وعلى هذا الوجه يرى «عابر السبيل» شعرا في كل مكان إذا أراد: يراه في البيت الذي يسكنه، وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية، ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل؛ لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية، وكل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور، صالح للتعبير، واجد عند التعبير عنه صدى مجيبا في خواطر الناس.
وعندي أننا في حاجة - نحن أبناء العصر الحاضر - إلى هذا التوجيه؛ لإنقاذ النفس الإنسانية لا لإنقاذ الملكة الفنية وحدها، فإننا إذا تعودنا العناية بالأشياء؛ وجدنا فيها ما يستحق العناية، وينفض عن النفس تلك التفاهة، التي غلبت على الحياة وعلى الشعر والفن في هذه الأيام الحديثة.
ومن الواضح أن التفاهة إنما تغلب على النفس وعلى الشعر لسببين: أحدهما: أن أبناء هذا العصر - ولا سيما في أوربا - فقدوا الإيمان بالمثل العليا والعقائد الراسخة والفضائل الروحية، وفترت نفوسهم من هذه الناحية؛ فلا يصغون إلى الشاعر الذي يتغنى لهم بهذه المعاني المهجورة، ولا يظنون أن هناك أحدا يصدقها أو يغتر بدعواها، ومن حدثهم في أغراضها التفتوا إليه ساخرين مستريبين، كمن يلتفت إلى محتال يحاول أن يمد يديه إلى كيس نقوده، وإن كثيرا من الشعراء والكتاب ليصطنعون «التفاهة» اصطناعا؛ ليدفعوا عنهم ريبة الاحتيال، ويظهروا للناس أنهم أفلتوا من أوهاق هذه الخديعة.
والسبب الآخر الذي وسم الشعر الأوربي الحديث بسمة «التفاهة» هو «آداب الصالونات» الشائعة، واعتبار الجمهرة الغالبة من الشعراء والكتاب أن العلاقة بين الشاعر وقارئه كالعلاقة بين جلساء «الصالون» أو جلساء الفراغ، الذين لا يتحدث الواحد منهم إلى صاحبه إلا فيما لا يهم، ولا يثير الخاطر ولا ينفذ إلى ما وراء الظواهر؛ فلا تكون العلاقة بين جلساء الصالون علاقة معلم وتلميذ، أو علاقة صفيين يتكاشفان بلواعج الضمير وهموم السريرة، ولا يعد من الذوق عندهم أن يخرج الإنسان من الثرثرة العامة إلى الدخائل الخاصة والشواغل المطوية.
ولقد كان التهجم العصري خليقا أن يقضي على آداب الصالونات، كما يقضي «السبورتسمان» على «الجنتلمان»، لولا أننا في عصر تفككت فيه روابط المجتمع، وضعفت الأواصر الإنسانية التي قدستها الأمم الماضية زمنا طويلا؛ فجاء التهجم العصري مقرونا بالأنانية، التي لا يشغلها شاغل من الدنيا غير: إشباع اللذة، وقضاء اللحظة العابرة، والإعراض عما وراء ذلك من الأحاديث والتعلات، فلا فرق إذن بين أحلاس «الصالونات» الذين يتكلمون فيما لا يهم؛ مجاراة للعرف والكياسة، وبين المتهجمين العصريين الذين يتكلمون فيما لا يهم؛ لأنهم لا يهتمون، ولا يحبون أن يهتموا؛ والتفاهة من ثم غالبة على هؤلاء وهؤلاء.
فإذا تعودنا أن نشعر بما حولنا حق الشعور، وأن نخلع على اليوم الحاضر ما كنا نخلعه على الزمن الماضي من سرابيل الجمال والخيال؛ استطعنا أن نقشع عن أبصارنا غشاوة الماضي، دون أن نجعل التفاهة نتيجة لازمة لانقشاع تلك الغشاوة.
فإن كنا لا نصدق بواق الواق، فلنصدق بالبيوت، وإن كنا لا نصدق بالأبطال، فلنصدق بالرجال، وإن كنا لا نصدق بالحب النادر، فلنصدق بالحب الشائع، وإن كنا لا نحلم فلنشعر، أو كنا لا نجعل الحلم واقعا، فلنجعل الواقع حلما، ونحن غير مخدوعين ولا سائمين.
لماذا يكون الحاضر وقفا على خرافات الماضي أو على أحلامه وأمانيه؟ إن زهرة هذا الربيع لا تنضر؛ لأن زهرة نضرت قبل ألف عام، وإن الإنسان ليستطيع أن يحيا اليوم وأن يشعر بالدنيا؛ لأنه تحت الشمس وفوق الأرض وبين الناس، وإن كان لا يحب الدنيا للمزايا الصحيحة أو المكذوبة التي أحبها من أجلها أسلافه وسابقوه.
تلك رسالة هذا الديوان الجديد «عابر سبيل»، وهو اسم يدل على مرماه، ولست أقول إنه أدى هذه الرسالة، ولكني أرجو أن يقنع القراء بأنها رسالة قابلة للأداء.
عباس محمود العقاد
অজানা পৃষ্ঠা