দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
ثم ينتقل تيلور إلى زمرة أخرى من الأرواح غير الإنسانية. فإذا كانت أرواح الموتى من البشر تمارس تأثيرها في المجتمع الإنساني، فإن هناك أرواحا من نوع آخر تفعل في مظاهر الطبيعة الأخرى، وتتسبب فيما يبدو لنا من دينامية وحركية وتأثير في هذه المظاهر. فالبدائي، كما يرى تيلور، لا يستطيع التفريق بين المواضيع الحية وغير الحية، شأنه في ذلك كشأن الطفل الذي ينظر إلى كل ما حوله نظرته إلى كائن حي؛ لأن خبرته الأولى قد تشكلت عن مواجهته مع الكائنات الحية؛ فهو يعزو إلى الجمادات روحا كروح البشر ويسقط عليها تلك الثنائية التي تصورها في الإنسان. من هنا فإنه يجد في الروح الحالة في الجمادات السبب الكامن وراء سلوكها؛ فإذا تحرك الهواء فلأن به روحا تحركه، وكذلك مجرى الماء ونمو النبات وشروق الشمس وحركة الأجرام العلوية؛ وبذلك وسع البدائي نظرته الأرواحية لتشمل العالم من حوله، فصار كونا حيا تسكنه الأرواح من كل نوع وتحركه وفق مشيئتها، واقترنت ديانة الأرواح مع ديانة الطبيعة في أصولها ومنابتها.
لقد واجهت الأرواحية كثيرا من النقد منذ بداياتها الأولى. ولسوف أركز فيما يلي على النقد الذي وجهه إليها إميل دوركهايم؛ لأنني سوف أتبنى جانبا مهما من نقده هذا، وأكمله استنادا إلى المعلومات الجديدة التي زودتنا بها علوم ما قبل التاريخ حول معتقدات العصر الحجري الحديث، التي عثرت فيها على البدايات التاريخية الأولى لعبادات الأسلاف؛ وذلك لغرض استكمال وجهة نظري المتعلقة بعبادة الأسلاف وأصل الآلهة.
يرى دوركهايم
7
أن الأرواحية قد أدت خدمة جلى إلى علم الدين وإلى تاريخ الأفكار بشكل عام؛ لأنها أخضعت فكرة الروح إلى التحليل التاريخي، واستقصت مصادر هذه الفكرة في حركة فكر الإنسان وخبرته المباشرة، بعد أن كانت بدهية من بدهيات الوعي لدى الفلاسفة. ولكنه يرى استنادا إلى دراسة معمقة للأديان البدائية، وخصوصا ديانة الأستراليين، أن فكرة الروح تأتي كناتج من نواتج الدين، وليست بأي حال من الأحوال المصدر الأصلي لنشوء الدين كما يقول تيلور. ويرتكز نقد دوركهايم للدور الذي تعزوه النظرية الأرواحية للأحلام في تكوين فكرة الروح، على عدد من النقاط المنطقية؛ فإذا كان التعليل الأصلي للأحلام قد جاء فعلا على الصورة التي بينتها الأرواحية، فإن هذا التعليل ينبغي أن يبدو وكأنه الوحيد الممكن بالنسبة للإنسان القديم، أو على الأقل أن يكون الأسهل والأقرب إلى آلية تفكير ذلك الإنسان، الذي لم يكن يلجأ إلى إعمال الذهن إلا مضطرا. ولكن الأمر لم يكن كذلك أبدا؛ فلقد كان من الأهون على العقلية البدائية والأقرب إلى منطقها، أن تفترض في النائم مقدرة على الاستبصار، فيرى أماكن نائية وأشخاصا غائبين، دون أن يكون مضطرا إلى ابتكار مفهوم معقد حول انقسام الإنسان إلى صنوين، ينتزع أحدهما نفسه من قرينه عند النوم لكي يهيم في الأجواء. فإذا فرضنا جدلا أن الإنسان القديم قد لجأ فعلا إلى هذا الحل المعقد، الذي لا يطرح نفسه بسهولة على الذهن، فكيف استطاع بالتالي أن يعلل الأحلام التي يرى فيها مجددا أحداثا ماضيات، فيتكرر أمامه أمر حصل في الأمس أو في العام الفائت أو ربما في أيام الطفولة؟ وهل تتحرك الروح في الزمان جيئة وذهابا كما تفعل في المكان؟ وإذا كانت رؤيته للأصدقاء والأقارب الأحياء في النوم تأتي بفعل لقاء روحه الهائمة بأرواحهم، كما يعتقد، فهل لم يسأل واحدهم في الصباح صديقا رآه في منامه، ليكتشف أن هذا الصديق لم يشاركه الحلم ذاته، وأن روحه كانت تجوس في أمكنة بعيدة عنه؟ إن ما تقود إليه هذه التساؤلات هو أن البدائي الذي عزا إليه تيلور هذه المقدرة التحليلية أمام ظاهرة الحلم، لا يمكن أن نعزو إليه في الوقت نفسه هذه البلادة التي تمنعه من الافتراض بأن الأحلام ليست سوى هلوسات وخداع حواس. والنتيجة الأولى التي يتوصل إليها دوركهايم، هي أن فرضية الروح لم تكن الحل الأمثل بالنسبة للبدائي، ولا بد أن يكون الإنسان قد توصل إليها عن طريق آخر.
استنادا إلى المعلومات الموثقة عن الميلانيزيين والأستراليين، يرى دوركهايم أن فكرة انتقال الروح أثناء الحلم موجودة لدى الشعوب البدائية، إلا أن هؤلاء الناس يميزون بين الأنواع العديدة لأحلامهم، وهم لا يفسرونها دوما بالطريقة نفسها؛ فالميلانيزي يعزو نوعا معينا من أحلامه فقط إلى تجوال الروح خارج الجسد، وهو النوع الذي يلهب الخيال بقوة وعنف، أما بقية الأحلام فله فيها تفسيرات أخرى. والأسترالي يفرق بين الأحلام العادية التي يعتبرها من تهيؤات الخيال، وتلك التي يعرض له خلالها شبح صديق ميت، ويعتبرها نتاج تدخل من قوة غير مرئية، ويعتقد فعلا أن روح الميت قد غادرت واقتحمت عالم الأحياء. غير أن هذا التعليل الذي يقول به البدائي ليس الأساس الذي قامت عليه فكرة الروح عنده، بل العكس هو الصحيح؛ إذن لا بد من وجود أفكار سابقة وراسخة عن الروح وعن عالم الأموات ليستند إليها في تفسيره لهذا النوع من الأحلام، ولا بد أنه قد توصل إلى معتقد الأرواح عن طريق خبرات عاطفية وتأملات ذهنية مختلفة تماما عن خبرة الأحلام.
ثم ينتقل دوركهايم بعد ذلك إلى بحث حجر الزاوية في النظرية الأرواحية، وهو قدسية عالم الأرواح، ويتساءل عن مصدر القداسة التي أسبغت على الروح وعلى عالم الأرواح. إن مفهوم الروح الفردية التي عاشت في جسد ما ثم استقلت عنه عند الموت، لا يكفي في حد ذاته لتأسيس عبادة الأسلاف، فمن أين اكتسبت الروح هذه القدسية التي تسبغها عليها المعتقدات الأرواحية؟ ومن أين جاءتها هذه القوة الخارقة للمعتاد؟ يقول أتباع النظرية الأرواحية بأن الموت هو سبب التحولات العميقة التي طرأت على الروح المتحررة. ولكن بأية قدرة يستطيع الموت إحداث هذا التغيير الجذري في طبيعة الروح، فينقلها من شبح حيوي يتجول على هواه أثناء النوم، إلى شيء ذي طبيعة قدسية، ومركز لإثارة عواطف دينية قوية؟ إن الروح، وقد حررها الموت من جسد معين، سوف تنشط بالطريقة التي كانت تنشط بها ليلا عندما كانت قرينة جسد مادي، مع بعض الحرية التي اكتسبتها بالاستقلال، وسوف تبقى خصائصها وأفعالها من نوع وطبيعة خصائصها وأفعالها السابقة؛ لأن واقعة الموت لم تدخل في الحقيقة أي تعديل جوهري عليها، فلماذا اعتبر الأحياء تلك الأشباح التي سكنت أجساد رفاقهم السابقين، كائنات فوق مستواهم والمستوى الطبيعي عامة؟
ويوجه دوركهايم النقد ذاته لمفهوم حيوية الطبيعة والأرواح الحالة في موضوعاتها، وما يتبع ذلك من تفسير عبادة قوى الطبيعة، باعتبارها إسقاطا لفكرة الروح (التي تم تأسيسها في المجال الإنساني) على المجال الطبيعي؛ فهذا النبع أو ذاك النهر أو تلك الشعلة، هي بطريقة ما صنو للإنسان، طالما أنها مؤلفة مثله من جسد وروح، فما الذي دفعه إلى إعلاء بعضها واعتبار البعض الآخر كائنات فوق طبيعانية؟ ثم ينتهي دوركهايم إلى النتيجة المنطقية لنقده، وهي أن القداسة التي تمتعت بها الروح لدى البدائي قد جاءت من مصدر آخر خارج عنها، والجماعات الإنسانية الأولى لا بد وأنها كونت لنفسها مفهوما واضحا عن القداسة وعن العوالم القدسية، قبل أن تنتقل إلى تقديس الروح؛ أي إن العوالم الدينية قد سبقت معتقد الأرواح، وهي التي أعطت هذا المعتقد صفته الدينية.
عند هذه النقطة من تفكير دوركهايم الصائب وبصيرته الثاقبة، وهي النقطة التي أتفق حولها معه تماما، فإني أفترق عنه في تفسيره المجتمعي لفكرة المقدس،
8
অজানা পৃষ্ঠা