في قلب لم يعرف الحب
وكان الشاب الذي ألقى على عمه الشيخ تلك الأسئلة في نحو الثلاثين من العمر وقد جاء سائحا لمشاهدة هذه المدن الثلاث التي سمع بها من بلده، وكان رجلا قد درس علوم المتقدمين والمتأخرين ووقف على المبادئ القديمة والحديثة وصار يطلب ضالته بينها على غير فائدة، فلا المدنيات القديمة كانت تعجبه لأن حقوق الضعفاء كانت مهضومة فيها وبناءها قائم على القوة والعنف، ولا المدنيات الحديثة كانت ترضيه لأنها جعلت الحياة عراكا هائلا وجهادا عظيما بين الناس، وكان وهو في المدرسة قد لمح في ذهنه عصرا يسميه مؤرخو اليونان العصر الذهبي، ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي، فبقي منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها، فلما سمع بهذه المدن الثلاث ومعيشة سكانها في وسط الطبيعة معيشة خالية من أدران الاجتماع ورذائله خيل له أنها بداية العصر الذهبي الموعود به الإنسان في الأرض
1
فقال في نفسه: فلنذهبن لمشاهدة تلك البقعة التي ابتدأ بها العصر الذهبي فإنه قد آن للإنسانية في الأرض أن تصل إليه وتجد شيئا من الراحة بعد جهاد القرون الماضية.
لكن لما سمع الشاب ما حدثه به الشيخ عن نزاع تلك المدن الثلاث سقط أمله وخاب ظنه، على أنه كان من الذين يستفيدون من كل شيء، فقال في نفسه: إنني مولع بدرس كل ما له علاقة بتنازع المال والعلم والدين، فربما قدرت في هذه المرة على اكتشاف أسرار جديدة بهذا الشأن، بل ربما كان تنازع هذه المدن الثلاث المنصوبة إحداهما تجاه الأخرى كمنجانيق للحرب مؤديا إلى حل لهذه المشكلة القديمة.
وبينما كان الشاب يفكر في هذه الأمور إذ سأله الشيخ: متى تدخل إلى هذه المدن يا ولدي حليم؟ فأجاب الشاب: سأدخلها غدا، فقال الشيخ: وهل تعرف فيها أحدا يا بني؟ فتنهد حليم وأجاب مبتسما: كلا، فقال الشيخ: لقد رابني في جوابك شيئان: تنهدك وابتسامك، فأصدقني، فزاد حليم في الابتسام وقال: وما يمنع من أن أصدقك لو كنت أعرف فيها أحدا.
إلا أن حليما لبث بعد هذا الجواب مبهوتا، وقد تنهد هذه المرة تنهدا لم يدع عمه الشيخ يشعر به وشخصت عيناه حينئذ إلى المدينة الشرقية، مدينة المال، ثم انتقلت من مدينة المال إلى حديقة واقعة تجاه القرية على شاطئ النهر عند مدخل السهل، ولما وقع نظره عليها أغمض عينيه كما يغمضهما من لا يريد أن ينظر ما أمامه أو من يريد أن ينظر في داخله صورة نفيسة مخبوءة فيها، وكان غرض حليم الأمرين معا.
وكان مع حليم رفيق أكبر منه سنا وأضخم منه جسما، فلما شاهد حركاته هذه ابتسم له، فتوردت وجنتا حليم لهذا الابتسام لأنه فهم معناه، فخشي رفيقه أن يكون قد أساء إليه بهذه الإشارة فمال نحو أذنه وهمس فيها قائلا على سبيل المداعبة: أما تظن أن العصر الذهبي قد ابتدأ.
فازدادت حمرة حليم وأجاب صديقه ضاحكا: مهما كان في عبارتك من التهكم فإنها مقبولة لأنها اختراع حليم.
فقال له صديقه على سبيل المداعبة أيضا: أنت أجمل يا صاح، ولكن لا تله نفسك الآن بهذا الكلام عن الأمور المهمة، ثم أشار نحو الطريق.
অজানা পৃষ্ঠা