الفصل الرابع والعشرون
على أن الأمر بين سيدي وبيني لم يلبث أن تعسر بعد يسر، وتعقد بعد سهولة، واشتد بعد لين، فلكل شيء أجل، وللصبر أمد ينتهي إليه، وللمطاولة غاية تقف عندها، والمياسرة خير إلا أن تستحيل إلى ضعف وإذعان، وما ينبغي لسيدي أن يظهر مظهر الضعيف المذعن لخادم مثلي ليس لها حول ولا طول، وهي لا تأوي إلى ركن شديد، ولا تعتز بقوة تحميها من بأسه وتعصمها من سلطانه، وإنما هي كلمة منه تبقيها في داره عزيزة مكرمة أو تخرجها من هذه الدار ذليلة مشردة، وقد علق سيدي هذه الكلمة في طرف لسانه أياما وأياما، يهم بأن يرسلها حتى إذا بلغت شفتيه وكادت تتجاوزهما إلى الهواء الذي يحملها إلي ردت إلى مكانها واستقرت في موضعها من طرف اللسان استقرارا وأطبقت شفتاه من دونها إطباقا.
ومدت لي أسباب البقاء في هذه الدار يوما أو بعض يوم ريثما يخرج سيدي لبعض شأنه، ثم يعود فيدعوني إلى ما كان يدعوني إليه في هذا الإلحاح المتصل، المضحك المحزن، الذي يفسد على الرجل أمره ويظهره قويا كأنه الليث وضعيفا كأنه الفأر، عزيزا كأنه السيد وذليلا كأنه العبد، ويطلق لسانه بما شاء له الهذيان من هذه الكلمات الجوفاء التي يملؤها الاستعطاف حين تكون نذيرا ووعيدا، ويملؤها المكر والكيد حين تكون استعطافا واسترضاء، وتصور دائما نقيض معانيها الظاهرة، وتعبر دائما عما لم يرد صاحبها إليه، ويملأ نظراته بهذا الشرر المحرق حينا، ثم بهذا الانكسار الذليل حينا آخر، ويجعله يدور حول غايته التي يشتهيها وأمنيته التي يبتغيها، كما يدور العابد حول الصنم وكما يدور اللص حول البيت يبتغي ثغرة ينسل منها إليه!
نعم! كذلك كنت ألقى سيدي مع الصبح باسمة مشرقة الوجه، أحمل إليه قدح الشاي وبعض الفاكهة قبل أن يثب من سريره، وقد كان سيدي يحيا حياة الإنجليز، فلا أكاد أدخل عليه حتى ترتفع إلي عيناه وقد ملأتهما عواطف شديدة الاختلاف، ومعان عظيمة التناقض، فيها الحب وفيها البغض، فيها الأمل وفيها اليأس، فيها الوعيد وفيها الخوف، فيها الشهوة وفيها الزهد، فيها القرب وفيها البعد. وأنا أرى هذا وأحسه وأفهمه، ولكن؛ يا لقوة النساء! إني لأقبل عليه بالشاي والفاكهة والتحية كأني لا أرى شيئا، ولا أحس شيئا، ولا أفهم شيئا، ثم أنصرف عنه وفي نفسي ما فيها من الرضا، وفي قلبي ما فيه من الإشفاق؛ فقد كنت راضية عن نفسي وساخطة عليها، وقد كنت شامتة في سيدي ومشفقة عليه، وقد كنت أرضى لنفسي ما أنا فيه من الإطماع والامتناع، ومن القرب والبعد؛ لأعذب هذا الشاب الذي قتل أختي. وكنت أنكر على نفسي هذا كله، وأراه لعبا بالنار، وتكلفا للشر، وإمعانا في الإثم، وقد كنت أرى أني قد خلقت لنفسي جوا من الرذيلة أعيش فيه إذا أصبحت، وأعيش فيه إذا أمسيت، وأتنفس هواءه المنكر، وأبعث فيه سما زعافا. فما هذا الكيد الذي أكيده؟ وما هذا المكر الذي أمكره؟ وما هذا التفكير الآثم الذي أملأ به رأسي وقلبي؟! أصبح فأفكر في هذا الشاب لأغويه وأضنيه وأنغص عليه يومه، وأمسي فأفكر في هذا الشاب لأدنيه وأقصيه وأؤرق عليه ليله؛ وأنا فيما بين ذلك لا أنفك أفكر فيه، عاطفة مرة، وصادقة مرة أخرى، لينة حينا وقاسية حينا آخر.
هذا كثير! وأكثر منه أن تفرغ له فتاة كانت تستطيع أن تفرغ لما هو أطهر منه وأنقى، وأكثر من هذا وذاك أن يستسلم هذا الشاب لما يغمره من ضعف، ويتورط فيما يبث حوله من شباك، ويتعلق بفتاة مهما تكن فهي ليست شيئا، والفتيات غيرها كثير يستطيع أن يلتمسهن متى شاء وكيف شاء، وأي شيء أيسر من أن يرسل بستانيه إلى زنوبة أو إلى امرأة أخرى من أشباه زنوبة، فلا ينقضي اليوم حتى تكون عنده فتاة أو فتيات يختار من بينهن من يشاء! فما أكثر هؤلاء الفتيات اللاتي يلتمسن العمل في المدينة قد نشأن فيها أو انحدرن إليها من الريف كما انحدرت أنا منذ أعوام؛ ولكن نفس الإنسان ضعيفة حقا، وقوية حقا، لقد أقبلت علي نفس سيدي كما أقبلت على غيري تلتمس عندي الحب ولذاته وآثامه، فلما وجدت مني امتناعا عليه وصدودا عنه ونفورا ملحا منه، أعرضت عن الحب ولذاته وآثامه، أو أرجأت الحب ولذاته وآثامه وتعلقت بي أنا، تريد أن تقهرني وتغلبني على أمري وتنتصر علي، وتظفر مني بما تريد.
فسيدي لا يطلب عندي الآن حبا ولا لذة ولا إثما، وإنما يطلب إلي خضوعا وإذعانا واستسلاما. هو يريد أن ينتصر لا أن ينعم، ومن يدري! لعله إنما يؤجل إقصائي عن داره حتى يتم له النصر، ويتحقق له الفوز، فيخرجني ذليلة صاغرة قد آمنت له وأذعنت لسلطانه! ويكفي أن يخطر لي هذا الخاطر وإذا أنا مثله متعلقة بالعناد، ملحة في الخصام، قد نسيت الانتقام أو كدت أنساه، وأعرضت عن أختي وظلالها الحمراء أو كدت أعرض عنهن، ولم أتمثل إلا عدوا يريد أن يقهرني، ولا بد من أن أقهره، وسيدا يريد أن يبسط سلطانه علي، ولا بد أن أبسط سلطاني عليه.
وكذلك اتصلت حياتي في هذه الدار هادئة في ظاهر الأمر مضطربة أشد الاضطراب وأعظمه نكرا في حقيقة الأمر. ألقى سيدي باسمة ويلقاني باسما، ثم لا يتصل اللقاء بيننا حتى يستحيل الابتسام إلى عبوس، والرضا إلى سخط، وإذا هو يدعو فآبى، ويلح في الدعاء فألح في الإباء، ويغري فأرتفع عن الإغراء، وينذر فأستخف بالنذير، ويستعطف فأقسو على الاستعطاف.
ثم - ياللهول! - ماذا أرى؟ وماذا أسمع؟ وماذا أجد؟ هذا سيدي ماثلا بين يدي يتلطف ويترقق ثم يستعطف ويستجدي، ثم هذا هو جاثيا بين يدي كأنه يتقدم إلي بالصلاة، ثم هذا هو باكيا في صمت، ثم هذا هو مجهشا بالبكاء، وها أنا ذي أكاد أضعف ويكاد يأخذني الإشفاق لولا أن أجمع قوتي كلها ونفسي كلها وأدعو إلي أختي وظلالها الحمراء ألتمس منهن العون، وأستمدهن قوة إلى قوة.
وأمضي بعد ذلك فيما كنت فيه من إباء، ثم ينتهي الأمر بيننا إلى شيء يشبه الموادعة، وإذا أنا قد أخلصت له ولنفسي، وإذا هو قد أخلص لي ولنفسه، وإذا نحن نتحدث في هدوء وأمن واستقرار. فأما هو فقد استيقن اليأس وعجز عن احتماله، وأما أنا فأهون عليه الأمر مخلصة صادقة وأزين له الانصراف عني إلى من أحب وما أحب من الخليلات والخدم واللذات، وإذا نحن نتفق على أن نفترق، وإذا هو ينصرف عني على ألا يراني في الدار إذا عاد إليها، وأنا أقبل ذلك راضية عنه سعيدة به؛ فقد سئمت هذه الحرب وضعفت عن هذه الخصومة، وكرهت هذه الحياة التي تملؤها المطاولة والمحاولة، وتثقلها المهاجمة والمقاومة، وقنعت من الغنيمة بالإياب أو بشيء خير من الإياب، فسأخرج من الدار ظافرة بعض الشيء، أليس قد عجز هذا الشاب الجميل الوسيم المترف الغني القوي أن يبلغ مني ما بلغ من أمثالي؟ أولست أخرج من هذه الدار وقد جرعته مرارة الهزيمة وعلمته أن من فتيات الريف الساذجات الغافلات من يستطعن الثبات لأمثاله والامتناع على أصحاب الذكاء والجمال والترف والجاه والثراء؟! ولقد انصرف عني هادئا وقد أظهر الرضا، وفرغت لأمري أتهيأ للرحيل مزمعة ألا أرى زنوبة ولا ألقاها هذه المرة ولا أقيم في المدينة ولا أعود إلى أقصى الريف، وإنما آخذ قطارا من هذه القطارات التي تمضي إلى الشمال نحو القاهرة، أو إلى الجنوب نحو عاصمة الإقليم، فأرض الله واسعة ورزق الله ميسر لمن ابتغاه، وها أنا ذي قد حزمت أمري وجمعت متاعي الخفيف وصممت أن أخرج، ولكن البستاني موكل بالدار يمنعني أن أخرج منها ويحول بيني وبين الباب، وينبئني بأن سيده ألقى إليه أثناء انصرافه أمرا حازما صارما أن يحول بيني وبين الطريق، وأن يتكلف ما يستطيع وما لا يستطيع ليمسكني في الدار حتى يعود. وإذا فلم يكن جادا حين اتفق معي على أن نفترق، وإذا فلم يكن هادئا حين أظهر الهدوء ولا راضيا حين تكلف الرضا، وإنما كان ماكرا مخادعا. ومن يدري! لعله كان صادق العزم خالص الرأي، فلما انصرف عني تمثل الهزيمة وتمثل آثارها وأعقابها فأبت عليه نفسه أن يرسل هذه الفتاة ولما يخضعها لما أراد.
وقد استيأست أو كدت أستيئس من ذلك الخاطر الذي كان يعينني أول الأمر على المقاومة أو يغريني بها أو يدفعني إلى الإغراء والإطماع ثم إلى الإباء والامتناع! فقد كنت أعتقد أن لهذا الشاب في أربا. إنه يشتهيني كما اشتهى غيري من الفتيات، وإن امتناعي عليه قد زاده حرصا علي وتعلقا بي، ولست أكذب نفسي فكثيرا ما سألتها: أتري شهوته قد استحالت إلى حب؟ أما الآن فأنا مستيقنة أنه لا يحبني، بل لم يحبني قط، وأنه لا يشتهيني، ولعله يزدريني، وإنما يريد أن يقهر في عدوا متمردا وخصما عنيدا؛ فلألقين البأس بالبأس، ولألقين العناد بالعناد.
অজানা পৃষ্ঠা