أما أنا فقد انقطع عني صوتك أيها الطائر العزيز قليلا قليلا، وانقطع عني صوت خالي، ثم انقطعت عني الأشياء كلها أو انسللت من الأشياء كلها، وإني لأراني أمرض في بيت خشن حقير.
الفصل الحادي عشر
متى بلغت هذا البيت؟ وكيف بلغته؟ وأي طريق سلكت إليه؟ وكم من يوم أو كم من أسبوع لبثت فيه؟ وكم من يوم أو من أسبوع احتملت أثقال هذا المرض الذي أخذت غمراته تنجلي عني لحظات في كل يوم ثم لا تلبث أن تتابع وتتراكم ويركب بعضها بعضا وتأخذني من كل وجه فأجهل نفسي وأجهل من حولي: كل شيء وكل إنسان، ولا أحس ولا أرى حين أغرق فيها وحين أخرج منها إلا هذه الصورة المنكرة البشعة التي لا أذكرها قط إلا جرت في جسمي رعدة عنيفة مؤلمة وأخذ نفسي اضطراب لا حد له؟
أسئلة ألقيتها على نفسي ألف مرة ومرة، وسألقيها على نفسي ألف مرة ومرة، فلم أظفر ولن أظفر لها بجواب، وإنما أذكر صوتك أيها الطائر العزيز وهو ينحف في أذني، ويفنى قليلا قليلا كأنه صوت المودع يبلغ المسافر والقطار يبعد به عنه شيئا فشيئا، إنما أذكر ذلك الصوت البشع المجرم صوت خالنا الآثم وهو يتهدج ويبعد عني شيئا فشيئا في ثقل وبغض واشمئزاز.
إنما أرى قطعة من الليل تسعى إلي سعيا هادئا أول الأمر ولكنها تسرع شيئا فشيئا، وهذه الظلمات تتكاثف من حولي كأنها الأمواج العظام، وهذه الأصوات تنقطع وتبعد، وهأنا هذه يغمرني الموج وأدخل في الليل فلا أحس شيئا ولا أرى شيئا ولا أشعر بشيء، يا له من نوم عميق طويل! إن الأحلام قد ألحت عليه، فهي تروعني فيه ترويعا متصلا ليس إلى انقطاعه من سبيل.
أكنت نائمة؟ أكنت مستيقظة؟ أكنت مريضة؟ أكنت صحيحة؟ أكنت عاقلة؟ أكنت ذاهلة؟ لا أدري؛ إنما أعلم أني كنت شاعرة شعورا غامضا ولكنه قوي ملح كأني قد أقمت إلى ينبوع يتفجر أمامي من الأرض في مكان رحب، بعيد الآفاق لا يقوم فيه شيء، ولا تقع العين فيه إلا على هذا الينبوع وعلى ظل مقيم عنده لا يريم، وعلى ظلال أخرى تجيء كأنما أقبلت تزور هذا الظل، فهي تلم به حينا وكأنما تناجيه وكأنه يسمع منها وكأنه يرد عليها، وكأني أسمع نجوى هذه الظلال ولكني لا أحقق ما أسمع، وكأني أفهم نجوى هذه الظلال ولكني لا أتبين ما أفهم ... وأنا جامدة هامدة لا أحس ولا أرى إلا هذا الينبوع الذي يتفجر في غير انقطاع، وهذا الظل الذي لا يتحول عنه، وهذه الظلال التي تغشاه بين حين وحين. يا له من ينبوع كريه أود لو أحول عيني عنه، ولكن حمرته تجتذب عيني إليه اجتذابا! إنه لينبوع غزير، ولكنه لا يتفجر منه الماء، وإنما تتفجر منه الدماء، يا له من ظل حزين كئيب شاحب مسرف في الشحوب أحاول أن أغمض عيني وأن أغلق نفسي فلا أحس له محضرا، ولكن شحوبه يستهوي نفسي ولكن حزنه يمزق قلبي، ولكن انحناءه على هذا الينبوع يملؤني لوعة وروعة وابتئاسا! يا لها من ظلال تذهب وتجيء هادئة لا تكاد تشعر ولكن في حركاتها ما يملأ النفس جزعا وهلعا! ما لي لا أثبت عيني في هذا الظل المقيم، وما لي لا أثبت عيني في هذه الظلال المضطربة التي تذهب وتجيء؟ أنائمة أنا أم مستيقظة؟ أعاقلة أنا أم ذاهلة؟ ألست أتبين في هذا الظل المقيم ملامح أختي، فما لها إذن لا تكلمني ...؟ وما لها إذن لا تدعوني ...؟ وما لها إذن لا تناجيني؟ لقد عرفتها محبة لي، واثقة بي، مطمئنة إلي، فما لها لا تظهر لي شيئا من هذا الحب، ولا تبدي لي شيئا من هذه الثقة، ولا تبين لي عن شيء من هذا الاطمئنان؟ إنما هي مكبة على هذا الينبوع تنظر فيه كما تنظر الفتاة الجميلة في المرآة، عم تبحث في هذا الينبوع؟ أتراها تلتمس صورتها في هذا الدم المتدفق؟ وما لها لا تكلمني، أليست تراني؟ ما لها لا تجيبني، أليست تسمعني؟ ما لها لا ترق لي ولا تعطف علي؟ أليست تسمع هذا النداء الذي ينبعث من فمي باسمها في صيحات قوية عنيفة متلاحقة؟! إني لأسمع هذه الصيحات ولكني لا أرى من أختي أنها تسمعها، وكأن هذه الصيحات تخيفها وتزعجها! فهذا ظلها يستخفي وتستخفي معه الظلال الأخرى، ويستخفي معها الينبوع الأحمر، وهؤلاء أشخاص آخرون يسرعون إلي ويدنون مني ويستجيبون لي، فلا أكاد أنظر إليهم حتى أتبينهم، ثم أخافهم، ثم أبغضهم، ثم أتقي محضرهم بالصمت والهدوء ... إنهم أهل الدار قد سمعوا صياحي فأقبلوا يرفقون بي ويسألونني عما أجد.
إنهم أهل الدار، وما أشد بغضي لأهل الدار، إني لأرى بينهم أمي وإني لأكره أن أرى أمي، كلا! لأكف عن هذا الصياح لعل أهل الدار أن ينصرفوا عني فيجنبوني محضرهم الكريه؛ إني لآخذ نفسي بالصمت، وأكره نفسي على الهدوء، وما هي إلا لحظات صامتة هادئة حتى يسدل ستار ويرفع ستار، وهذا الينبوع الأحمر يتفجر من الأرض قويا غزيرا، وهذا ظل أختي ماكثا لا يريم، وهذه الظلال تذهب من حوله وتجيء، إن لي بهذه الظلال لعهدا، لقد رأيتها ولقد سمعت عنها حديثا، لقد حدثتني عنها أختي في تلك الليلة التي قضيناها مروعتين حين أقبل خالنا يدعونا إلى سفره الآثم.
نعم إن لي بهذه الظلال الحمراء ظلال مارتا وأمينة وملزمة تلك التي كانت تتراءى لنا فتملأ قلب أختي فرقا وهلعا وروعا ... إن لي بهذه الظلال لعهدا، وإني لأعرفها، وإني لأفهم الآن إلحاحها بالزيارة على هذا الظل المقيم، لقد أقبلت تحييه وتواسيه وتبثه ما وجدت من ألم وحزن، وتسمع منه ما وجد من شقاء وبؤس. إن نجوى الظلال لغريبة ... ليتني استطعت أن أفهمها، ليتني استطعت أن أستحيل ظلا فأفهم حديث الظلال! ما بال أختي لا تناجيني، أتراها لا تحس محضري، أم تراها لا تعرف كيف تتحدث إلي أو تفهم عني؟ أتتغير لغة الناس إذا ماتوا؟! لقد حدثونا أن للموتى حديثا يلقونه إلى الأحياء فيفهمه عنهم الأحياء ...
إني لأعرف هذه الظلال، لقد كنت في ضلال إذن حين كنت أزعم لأختي في بعض الطريق أن الأشباح بنات الليل، وأنها تكره ضوء النهار ولا تستطيع أن تظهر فيه؛ والظلال ملحة في المثول أمامي لا يصرفها عني مطلع النهار ولا يصرفها عني مقدم الليل، إن الظلال إذن لا تهاب نورا ولا تألف ظلمة، ولعلها لا تعرف نورا ولا ظلمة وإنما نحن يغشينا ضوء النهار فلا نرى الظلال التي تحيط بنا وتضطرب من حولنا وترى كل ما نأتي وتسمع كل ما نقول، ولعلها ترثي لنا، ولعلها تسخر منا، ولعلها لا تفهم عنا شيئا كما أننا لا نفهم عنها شيئا، يا للهول إن تدفق الينبوع ليشتد، وإن الدم لينتشر من حوله انتشارا، وإن الحمرة لتصبغ كل شيء من حولي، وإن هذه الظلال لتدنو مني كأنها قد عرفتني وكأنها تريد أن تقبلني! يا للهول، إن الروع ليملأ قلبي، وإن الصياح ليتفجر من فمي فيملأ الجو من حولي كما ينفجر الدم من الينبوع فيصبغ الأرض بحمرته، وإن أهل الدار ليقبلون علي، منهم الجزع، ومنهم المطمئن، وهم يرفقون بي ويعطفون علي ...!
وهذه أمي، يا للهول! ما أسمج هذا الوجه وما أقبح هذه الصورة وما أشد بغضي لهذا المحضر! إنها لتدنو مني وإن الدم ليجمد في عروقي لمقدمها، إنها لتضع على رأسي خرقة مبللة وإني لأجد لبرد الماء شيئا من الراحة، ولكن لينصرف عني هذا الوجه فإني أكره أن أراه، لترد عني هذه المرأة فإني لأخشى أن تقتلني ... وكيف أخلص منها وكيف آمن محضرها إلا إذا آويت إلى الصمت ولجأت إلى الهدوء؟ إنه لعذاب أليم هذه الحياة بين الينبوع الأحمر والظلال المطيفة به إن آثرت الهدوء، وبين أهل الدار وهذه المرأة البغيضة إن آثرت الصياح، أليس لي سبيل إلى الراحة من هذا العناء؟ ما أكثر ما طلبت وألححت في طلبها، وما أكثر ما فرت مني وامتنعت علي، وما أكثر ما خيل إلي أني أجري في إثر شيء أتمناه أشد التمني وأحرص عليه أعظم الحرص وأجد في طلبه كل الجد، حتى إذا بلغته أو كدت أبلغه كانت منه وثبة فإذا المسافة بيني وبينه واسعة وإذا الأمد بينه وبيني بعيد، وإذا أنا معذبة أشد العذاب بالاضطراب الملح المضني بين وجوه أهل الدار التي أكرهها، وهذه الظلال التي يؤذيني منظرها ويثير في نفسي ألما لا آخر له ...
অজানা পৃষ্ঠা