ولقد شبهوا فلسفة نيتشه بالسم الذي يفيد إذا أخذ جرعات صغيرة؛ فقد يكون فيها علاج لداء العصر المتفشي، من يأس وسوداء وملل من الحياة. أليس هو القائل: «يجب أن نستيقظ كل صباح وفينا من الإرادة فوق ما لنا بالأمس، علينا أن نعرف العالم كي نحاربه، فلنحب الحقيقة وما فيها من شناعة وخبث رائحة ومصاعب وأخطار، ولنخلع عنا اليأس، ولنقصر الشكوى والأنين، ولنقو على إخفاء الألم، ولنهرب من الشفقة كما نهرب من العار، ولنجعل قلوبنا قاسية قساوة الماس؟» غير أن هذا العلاج لم يشف داء العصر المستحكم، بل بدل مركز الثقل فيه وحول ضعف الشبان وبأسهم إلى صلف وغرور، وربما دفع البعض إلى ارتكاب الآثام. على أن نيتشه ينكر هؤلاء التلاميذ في ضلالهم، بل يأبى أن يكون له أتباع؛ لأن الأتباع يدخلون في عداد القطيع، أي العبيد، وعلى كل فرد أن يستقل في نظره وخبرته فيفهم العالم كما يريد.
لقد أراد نيتشه أن ينظم قصيدة الشدة والبطولة فجاءت أبياتها ملأى بالنقائض، ومن خلال آياته وحكمه وأناشيده وصوره كانت طريقه كثيرة الالتواء والمنعرجات؛ فهو ينهى عن الرحمة ويأمر بها، ويمنع الألم ويمتدح مزاياه، لا يكره الكتاب المقدس لما فيه من العطف على الضعفاء، ويعجب به لما فيه من حب الانتقام: «عين بعين وسن بسن.» هذا من آداب السادة. وأما «من يلطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.» فهو من أدب العبيد. وينكر الصداقة على المرأة، ويشبهها بالهر ويتخذها صديقة له، ويوصي بالحب لتحسين النسل، ويطلب جلد المرأة بالسياط. ينهى عن الواجب ويأمر بالطاعة، فيحمل على الحكومات حملة شعواء لأنها تخدم الفضوليين الدخلاء على الحياة، ثم يقول: «أكرم السلطة ولو كانت عرجاء.» إلى آخر ما هنالك من الوصايا المتناقضة الجائرة بين معناها الظاهر ومعناها الخفي.
وجملة القول: إن نيتشه يحملنا على إجهاد الفكر، ويمشي بنا على شفير الهاوية، أو فوق قمم خطرة، فلا يطبق القارئ كتابه إلا وقد أصابه دوار، وصار كمن يتلمس طريقه للهبوط من هذا العلو الشاهق إلى صعيد الحياة.
هذا هو نيتشه رسول القوة. لقد كان في حياته شاعرا مغرما بالموسيقى وبنات الأفكار والأناقة الأرستقراطية، وكان لطيف المعشر محبوبا، رقيق الشعور ، شديد الإحساس، ولكنه كثير الأحلام؛ فجاءت فلسفته نتيجة لأحلامه وخياله أكثر منها نتيجة لأخلاقه، حتى انتهت به إلى الجنون. والغريب أن جنونه كان مبنيا على هذيان الاضطهاد والعظمة؛ فظن نفسه لا زرادشت بل المسيح على الجلجلة. هذا الإله الذي حاربه لأنه إله المستعبدين أصبح غاية مناه وأقصى مشتهاه، وربما كان ذلك يقظة الغيبوبة بالعودة إلى إيمانه القديم؛ لأن والد نيتشه كان قسيسا.
تولستوي
دين الرحمة
عندما شن الألمان هجومهم الأول على روسيا وتغلغلوا في أراضيها شطر موسكو، مروا في طريقهم ببلدة تولستوي، فأمعنوا فيها تخريبا وبددوا ما في خزائنها من كتب هذا الفيلسوف وآثاره، كأنما هم أرادوا فيما نهبوا وأحرقوا أن يصبوا جام انتقامهم على تلك القرية التي أخرجت أكبر عدو لمبادئهم؛ فقد كان تولستوي رسول السلام وهم دعاة الحرب، ينادي بالمساواة وهم ينكرونها، ويعارض الخدمة العسكرية وهم يقدسونها.
وليس حب السلم والدعوة إلى المساواة أصل الشهرة التي أحرزها تولستوي؛ فإن هذه التعاليم السامية قد سبق إليها، وقديما ردد صداها العالم القديم بما نقله لنا التاريخ من أقوال كونفوشيوس، فيلسوف الصين: «انس الإساءة ولا تنس الإحسان.» أو «تصرف مع الآخرين كما تريد أن يتصرفوا معك.» إن شهرة تولستوي ترجع إلى أمرين: الأول معارضته الإنجيل الذي يدين به، فتراه من جانب يعلم مثله حب القريب والعفو والتسامح، والبعد عن الإكراه والشدة، ويتقيد بذلك الأدب الذي سماه نيتشه أدب العبيد؛ أي من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن جانب آخر ينكر الخطيئة الأولى كما ينكر سر الفداء، ولا يؤمن بالخلود بل يرى أن في الاتكال على الحياة الثانية ورجاء القيامة ضعفا وصغارا. ويعتبر أن هذه الحقائق الخالدة من الحب والمسالمة، وعدم اتقاء الشر بمثله يمكن للإنسان الاهتداء إليها لنفسه بدون معونة الإنجيل، وعليه فلا يهم أكان الإنجيل منزلا أم من صنع البشر. فمسيحية تولستوي مشوبة بالتجديف، وهي أشبه بوحدانية بوذا منها بشيء آخر.
والأمر الثاني أن تولستوي كان أول من طبق تعاليمه على نفسه، فدافع عن الفلاح ولبس جبة الفلاح ، وناهض العظماء وتخلى عن مكانه العظيم بينهم، وحارب الأغنياء وحرم نفسه من التمتع بثروته، فلم يكن يحمل في كيسه إلا بضعة دريهمات. وكل الظواهر تدل على أنه لو ترك الأمر إليه نفسه لفرق ماله على الفلاحين، ولكنه كان أبا لأسرة كبيرة كثيرة العدد، فكانت زوجته تتولى إدارة ثروته الأدبية، وبنوه إدارة أملاكه والتصرف بها وفقا لعادات الأسرة وتقاليدها. والحق يقال: إن حياة تولستوي كانت مثلا للغرابة، وعلى الرغم من نبالة محتده، فقد نزل إلى معاشرة سائر طبقات الاجتماع، واحترف غير مهنة، فكان معلم مدرسة، وإسكافا وفلاحا، وتقلب بين الترف والشظف، كما تقلب بين الإيمان والجحود. أما فلسفة تولستوي فتختصر بكلمة أبي العلاء المعري:
وزهدني بالناس معرفتي بهم
অজানা পৃষ্ঠা