هل أستطيع أن أرد ما بينهما إلى طبيعة الصلة بين الأم البائسة والابنة المحزونة؟ بل هل أستطيع أن أعيد الأمر بيننا إلى شيء مما كان عليه قبل هذه الكارثة من هذه المودة السهلة التي لا تكلف فيها ولا تصنع ولا رياء؟ بل هل أستطيع قبل كل شيء أن أعلم أين نحن وإلى أين نمضي، وماذا تريد بنا أمنا هذه التي تأمر وتنهى في لهجة حازمة صارمة وإيجاز مقتصد لا يقبل حوارا ولا جدالا؟ ذلك أجدر أن أفكر فيه، وأحرى أن أسعى إليه، فلأتبعن أمي إذن ولأتلطفن لها، ولأسألنها في أناة ومودة ورفق حتى أعلم علمها، ثم أنظر بعد ذلك فيما آتي، أو فيما يمكن أن نأتي من الأمر.
كل هذه المعاني تضطرب في نفسي، وعيني لا تكاد تفارق هذا الوجه الهادئ الذي يدل هدوءه على أن أختي ما زالت في تلك الأعماق البعيدة التي كنت فيها منذ حين، لم يبلغها ضوء الشمس وحرها، ولم يؤذها مس الأرض وغلظها، ولم يصل إليها اضطراب الدواجن وما تملأ به الجو من نشاط ومرح وصياح.
فأنهض متثاقلة مترفقة حتى أهبط فناء الدار ألتمس أمنا، وما كان أيسر الوصول إليها! فقد اعتزلت غير بعيد من السلم وجلست منحنية تعبث في الأرض بأصابعها عبثا يدل على شيء من الذهول، كأنما كانت تناجي هما ثقيلا أو تتبع خاطرا بعيدا؛ حتى إذا بلغتها مسست رأسها بيدي وسألتها مداعبة: ما هذه اللعبة التي تلعبين؟ وهلا دعوتني لأكون شريكتك في اللعب؟! فإن مثل هذه اللعبة لا تستقيم إذا انفردت بها لاعبة واحدة ...
قالت وقد رفعت إلي رأسا حزينا: أترينني ألعب يا ابنتي؟ قلت: فما عسى أن تفعلي بهذا التراب الذي تذهب فيه أصابعك وتجيء؟
ثم أنهضتها فلم تمتنع علي، ومضيت بها إلى ناحية من الفناء لا يكثر فيها اضطراب الأضياف، ونظرت إليها فإذا هي تنقاد إلي مستسلمة، وإذا حزنها العميق وحنانها القوي قد فاضا على وجهها الشاحب فألقيا عليه مثل وداعة الأطفال.
هنالك أحسست من نفسي قوة، وشعرت كأني أنا الأم «زهرة» وكأنها هي الفتاة «آمنة»، فاتخذت صوتها ولهجتها وألقيت عليها في غير تكلف هذه الأسئلة: ماذا تريدين؟ وماذا تصنعين؟ وأين تذهبين بنا؟
قالت وقد انحدرت دموعها: لا أصنع شيئا، ولا أدري أين أذهب بكما، وإنما أريد أن أنأى بكما عن هذه المدينة الموبوءة، قلت: ولكن إلى أين؟ قالت: سنرى، قلت: ومتى نرى؟ قالت: لا أدري، قلت: فقد ينبغي أن تدري؛ فما يحسن بثلاث من النساء أن يهمن في الريف على وجوههن، تلفظهن قرية وتتلقاهن قرية أخرى، يؤويهن هذا العمدة وقد يردهن ذاك، قالت: فبماذا تشيرين؟ قلت: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين تلك الدور التي كنا نحيا فيها حياة أمن وهدوء ...
وهنا أخذتها رعدة قوية وقالت في غضب وحدة: أي أمن وأي هدوء! إنك إذن لم تعلمي، قلت: بل علمت، قالت: وقد اجترأت البائسة على أن تلقي إليك هذا الحديث! ألم يكفها ما اقترفت من الإثم، وما انغمست فيه من الدنس حتى أرادت أن تكوني لها شريكة! قلت في رفق: دعيها وما هي فيه الآن وعودي بنا إلى ما كنا فيه: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين ما كنا نستعين به على الحياة من عمل، فإني أرى أن نلتمس العمل في قرية من هذه القرى عند غني من هؤلاء الأغنياء، قالت: لقد فكرت في هذا، ولكني أرى أن ليس إليه من سبيل! فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها إذا لم يحمها أب أو أخ أو زوج، قلت: فليس لنا أب ولا أخ ولا زوج! قالت: بل لنا من يحمينا، وقريتنا التي نفينا عنها أحق بنا ونحن أجدر أن نعود إليها، ولئن بلغناها ليعلمن الذين جفونا ونفونا أن من العار أن تنفي الأسر نساءها وكرائمها! فالمرأة عورة يجب أن تستر ، وحرمة يجب أن ترعى، وعرض يجب أن يصان.
قلت: فأنت تريدين إذن أن تعودي إلى تلك الحياة البائسة التعسة التي كنت تحيينها بين قوم لا ينظرون إليك إلا شزرا، ولا يعطفون عليك إلا كرها، ولا يتحدثون عنك إلا في سخرية، ورحمة شر من السخرية؟! قالت: نعم! فكل هذا أهون مما لقينا، وكل هذا أهون مما يمكن أن نلقى إن مضينا في هذه الحياة الهائمة التي لم نخلق لها ولم تخلق لنا، ولقد انقطعت تلك الأسباب التي كانت تدعو إلى جفاء الأسرة وإعراض ذوي القربى وسخر الأعداء ورثاء الأصدقاء، لقد انقطعت تلك الأسباب وبعد بها العهد، ولئن بلغنا قريتنا ليذكرن الناس بعض أمرنا حينا من الدهر، ثم لا يلبثون أن ينسوه وأن ينسونا، ولا نلبث نحن أن ننغمس في حياتنا الأولى ونعيش بين أهلنا بائسات، ولكن آمنات ...
قلت: وتريدين أن نبلغ هذه القرية ساعيات على أقدامنا، نتنقل من ريف إلى ريف، ونستضيف هذا يوما وذاك ليلة، وقد أعجلتنا بالرحيل عن كل أمرنا، فتركنا متاعنا وما اجتمع لنا عند من كنا نعمل عندهم! قالت: سترين، فلن ينالكما جهد، ولن يمس حياءكما أذى، سنقيم هنا حتى يأتي من يحملنا إلى قريتنا ويبلغنا مأمننا بين الأهل والأصدقاء.
অজানা পৃষ্ঠা