দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
لقد اخترنا في البداية أن نستكشف عالم الديانات البدائية البسيطة (والبساطة هنا ليست صفة سلبية بل إيجابية) بحثا عن المعتقد الأصلي الذي يكمن في أساس كل الديانات، ووجدنا أنه إذا كان هنالك فعلا ديانة بدائية في حالتها الصافية التي لم تهل الحضارة فوقها ركاما فكريا مصطنعا، فإن هذه الديانة هي ديانة العصر الحجري، ثم توصلنا من خلال تحليلنا للشواهد التشكيلية وبقايا المغاور والمدافن، إلى إعادة بناء المعتقدات والطقوس الدينية للإنسان الأول. فمنذ بزوغ عصر النياندرتال، أحس الإنسان في أعماق نفسه وفي آفاق العالم الطبيعي بحضور إلهي كلي ينبي عن نفسه للمشاعر والأحاسيس قبل العقل. وكما يهز هذا الحضور الإلهي أركان النفس بقوة لا نستطيع لها دفعا، كذلك يعبر عن نفسه في شتى مظاهر الطبيعة من خلال قوة تصدر عنه وتنتج كل حركة وحياة في الكون. ولقد صاغ الإنسان هذا الإحساس في معتقد يقسم الوجود إلى مستويين؛ مستوى طبيعاني معاين، ومستوى قدسي فوق طبيعاني لا مرئي يتخلل بقوته المستوى الأول ويجمعه إليه.
والمستوى القدسي لا يتلخص في شخصية إلهية تسكن السماء أو أية جهة من جهات الكون. إنه عالم مواز أو مجال غير معين، وقوته هي أيضا قوة غفلة غير مشخصة أقرب إلى السيالة الطاقية بالمفهوم العلمي الحديث. ولما وجد الإنسان في الطقوس الدينية وسيلة تضعه في تناغم مع عالم اللاهوت، وتعمق إحساسه بوحدة مستويي الوجود، فقد كان لا بد له من شارة مقدسة ترمز إلى الألوهة وتجعلها حاضرة في عالمه، يتوسل من خلالها إلى الحقيقة الكبرى التي لا تؤطرها هيئة مادية، فاختار شاراته المقدسة من وسطه الطبيعي، ومن فصيلة الحيوان التي عقد معها نوعا من القرابة الروحية. وقد أوضحنا أن ما يدعى ب «عبادة الحيوان» هو أمر من ابتكار مخيلة بعض مؤرخي الأديان، ونفينا أن يكون الإنسان قد تعبد للحيوان في أي عصر من عصوره الغابرة، كما أنه لم يتعبد لأية ظاهرة طبيعية إلا بمقدار ما تشف هذه الظاهرة عن القوى الكبرى.
الفصل الرابع
مانا والروح الكبرى في معتقدات الشعوب البدائية
إن أول خطوة منطقية في دراسة معتقدات الشعوب البدائية، هي أن نبدأ بتفحص معتقدات أكثر هذه الشعوب بدائية وبساطة. ولما كان الإجماع قائما بين الباحثين على اعتبار سكان أستراليا الأصليين أكثر الشعوب المعروفة لنا بدائية وبساطة في التنظيم الاجتماعي، فإن دين هؤلاء سيكون محطتنا الأولى بعد أن تخطينا العصر الحجري الحديث. (1) المبدأ الطوطمي
يقوم التنظيم الاجتماعي للقبائل الأسترالية على وحدة مكونة أساسية هي العشيرة (=
clan )، ويتميز هذا النوع من التنظيم عن غيره من التنظيمات التي تبدو مشابهة لأول وهلة، بأن أفراد العشيرة يعتبرون أنفسهم أعضاء في عائلة واحدة تجمعهم قرابة من نوع خاص، تنشأ عن حملهم جميعا لاسم واحد اختاروه لأنفسهم، هو في الوقت نفسه اسم لفصيلة من الحيوان في أغلب الأحيان، أو لفصيلة من النبات في بعضها. وهذا الاسم المختار هو وقف عليهم فقط لا تشاركهم فيه مجموعة أخرى قريبة أو بعيدة، إنه طوطم العشيرة، والاسم الذي يتكنى به كل فرد من أفرادها. وعندما نقول إن الطوطم هو اسم لفصيلة، فهذا يعني أن الطوطم ليس حيوانا بعينه، كأن يكون هذا الكنغر أو ذاك، بل إنه هذه الفصيلة أو تلك بمجملها وبكامل أفرادها. وبما أن الفصيلة الحيوانية تبقى قائمة بصرف النظر عن موت عناصر منها وحلول أخرى بالولادة، كذلك الأمر في العائلة الطوطمية الإنسانية التي تضم جميع الأفراد الأحياء منهم والأموات، وصولا إلى الجدود الأول المؤسسين.
1
ليس التنظيم الطوطمي بالشأن الأسترالي حصرا، بل تشارك فيه مجتمعات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية. وفي الواقع، فلقد تم التعرف على ملامح هذا التنظيم الاجتماعي لأول مرة في أمريكا لا في أستراليا، ومصطلح الطوطم بالذات هو مصطلح مأخوذ من إحدى لغات الهنود الحمر، وجرى فيما بعد تعميمه واستخدامه على نطاق واسع في أمريكا وأستراليا على حد سواء. ومع أن المجتمعات الهندية في أمريكا قد قطعت شوطا واسعا في مضمار التقدم عن الجماعات الأسترالية الأقرب إلى مرحلة النياندرتال، فإنها قد بقيت ضمن الخطوط الأساسية للتنظيم الطوطمي، وهذا ما يدفعنا إلى اعتبار الثقافتين بمثابة مرحلتين متتابعتين في سياق تطوري واحد للمجتمعات الطوطمية، ويضفي مشروعية على بعض المقارنات الضرورية أحيانا بين الجماعات الأسترالية والجماعية الهندية في أمريكا الشمالية.
لا يشكل الطوطم بالنسبة للجماعة اسما فحسب، بل هو شارة أو شعار يشبه ما كانت أسر النبلاء في أوروبا العصور الوسطى ترسمه على الدروع والأعلام؛ فزعماء الهنود الحمر كانوا يمهرون معاهداتهم مع البيض بختم عليه صورة الطوطم، وبعض الجماعات منهم ترفع طوطمها بيرقا أثناء القتال، وأخرى ترسمه على التروس والخيام، ولدى الجماعات المستقرة يرسم الطوطم على الجدران الداخلية للبيوت. أما في أستراليا فإن مثل هذه التمثيلات الطوطمية الواضحة ليست على نفس الدرجة من الشيوع؛ لأن الأستراليين لم يبلغوا درجة من المهارة في التصوير والحفر تمكنهم من تنفيذ رسوم دقيقة لطوطمهم، فصورة الطوطم عندهم لم تكن أكثر من هيئة اصطلاحية تحتوي على عدد من الخطوط، ويفهمها الجميع على أنها صورة طوطمهم. وفي الحالات القليلة التي يعمد فيها الأسترالي إلى رسم طوطمه، فإنه يحفر صورته على الأدوات الطقسية، وهي الحالة الأكثر شيوعا لظهور هيئة الطوطم الاصطلاحية. يضاف إلى ذلك حالات أخرى لوحظت لدى بعض الجماعات، حيث ترسم صورة الطوطم على التربة قرب قبر المتوفى بعد دفنه، أو تحفر على أقرب شجرة إلى القبر، ولدى البعض الآخر يحفر الطوطم على جذع الشجرة المجوف الذي يحتوي رفات الميت. وفي بعض المناسبات الطقسية وخصوصا طقوس التعدية (=
অজানা পৃষ্ঠা