللفظية والإعرابية ليكون التفسير موضوعيًا وشاملًا نستجيب لذلك إن شاء الله، علمًا أن تحليل الكلمات اللغوية هو منطلق من منطلقات فهم كتاب الله ﷿، لكن ربما أنه قد يحتاج إلى وقت أطول.
سورة الأنفال هذه سورة كلها مدنية، إلا أن هناك خلافًا في سبع آيات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال:٣٠]، قال بعض المفسرين: إنها نزلت في مكة يوم الهجرة، ولا شك أن هذه الآيات نزلت في شأن الهجرة؛ لأنها تصف موقف المشركين بالنسبة للهجرة، لكن لا يمنع أن تكون نزلت في المدينة؛ لأن الهجرة هي الهجرة إلى المدينة نفسها، فلا يمنع أن تكون تأخرت عن الموقف بضعة أيام، إلا أن الذين يقولون إنها مكية يقولون: نزلت في ليلة الهجرة في مكة لتنبيه الرسول ﷺ عن مؤامرة القوم في دار الندوة، وسوف نتعرض -إن شاء الله- لمؤامرتهم ضد الإسلام في دار الندوة في ليلة الهجرة حينما اتفقوا وجاءهم الشيطان، ودخل عليهم في صورة شيخ نجدي، وكانوا يتداولون الرأي: هل نقتل محمدًا؟ هل نخرجه من مكة؟ هل نحبسه ونكبله بالأغلال؟ فقال أبو جهل: أرى أن تقتلوه، وصوب الشيطان الرأي الذي يرى قتله، وأن يُؤتى برجل من كل قبيلة، ويعطى سيفًا حادًا، ويقتلون محمدًا جميعًا، ويستريح الناس من شره، ويتفرق دمه في القبائل، فلا يطالب بنو هاشم ولا بنو المطلب بدمه، وتدفع لهم الدية، فكشف الله تعالى هذه المؤامرة، وأنزل على رسوله ﷺ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠].
ولا يمنع أن تكون نزلت في المدينة.
أما الآيات التسعة والستون البقية فبإجماع علماء المسلمين أنها نزلت في المدينة بعد موقعة بدر الكبرى التي أكرم الله ﷿ فيها الإسلام والمسلمين، ورفع فيها راية الإسلام، وبالرغم من أنها أول معركة في تاريخ الإسلام، فما كانت هناك غزوة مثل غزوة بدر، فهي الغزوة الأولى التي وقف فيها الرسول ﷺ مع مشركي مكة.
1 / 2
تركيز سورة الأنفال على الجهاد في سبيل الله ﷿
نجد أن في هذه السورة تركيزًا على تقوى الله ﷿، وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى نزع العاطفة من قلوب المسلمين على هؤلاء الكافرين، حتى قال الله تعالى في هذه السورة: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾ [الأنفال:٥٧]، أو (فشرذ بهم) وهي قراءة سبعية، أي: قطعهم تقطيعًا، حتى الذين أخذ الرسول ﷺ منهم أسرى منع الله ﷿ أن يكون هناك أسرى لنبي من الأنبياء حتى يثخن في الأرض، أي: يكثر القتل؛ لأن هذه أول معركة في التاريخ الإسلامي.
وسيأتينا -إن شاء الله- في قصة الأسرى في آخر السورة أن الرسول ﷺ جمع كبار الصحابة وقال: (عندي سبعون أسيرًا ماذا أفعل بهم؟) فمنهم من قال: يا رسول الله! هم إخواننا وأبناء عمنا نأخذ منهم فداء، فقام عمر وقال: يا رسول الله! أرى أن تسلم لكل واحد منا قريبه ليقطع عنقه الآن، حتى قال بعض الصحابة: أرى يا رسول الله! أن نجعلهم بين جبلين فنحرقهم بالنار، فالرسول ﷺ ما نظر إلى هذين الرأيين، وإنما أخذ الفداء، حتى أنزل الله تعالى العتاب لرسوله ﷺ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [الأنفال:٦٧]، ثم قال بعد ذلك: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال:٦٨]، أي: لولا أن الله تعالى غفر لأهل بدر لأصابكم العذاب؛ إذ كيف تأخذون الفداء من الأسرى مع أنها أول معركة في التاريخ، ويجب على المسلمين إذا كانت معركتهم الأولى مع عدوهم أن يشردوا الكافرين، وأن يقطعوهم تقطيعًا.
ولذلك يقول المفسرون: إن الله تعالى لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم بين الأنفال وبين التوبة، مع أنه لم تنزل سورة من القرآن إلا وفي مقدمتها (بسم الله الرحمن الرحيم) يقولون: حتى لا تكون هناك رحمة في قلوب هؤلاء المؤمنين لهؤلاء الكافرين؛ لأن سورة الأنفال نزلت في القتال، وسورة التوبة نزلت أيضًا في القتال، إلا أن سورة الأنفال نزلت تتحدث عن موقعة بدر، وسورة التوبة تتحدث عن غزوة تبوك مع أحداث أخرى.
وعلى كلٍ نقول: هذه السورة جلها نزل بعد غزوة بدر الكبرى مباشرة، ونزل في بدر بعض الآيات منها.
1 / 3
تفسير الآية الأولى من سورة الأنفال
1 / 4
اختلاف المسلمين على الغنائم وذكر قسمتها
وأول ما يتبادر للذهن أن الآية الأولى تشير إلى خلاف حصل بين أصحاب الرسول ﷺ، وليس غريبًا أن يحصل الخلاف؛ لأنها أول معركة، والمسلمون ما زالوا جددًا على القتال في سبيل الله وعلى الغنائم، والمسلمون الذين هاجروا فقدوا أموالهم كلها في مكة؛ فقد هاجروا بأنفسهم وما أخذوا شيئًا من أموالهم، وإنما عاشوا فقراء في المدينة، وكانوا من أثرى الناس في مكة، فحصل شيء من الخلاف في غنائم بدر، فإنه لما انتهت المعركة اختلف بعض المسلمين في الغنائم؛ لأن قومًا استمروا في المعركة، وصاروا يحرسون موقع الرسول ﷺ، وفرقة أخرى أخذت الغنائم، فلما انتهت المعركة قال بعضهم لبعض: أنتم أخذتم الغنائم، ونحن نحرس ثغور المسلمين، وقالت الأخرى: نحن الذين حصلنا عليها، فأنزل الله تعالى قرآنًا يزيل فيه هذا الخلاف، وأن هذه الغنائم ليست ملكًا لكم، وإنما هي لله ولرسوله، وذلك قد يحتمل أنها قبل أن تباح الغنائم لهذه الأمة، أو بعدما أبيحت الغنائم لهذه الأمة، لكن قسمتها أجلت حتى يحكم الله تعالى في ذلك.
1 / 5
كيفية قسمة الأنفال
ولذلك نجد في سورة الأنفال آيتين ظاهرهما التعارض في بادئ الأمر، لكن الحقيقة أنه ليس هناك تعارض بينهما.
فالآية الأولى فيها قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:١]، هذه الآية تعطينا أن الأنفال -أي: الغنائم- ترجع إلى الله وإلى رسوله، لكن في الآية الأخرى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال:٤١] إلى آخر الآية، ظاهرها خلاف الآية الأولى، ولذا قال المفسرون: هل هذه ناسخة لتلك، أو تلك ناسخة لهذه، أو نوفق بينهما؟ فمنهم من قال: إن هذه هي المنسوخة، وهو الأقرب؛ لأن هذه نزلت قبل تلك، بقطع النظر عن الترتيب في المصحف، ومنهم من قال: ليس بينهما تعارض؛ فلا حاجة إلى النسخ، وإنما هذه توقف قسمة الغنائم، وتجعل الأمر لله ولرسوله، وتلك تبين كيف تقسم الغنائم حسب أمر الله ﷿ وقسمة رسوله، وبهذا لا يبقى إشكال في معنى الآيتين.
1 / 6
تعريف الأنفال
وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ﴾ [الأنفال:١] النفل أصله في اللغة: الزيادة، ويُسمى ولد الولد نافلة، كما قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء:٧٢]، أي: زيادة.
لكن النفل في الحقيقة هو: مال يعطيه قائد المعركة لبعض المقاتلين زيادة وتشجيعًا، إلا أنه صار يُطلق على الغنائم.
قوله: ﴿قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال:١]، أي: قل لهؤلاء: الله تعالى هو الذي يقسم، وسيقسم هذه الأنفال.
1 / 7
أهمية إصلاح ذات البين
ثم قال سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:١]، أي: أصلحوا الخلاف الذي حدث، ولماذا ركز القرآن على الإصلاح؟
الجواب
لأنها أول معركة، والدولة حديثة النشء، ولو بدأ الخلاف في دولة جديدة لكانت ثغرة يدخل منها العدو إلى الإيقاع بالأمة الإسلامية، لكن الله ﷾ أمر هنا بالإصلاح حتى لا توجد ثغرة؛ لأن الخلاف دائمًا إنما يحدث بسبب المال أو بسبب العدو، فهذان أمران يحدثان الخلاف دائمًا؛ فإما أن يندس العدو داخل صفوف المسلمين فيفرق المسلمين، وإما أن يكون هناك مال يختلف عليه الناس فيكون سببًا للفرقة بين الناس.
أما لو كان الخلاف في البحث عن الحق فذلك لا يضر، أما الخلاف بالنسبة للمال أو بالنسبة لتدخل عدو خارجي ليفرق صفوف المسلمين إلى قسمين فهذه هي المشكلة، ولذلك دعا الله تعالى المسلمين إلى إصلاح ذات البين قبل أن يفكروا في قسمة الغنائم، ودائمًا الشيطان يدخل من هذه الهوة وهذه الثغرة التي يحدثها المال أو يحدثها العدو في صفوف المسلمين.
1 / 8
حكم الصلح مع الكافرين
إذًا: لابد من إصلاح ذات البين، ولابد أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين، لكن هل هذا الإصلاح يقوم بين المؤمنين أنفسهم؟ أو يقوم بين المؤمنين والفاسقين والكافرين؟
الجواب
أما مع الكافرين فليس هناك إصلاح، بل لابد أن تكون حرب شعواء بين المسلمين وبين عدوهم لا تهدأ أبدًا حتى يكون الدين كله لله، ولذلك فإن الله ﷾ أمر بالإصلاح إذا كان؛ لأن الاختلاف بين المسلمين في أمور جزئية، أما إذا كانت هناك كليات أو كانت هناك أمور هامة يختلف عليها المسلمون الصالحون والفاسقون ثم يأتي واحد ليتدخل ليصلح بين هؤلاء، فنقول: لا يقبل الإصلاح في مثل هذه الحال، وإنما الإصلاح يجب أن يكون بين المؤمنين.
وعندنا آيتان في القرآن: الأولى: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:١٠].
والثانية: قوله تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:١١٤]، فكيف نفعل بهذا العموم وهذا الخصوص؟ الجواب: نقول: الآية التي فيها الإصلاح بين الناس نحملها على الآية الخاصة: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:١٠].
إذًا: الإصلاح ليس بين الناس عمومًا، وإنما بين الناس المؤمنين أنفسهم.
وعلى هذا نقول: إذا كان الخلاف على هذا الدين ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا فلا نقبل أي وساطة ولا نقبل أنصاف الحلول وأرباع الحلول في هذا الأمر، ولا نقبل إلا أن يكون الدين كله لله، ونرفض أي مبدأ أو أي ثغرة تريد أن تفرق بين المسلمين، أما إذا كان هناك خلاف بين المسلمين على أمر من الأمور الجزئية التي لا تؤثر على الدين فيجب الإصلاح في مثل هذه، وهذا هو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:١]، وهو الإصلاح الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:١٠]، ونحمل عليه الآية العامة في قول الله تعالى: ﴿أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:١١٤]، فإذا كان الإصلاح بين الناس لمصلحة هذا الدين فنقبله، وإذا كانت وساطة بين الكفار والمسلمين حتى يحصل تقارب فهذا لا يجوز؛ لأن هذا يعتبر التقاءً مع الجاهلية في منتصف الطريق، والإسلام لا يقبل أي مفاهمة أو أي مفاوضة أو أي مساومة على دين الله ﷾.
فقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:١]؛ أمرهم بهذا لأنهم مؤمنون، وكلهم يسعون إلى الإصلاح وإلى الخير، لا إلى اختلاف جزئي في أمر من الأمور.
1 / 9
وجوب طاعة الله ﷿ ورسوله ﷺ
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال:١]، ومن طاعة الله ورسوله إصلاح ذات البين بين المسلمين المؤمنين.
وقوله: ﴿إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:١]، لا شك أنهم مؤمنون، ولكن قال: (إن كنتم مؤمنين) ليثير غريزة الإيمان في نفوس الناس، كما تقول لواحد من الناس: إن كنت رجلًا فافعل كذا، تريد أن تثير حماس الرجولة فيه، وكذلك أقول له: إن كنت مسلمًا فدافع عن دينك ضد هؤلاء الطغاة والفجرة الذين يحاولون هدم هذا الدين، فأنا أعرف أنه مسلم وهو يعرف أنه مسلم، لكن أريد أن أحرك غريزة الإسلام في قلبه.
1 / 10
ذكر صفات المؤمنين كاملي الإيمان
ثم بعد ذلك حصر الله تعالى المؤمنين فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال:٢]، فهناك إيمان ناقص، وإيمان كامل، فالإيمان الناقص هو إيمان عامة الناس، لكن الإيمان الكامل له ميزات يجدها الإنسان في نفسه في مواقف وفي مواقع، ذكرها الله ﷿ في هذه الآية:
1 / 11
وجل القلوب من ذكر الله
وأولها: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): فالمؤمن كامل الإيمان تجده حينما يسمع ذكر الله يهتز قلبه، ويشعر بقشعريرة في جسده؛ حتى كأنه لا يملك نفسه، وهذه تعتبر مقياس الإيمان، ولذلك أوصى الرسول ﷺ أصحابه بمثل هذا الموقف، فإذا شعر الإنسان بهذه القشعريرة فعليه أن يسأل الله؛ لأنها ساعة قوي فيها الإيمان وزاد وارتفع.
1 / 12
ازدياد الإيمان عند سماع القرآن
الميزة الثانية: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا): إذا سمع القرآن يزيد عنده الإيمان، ويخشع قلبه، وكأنه لم يسمع هذا القرآن قبل أن يسمعه في هذه اللحظة، ولذلك حينما يقرأ القرآن بصوت جميل وبترتيل وبخشوع يزيد الإيمان عند هذا الإنسان، وهذه علامة الإيمان، فالمؤمن هو الذي يشعر بهذا، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
1 / 13
التوكل على الله
الميزة الثالثة: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): كامل الإيمان عنده اعتماد على الله ﷾، وليس عنده اعتماد على أحد من البشر، فأيًا كان هذا البشر، ومهما أعطي من القوة، ومهما كان له من السطو، ومهما أوتي من الحنكة والذكاء والعلم، فلا تعتمد عليه، وإنما تعمد على الله ﷾، ولذلك قال: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:٢].
لم يقل: يتوكلون على ربهم، والفرق بين قوله تعالى: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:٢]، وبين: (ويتوكلون على ربهم) أن فيه تقديم ما حقه التأخير؛ يقول علماء اللغة: هذا يدل على الحصر، مثل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:٥]، أصلها: نعبد إياك، أو نعبدك، فتقديم الجار والمجرور على الفعل المتعلق به هو تقديم للحصر، أي: لا يتوكلون إلا على الله ﷾، ولا يعتمدون إلا على الله، مهما كان الجو مظلمًا ومكفهرًا، ومهما أوتي البشر من قوى مادية ضاربة في الأرض يحسبها الإنسان تدفع شيئًا من قضاء الله وقدره، لكنها في الحقيقة لا تغني من الله ﷿ شيئًا، فإذا اعتمد الإنسان على قوة البشر أو على قوته أو على أي قوة دون الله ﷿، فهو لا يمكن أن يستفيد من هذه القوة.
إذًا: لابد أن يتوكل العبد على الله، ولا يتوكل على أحد سوى الله ﷿، وإذا توكل على غير الله فإن الله تعالى يرفع يده عنه، وإذا توكل على الله تعالى فإن الله كافيه، قال ﷿: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:٣].
إذًا: الله تعالى لا يكفي إلا من توكل عليه، أما من توكل على غير الله من قوى البشر فإنه مغلوب لا محالة.
1 / 14
إقامة الصلاة
فمن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأشياء؟ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الأنفال:٣]، أي: يأتون بالصلاة مستقيمة، والصلاة يا إخوان! هي عمود الإسلام، فمهما عمل الإنسان من الطاعات ولكن كانت الصلاة غير مضبوطة وغير صالحة؛ فإنه لا يقبل منه هذا العمل، ولذلك أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة.
وليست الصلاة هي الحركات الآلية التي يؤديها بعض الناس دون أن تصل إلى القلب، وإنما هي الصلاة المستقيمة، ولذلك ما قال الله تعالى: يصلون، وإنما قال: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [الأنفال:٣]، فالصلاة كما نعرف هي عمود الإسلام، وتركها ردة عن الإسلام، كما قال ﵊: (من تركها فقد كفر)، بل إن الله تعالى أمرنا بأن نقاتل كل من ترك الصلاة حتى يعود إلى الصلاة، ونقاتله قتال الكافرين لا قتال العصاة، فقال ﷿: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة:٥]، وقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١١].
إذًا: ترك الصلاة مع إنكار وجوبها ردة بإجماع علماء المسلمين، وعلى رأي جمهور علماء المسلمين: إذا كان يعتقد وجوبها ولكنه يتركها تهاونًا فإنه يقتل؛ فاتفقوا على أنه يقتل تارك الصلاة إذا لم يتب، واختلفوا: هل يقتل ردة أو يقتل حدًا؟ فالذين قالوا: إنها ردة وكفر قالوا: يقتل ردة، ويترتب على هذا أنه لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث إلى غير ذلك.
1 / 15
الإنفاق في سبيل الله
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الأنفال:٣]، أي: أنهم من أهل الزكاة والبذل أيضًا.
ولما كانت الآيات سوف تتحدث عن الجهاد جاء الإنفاق؛ لأن الجهاد يكون بالمال كما يكون بالنفس، ولربما الرجل قد يبخل بنفسه ودمه فلا يقدمه في سبيل الله، لكنه يجود بماله، فيقوم هذا المال بسد ثغرة من ثغرات الجهاد في سبيل الله، كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن لو بخل الناس بأنفسهم وبأموالهم جميعًا عن الجهاد في سبيل الله، فهذه هي التهلكة التي يقول الله ﷿ عنها: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:١٩٥]، فلابد من بذل المال.
وقال الله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الأنفال:٣]، وأصحاب الصلاة منهم.
وقال الله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:٤]، يعني: ليسوا مؤمنين أدعياء فقط، لكنهم مؤمنون حقًا، و(حقًا) هنا مصدر لفعل محذوف، أي: أحق الله ذلك حقًا، فأصبح أمرًا مؤكدًا.
إذًا: هذا الذي جمع هذه الصفات هو المؤمن.
فإذا أردت يا أخي! أن تعرف مقياس الإيمان عندك فزن بنفسك بهذه الآية: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الأنفال:٢ - ٣]، فإذا كانت هذه الصفات موجودة فيك فأنت -إن شاء الله- من المؤمنين حقًا، وذلك لا يمنع أن تكون هناك صفات أخرى مطلوبة أيضًا في المؤمن، من ترك ما حرم الله وفعل ما أوجب الله، لكن هذه الصفات المذكورة مقياس واضح لكل واحد من الناس.
1 / 16
الإرهاصات بين يدي معركة بدر
ثم بعد ذلك بدأ الحديث عن موقعة بدر، وكأن الآيات السابقة مقدمة لترقق قلوب المؤمنين، ولترفعهم إلى الجهاد في سبيل الله.
أما موقعة بدر الكبرى -وهي أول موقعة في تاريخ الأمة الإسلامية- فبدأ الحديث عنها في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ [الأنفال:٥]، وعندنا هنا مشبه ومشبه به، فالمشبه: صدق إيمان أصحاب النبي وتفاوتهم في الدرجات، والمشبه به: إخراج الرسول ﷺ من بيته إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد، وهذا أمر شاهده المسلمون، وشاهده الرسول ﷺ، وهذا لا شك فيه، إذًا: المشبه هو: أن هؤلاء المؤمنون لهم درجات عند ربهم، يعني: إذا كان عند أحد شك بأن للمؤمنين درجات عند الله تعالى في الآخرة فليقطع الشك؛ لأن هذا شيء ملموس رآه المسلمون بأعينهم وعايشوه، وهو أن الله تعالى أخرج المؤمنين من بيوتهم وأخرج معهم الرسول ﷺ إلى غزوة بدر الكبرى على غير استعداد.
وأداة التشبيه هي الكاف في قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنفال:٥]، أي: بالشيء الثابت الذي لا شك فيه.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ [الأنفال:٥]، ولماذا كره المؤمنون القتال في معركة بدر؟ ما كان المؤمنون جبناء، بل أصحاب الرسول ﷺ كانوا شجعان، فقد تركوا الوطن وجاءوا من مكة إلى المدينة، وتركوا الأهل والعشيرة، وأُوذوا في سبيل الله، وكانوا في الحياة المكية يتمنون الجهاد في سبيل الله، كما أخبر الله ﷿ عنهم بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ [النساء:٧٧]، وهذا في الحياة المكية، ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك.
1 / 17
سبب غزوة بدر
إذًا: لماذا فرض القتال في معركة بدر حتى كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون؟
الجواب
لأنها معركة خرجوا لها على غير استعداد، فإن الرسول ﷺ سمع بأن عيرًا قدمت من الشام بقيادة أبي سفيان، وكان المسلمون المهاجرون قد تركوا أموالهم في مكة يتمتع بها المشركون، بل وتركوا بيوتهم وأولادهم وأهليهم هناك، فأراد المسلمون أن يعوضوا عن هذا المال الذي تركوه بمكة من هذه العير القادمة من الشام إلى مكة، وكانت تمر بالمدينة، فأرادوا أن يأخذوا هذه العير، وكان فيها مال كثير، وكان يقودها أبو سفيان، وكان من أدهى العرب.
فخرج الرسول ﷺ بثلاثمائة وسبعة عشر رجلًا من المسلمين يريد أخذ العير، لا يريد القتال، وليس معهم سلاح إلا سلاح دفاع، لكن الله تعالى يريد أن يكون ذلك قتالًا، وهذا هو السبب الذي جعل المسلمين يكرهون هذه المعركة، يعني: يخافون منها، ليست كراهية نفسية، وإنما هي كراهية خوف؛ لأنهم كانوا على غير استعداد.
1 / 18
موقف الصحابة ﵃ من المشاركة في معركة بدر
ولما سلمت العير جمع الرسول ﷺ المسلمين في بدر فاستشارهم وقال: (أروني ماذا أفعل؟ فقالوا: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للقتال، وليس معنا سلاح، ثلاث مرات، فانتبه سعد بن معاذ ﵁ -وكان زعيم أهل المدينة- فقال: يا رسول الله لعلك تعنينا؟ قال: نعم) لأن الرسول ﷺ كان قد بايعه أهل المدينة على الدفاع لا على الهجوم.
قال: (والله يا رسول الله لقد آمنا بك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق)، وهذه المقالة لابد أن يقولها كل واحد حينما يسمع داعي الجهاد في سبيل الله تحت راية المؤمنين، ثم قال: (وإنا والله لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فوالله! لو وجهتنا إلى برك الغماد أو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك ما تخلف منا رجل واحد)، هذا هو موقف المسلم حينما ينادي منادي الجهاد في سبيل الله.
ثم قال (والله يا رسول الله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).
فسر الرسول ﷺ بهذا الخبر من رجل ما كان بينه وبينه اتفاق، وهو يمثل جميع الأنصار وهم الأكثرية، فعزم رسول ﷺ على القتال، ثم قضى ليلة بدر وما قبلها من الليالي بين ركوع وسجود لله ﷾.
هكذا القيادة، فيجب أن تتعرف إلى الله تعالى في ساعة الشدة، فلا ترقص وتغني وتأتي بالأشياء التي حرم الله ﷿ وتطرب للمعركة تحت أصوات الراقصات والمغنيات، كما يُفعل في أيامنا الحاضرة! فأمة الإسلام تعرف الله ﷿ دائمًا وأبدًا، وفي ساعة الشدة يزيد تعرفها على الله ﷿، بل هذه صفة من صفات المشركين في الجاهلية قبل الإسلام، فإنهم كانوا إذا خافوا وإذا هبت ريح عاصف فزعوا إلى الله ﷿، ودعوا الله مخلصين له الدين، فقارن يا أخي! بين هذا وبين حال الناس في أيامنا الحاضرة، فالعدو يطوق البلاد الإسلامية من كل جانب، ومع ذلك لا يلتفتون إلى أفكارهم ومذاهبهم ولهوهم ولعبهم حتى في مثل هذه الظروف.
1 / 19
وجوب الرجوع إلى الله في الشدائد
والله لو رأينا في هذه الأشهر التي مرت بنا ونحن نرابط أمام أقسى عدو وأشرس عدو من أعداء الله ﷿، لرأينا أن ما أحدثه الناس من معاصي الله أضعاف ما أحدثوه في السنوات الماضية! فالرسول ﷺ يأتيه النصر من عند الله ﷾، ويريه في المنام أنه سوف ينتصر، ومع ذلك يقضي ليلته التي تسبق المعركة راكعًا وساجدًا لله ﷿، يتوسل بين يدي الله، ويقول: (اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم! إن تهلك هذه العصبة لا تُعبد في الأرض)، حتى يأتيه أبو بكر ﵁ عند الفجر، فيقول: (يا رسول الله! إن الله ناصرك ومنجزك ما وعد) وكان قد سقط رداؤه من شدة رفع يديه بين يدي الله ﷿، فكان أبو بكر يضع رداءه على كتفيه ويقول: (يا رسول الله! امض حيث أراك الله).
هذا هو الفرق الذي جعل الهزيمة تحل بالمسلمين اليوم، فإن النصر ينزل من عند الله ﷿، بل إن الله ﷿ أنزل خمسة آلاف من الملائكة مقابل ألف رجل جاءوا كافرين، مع أن واحدًا من الملائكة استطاع أن يحمل ديار قوم لوط ويرفعها فوق السماء إلى أن سمعت الملائكة صياح ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها، فواحد يستطيع أن يهلك هذه الأمة كلها بأمر الله ﷿، لكن الله سبحانة وتعالى يريد أن يبين أن الأسباب ولو كانت كثيرة لا تغني من الله ﷿، فأنزل خمسة آلاف من الملائكة، وأيضًا أنزلهم مسومين، أي: مزودين بالأسلحة.
فما هو الفرق؟ الفرق: هل يرجع الناس في ساعة الصفر وفي ساعة الشدة إلى الله ﷿ أو يتمادون في ضلالهم؟ وهل يتوب الناس من معصية الله ﷿ أو يبقون على ما حرم الله، أو يحدثون أشياء جديدة؟ فالربا ينتشر في بلاد المسلمين حتى في ساعة الشدة، والأغاني لا تتغير، والمسرحيات، وكأننا نعيش حياة سلم في هذا العالم الإسلامي الذي نعيش معه اليوم.
إذًا: لابد من التغيير، والله ﷾ ربى المسلمين قبل أن يتحدث عن هذه المعركة؛ ليعلم المسلمون أنه لابد من التربية قبل المعركة، ولابد من العودة إلى الله ﷿ قبل المعركة، ولابد من التضرع بين يدي الله ﷿ قبل المعركة، والله تعالى يقول: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:٤٣]، فإذا كان الأمر كذلك فإن نصر الله أبعد عن هؤلاء الناس مما بين المشرق والمغرب؛ حتى يعود هؤلاء الناس إلى ربهم ﷾ ولو -على الأقل- في ساعة الشدة، وكان المطلوب أن يتعرفوا إلى الله في ساعة الرخاء قبل ساعة الشدة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ [الزمر:٦١].
والرسول ﷺ يقول: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن نطالب المسلمين اليوم في وقت الشدة أن يعودوا إلى الله ﷿، وأن يهجروا المحرمات، وأن يتضرعوا بين يدي الله ﷿ إذا كانوا يريدون النصر، أما إذا كانوا يفكرون في نصر يأتي من غير الله ﷿ فهذا هو الخطر العظيم، وهذا هو الخلل في التوحيد فضلًا عن الأعمال.
1 / 20