تحس بنفس قصصي، ممتع طويل، لا عهد للعرب به من قبل. وانظر أنواع الحكم الهندية الفارسية العربية التي تجدها في أقوال ابن المقفع، وانظر القصص الذي في ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. وانظر أنواع المقامات التي تجلت في عمل البديع والحريري. كل هذا وأمثاله: أنواع لا يعرفها العرب الخلص، وإنما كانت من غير شك نتيجة عملية التوليد التي أشرنا إليها. وما كانت تكون لو عاش العرب وحدهم، أو الفرس وحدهم. ومثل ذلك يقال فيما ظهر من أنواع العلوم المختلفة، التي سنوضحها في فصول تالية.
والخلاصة أن لقاح العقول أنتج مخلوقات جديدة؛ لها ميزاتها الخاصة. كما كان الشأن في توليد الأجسام. •••
وبعد: فمع هذه الاختلافات المتنوعة - التي أبنا - كانت هناك روح واحدة، ترفرف على العالم الإسلامي. هي روح شرقية، توحد بين أفرادها، مهما اختلفت أجناسهم وأنواعهم. هذه الروح هي التي أخضعت الفلسفة اليونانية لما دخلت في بلادها، فأسبغت عليها ثوبا من روحانيتها، وإلهاماتها. وهي التي جعلت علماء التاريخ والاجتماع يدركون خصائص مشتركة بين الشرق، تخالف تلك التي للغرب. روح ورثها الشرقي من أجيال، وساعد على تكوينها بيئاتهم الطبيعية، والاجتماعية، وجعلتهم يتذوقون غير ما يتذوقه الغربي، ويدركون الأشياء على غير النمط الغربي، كما جعلت لهم مدنيات؛ تخالف - من وجوه كثيرة - المدنيات الغربية. جاءت الأديان المختلفة من: بوذية، ويهودية، ونصرانية. فصبغت هذه الروح صبغة خاصة، صبغة لا مادية، تؤمن بإله فوق هذا العالم، وترجو جنة، وتخاف نارا، وترى أن وراء هذه السعادة الدنيوية والشهوات الجسمية سعادة أخرى روحية! فلما جاء الإسلام ، ونشر سلطانه على الممالك الشرقية؛ زاد هذه الروح وقواها، وعمل في توحيدها، فقد كانت هذه الأمم المختلفة تخضع لقانون واحد، ولنظام في الحكم واحد، وتتكلم بلغة واحدة، ويدين أغلبها بدين واحد، ورحلات العلماء في منتهى القوة على صعوبة المواصلات، والرحالون يتبادلون الآراء والمعتقدات، ويدعون دعوات دينية وسياسية، والحكام يرسلون من مركز الخلافة مزودين بتعاليم واحدة في جوهرها.
كل هذا: وحد بين الأمم المختلفة، وكون منها ما يصح أن يسمى أمة واحدة، لها أدب واحد، وثقافة واحدة، وعلم مشترك.
الفصل الثاني
الصراع بين العرب والموالي
يظهر أن العرب في الجاهلية لم يكن لهم شعور قوي بأنهم أمة! إنما كان الشعور القوي عندهم؛ شعور الفرد بقبيلته، ذلك أننا إذا رجعنا إلى ما نرجح صحته من الشعر الجاهلي، وجدناه مملوءا بالشعور القبلي، فالعربي يمدح قبيلته، ويتغنى بانتصارها، ويعدد محاسنها، ويهجو القبيلة الأخرى من أجل قبيلته. ولكن قل أن نجد شعرا يتغنى فيه العربي بأنه عربي! ويفخر فيه على غيره من الأمم. والسبب في ذلك واضح، وهو: أن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمة بالمعنى الصحيح. فلم يتحدوا لغة ولا دينا، وليست لهم آمال وطنية واحدة، ولا ما هو شرط أولي للأمة؛ وهو وجود شخص، أو هيئة مكونة من عدة أشخاص، لها قوة تنفيذ أوامرها على كافة أفرادها، وحملهم على طاعتها. وطبيعة المعيشة القبلية التي كانت تعيشها تأبى ذلك.
أضف إلى ذلك؛ أنه لم يكن هناك ما يشجع العرب على هذه الفكرة؛ لأنهم إذا نظروا هذا النظر لم يشعرهم ذلك بعظمة، ولا فخر، فحولهم الفرس من ناحية، والروم من ناحية، وعلاقة العرب معهم ليست علاقة تشعر بالقوة؛ فهم يتعاملون معهم تجاريا، ولكن ليست علاقة الند بالند، بل علاقة الفقير بالغني، والضعيف بالقوي، ومن تاجر منهم، وانتقل إلى فارس والروم ورأى عظمتهم، استضعف نفسه. نعم! وردت بعض قصص قد تنقض ما نقول؛ كالذي رواه القظامي عن الكلبي: من وفود العرب على كسرى
1
وافتخار النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، لا يستثني فارس، ولا غيرها، وأن أمة لو قرنت بالعرب لفضلتها (العرب) بعزها ، ومنعتها، وحسن وجوهها، وبأسها، وسخائها، وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها، وأنفتها، ووفائها ... إلخ، ولكنا نشك في هذا الخبر شكا كبيرا، فإنا لم نجد هذا الخبر إلا عن الكلبي، وهو مشهور بالوضع. ولأن هذا الحديث لم نجد أحدا رواه في العصر الأموي مع أهميته؛ إنما روي عن الكلبي وحده في العصر العباسي، هذا إلى أن ما فيه من الصنعة الفنية؛ دليل على وضعه، بل عندنا من الأخبار الصحيحة ما ينقضه، ذلك ما يقوله قتادة، وهو من مشهوري التابعين؛ وهو كذلك: عربي صميم، من سدوس. قال عند تفسير قوله تعالى
অজানা পৃষ্ঠা