দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
رغم أن المدرسة السحرية قد أخفقت في تقديم نظرية شاملة، وتعرضت مؤخرا إلى كثير من النقد، إلا أن مساهمتها الكبيرة تكمن في لفت النظر إلى الطابع غير الاعتيادي لرسوم الكهوف، وإلى وظيفتها التي تتجاوز الشكل الفني الجمالي؛ الأمر الذي ترك الباب مفتوحا أمام البحث عما وراء الشكل الظاهري لفنون تلك الثقافة المنقطعة الأسباب. وبما أن نقدة المدرسة السحرية لم يستبدلوا النظرية بأخرى، فقد وقف البحث مدة طويلة أمام طريق مسدود قبل أن تطلع الباحثة الفرنسية أمبريير لامنغ بأطروحتها المعروفة حول معنى الفن الباليوليتي.
25
لقد وضعت لامنغ أسس اتجاه جديد في التفسير، ينظر إلى الهيئات الحيوانية في رسوم الكهوف، لا في مؤداها الخارجي كحيوانات تنتمي إلى فصائل بعينها، بل في مؤداها الرمزي كمفردات في لغة تشكيلية من نوع خاص. ثم تابع البروفيسور أندريه لوروا غورهان أبحاثه في الاتجاه نفسه، معتمدا منهجا معلوماتيا يستعين بالحاسوب، بعد أن صارت كل المعلومات التي رتبها وصنفها الباحث الرائد آبي برويل جاهزة لمثل هذه القفزة، وقدم نظريته الثورية في كتابه المشهور عن فنون ما قبل التاريخ.
26
ينظر لوروا غورهان إلى رسوم الكهوف الكانتربيرية باعتبارها وحدة متكاملة، لا نستطيع دراسة أو تفسير رسم مفرد منها دون بقية الرسوم، وفي علاقته معها، سواء في الكهف الواحد أم في بقية الكهوف مجتمعة. ففي السابق، كانت وحدة الدراسة التي يبني عليها الباحث استنتاجه هي رسم مفرد، أو عدة رسوم متقاربة في مساحة واحدة قد تصل أحيانا إلى جدار كامل في إحدى القاعات. أما عند لوروا غورهان، فقد اتسع حيز الدراسة ليشمل 68 كهفا كانت بمثابة الوحدة الأساسية للدراسة، بما تحتويه من عدد هائل من الرسوم بلغ تعداده 2188 رسما. كانت نقطة الانطلاق في بحث غورهان، هي تحديد نوع الحيوانات التي تتوضع في منطقة المركز من كل جدار، وعددها، وكذلك نوع وعدد الحيوانات التي تتوضع على الأطراف، أو تحتل الممرات والمداخل والزوايا البعيدة. وبعد معالجة الكم الكبير من المعلومات بواسطة الحاسوب، تبينت له حقيقة على غاية من الإثارة، وهي أن المناطق المركزية يشغلها على الدوام ثلاثة أنواع؛ هي الثور والبيسون والحصان، بينما تحتل بقية الأنواع الحيوانية الأطراف والمناطق الثانوية الأخرى. كما تبين له من دراسة الحالات القليلة التي ترافقت فيها الأشكال الإنسانية مع الأشكال الحيوانية، أن الثور يتخذ قيمة رمزية أنثوية، ومثله البيسون، أما الحصان فيتخذ قيمة رمزية ذكرية. ووجد أيضا أن القيم الرمزية الذكرية تعادل القيم الرمزية الأنثوية، حيث بلغ عدد المرات التي صور فيها الثور 46 مرة، والبيسون 148 مرة، أما الحصان فقد صور 819 مرة؛ أي ما يساوي عدد مرات تصوير الثور والبيسون مجتمعين. وبينما يغادر الحصان مكانه في مركز الجدار ليظهر في أماكن أخرى ثانوية، فإن الثور والبيسون قد بقيا على الدوام في مكانهما المركزي لا يغادرانه. ومن هذا المنظور الجديد أيضا، تتخذ الحيوانات الجريحة والسهام والحراب الموجهة إليها، دلالات جديدة في هذه المنظومة الرمزية؛ فالجروح ذات قيمة رمزية أنثوية، أما السهام والحراب فذات قيمة رمزية ذكرية. والنتيجة الإحصائية لكل ذلك، أن الرمز الأنثوي يتوضع على الدوام في المركز، أما الرمز الذكري فيتوزع بشكل متساو حول هذا المركز وعلى الأطراف القريبة والبعيدة. أما الاستنتاج الذي يبنيه لورا غورهان على هذه النتائج الإحصائية، فهو قيام أيديولوجيا دينية لدى الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى، تعتمد جدلية المبدأين الذكري والأنثوي في تعارضهما وتكافؤهما.
27
تكمن أهمية هذا التفسير الجديد في أنه قد أخرج دراسة فن الكهوف من الحلقة المفرغة التي تدور فيها النقاشات بين أصحاب المدرسة السحرية وخصومها، وبالدرجة الأولى في كشفه عن المضامين الدينية لفن الكهوف، والوظيفة الروحية لتلك المقامات المقدسة الأولى. ولكن رغم قيام لامنغ ولوروا غورهان برسم خطوط واضحة للطريق الذي ينبغي أن تسير عليه الدراسات المقبلة لرسوم الباليوليت الأعلى، فإن بعض الباحثين قد آثر عدم الوقوف إلى جانب أي من النظريات، وذلك في انتظار معلومات قد لا تظهر أبدا. فالباحثة ب. م. غراند، وهي من تلامذة آبي برويل اللامعين، تؤكد على وجود رسالة ما متضمنة في الرسوم التي تركها لنا إنسان الباليوليت الأعلى، قد تكون مفتاحا لفكر الإنسان الباليوليتي، ولكنها تأسف لعدم استطاعتنا معرفتها. تقول غراند: «إن الصور الجدارية تضعنا في حالة مشحونة بعاطفة فائقة، تجعلنا ننظر إليها بعين القداسة ... وبعيدا عن كهف لاسكو الذي يوليه البعض أهمية خاصة، فإن كل كهوف الصور الجدارية تشارك بدرجات متفاوتة في هذا الجو الجليل الذي يغمر المكان، كما أن رسومها تشكل كلا منسجما يخضع للقوانين الداخلية نفسها، ويبين عن مصدر إلهام واحد. إن التكرار الذي يتبدى في الرسوم والخصائص المميزة لها، ينطوي على هم أساسي تحاول الرسوم التعبير عنه بإلحاح، وتتخذ هذه المحاولة في التعبير، في كل كهف، حالة هاجس مسيطر. وهكذا فإن الصور الجدارية تضعنا أمام أحاسيس متضاربة؛ فهناك إحساس عنيف يغمرنا بوجود قيم كبيرة تحاول هذه الرسوم نقله إلينا، وفي الوقت نفسه هناك اعتراف ضمني بعجزنا عن فهم ما تود نقله ... قد تكون رسوم الكهوف جزءا من ميثولوجيا كبرى تحتل أقوى الحيوانات العاشبة فيها مركز الصدارة، إلا أن مفاتيحنا إلى حقبة الصيد العظيمة تلك قد ضاعت. إن كل ما لدينا من تلك الحقبة هو صور وشارات، قد تعيننا على صياغة فرضيات لا بد من صياغتها، غير أن الوقت لم يحن بعد لتحديد العلائق الميتافيزيقية المتضمنة فيها.»
28
إن كل ما سقته حتى الآن ينفي أمرين نفيا قاطعا، وهما أن يكون فن الكهوف قد هدف إلى إنتاج آيات فنية بدافع الحس الجمالي وحده ولغرض إمتاع الحواس، وأن يكون ذلك الفن مدفوعا بالهاجس الغذائي ومتوسلا بالتقنيات السحرية إلى الإيقاع بحيوانات الصيد؛ فرغم أن رسوم الكهوف قد نفذت بتقنيات جمالية شارفت حد الكمال، فإن التمتع بالجمال لم يكن واحدا من أهدافها، ناهيك عن كونه الهدف الأساسي أو الوحيد، وإلا لما وضعت في أعماق يصعب اكتشافها كما يصعب الوصول إليها في حال اكتشاف بواباتها؛ فهل كان إنسان ذلك العصر مضطرا لقطع تلك الأنفاق المعتمة في ظلمة دامسة وبيده مصباح زيتي، منحنيا معظم المسافة أو زاحفا على أربع، ومعرضا نفسه للوقوع في المطبات المؤذية، ليصل إلى قاعات الرسوم فيقف أمامها معجبا مستمتعا؟ أما عن الهاجس الغذائي والتقنيات السحرية، فإن الوقائع الإحصائية لا تؤيدها، ولم يعد من الوارد الحديث عنها. وبالمقابل، فإن كل الدلائل تشير إلى أن هذه الرسوم تحتوي على قيم كبيرة تحاول التعبير عنها، وأن هذه القيم هي قيم روحية دينية تتصل بمعتقدات ذلك العصر. قد يكون من الصعب في الفترة الراهنة رسم صورة كاملة عن ديانة العصر الحجري القديم الأعلى، اعتمادا على ما وصلنا من رسوم كهوفه؛ لأن ذلك سيكون أشبه بمحاولة يقوم بها علماء من الكواكب الأخرى لدراسة ديانة أوروبا في القرن العشرين اعتمادا على بقايا الكاتدرائيات، أو ديانة الشرق الأوسط اعتمادا على البنى المعمارية للمساجد الكبرى. ولكن الأمر الذي نراه ممكنا هو التعرف على المعتقد الديني في خطوطه العريضة، وذلك من خلال ألف باء اللغة الرمزية المشتركة التي استخدمت في الكهوف كلها. فهنا يتابع الفنان بحثه من خلال أسلوب متماثل ووحدات تشكيلية متكررة وهاجس جمالي وروحي واحد. إن كل شيء يشير إلى محاولة محمومة للتعبير عن قلق ديني وقيم روحية، فما هي؟
تشكل الهيئة الحيوانية الموضوع الأول والأخير لرسوم الكهوف، أما الهيئة الإنسانية فلم تصور إلا مرات قليلة جدا، وتمت معالجتها بسرعة ولامبالاة، وبأسلوب الخطوط السريعة غير المدروسة، حيث تركت في وضع مبهم غير مكتمل. نستثني من ذلك الهيئات المختلطة التي جمعت بين الإنسان والحيوان في مخلوق واحد، وهي أيضا قليلة جدا؛ فهنا صور الشكل الإنساني وقد استعار أعضاء لحيوانات أخرى، كما هو الحال في الرسم المدعو ب «ساحر كهف الإخوة»؛ فهذا المخلوق الهجين يقف في انحناءة خفيفة على ساقين إنسانيتين، غير أن له وجه البومة وقرني وعل وذيل حصان وكف دب، ومن خلف عجيزته تبرز أعضاؤه التناسلية كما الأسد . ونظرا إلى أن هذا الشكل لم يتكرر أبدا في أي كهف آخر، فإن أي تفسير له سيكون من باب التخرصات التي لا تقوم على أساس، رغم أن أصحاب المدرسة السحرية قد وجدوا فيه كنزا ثمينا، وشبهوه بسحرة القبائل البدائية المتنكرين في زي حيواني. وعلى العكس من الشكل الإنساني، فإن الحيوان قد رسم بعناية بالغة، وبأسلوب حركي حيوي استنفد كل ما تستطيعه تقنيات التصوير من تعبير عن طاقة الحياة في قمة تدفقها وتفجرها، وذلك في أشكال الحيوانات المنطلقة، أو أقصى حالات احتباسها وهي على وشك الانطلاق، وذلك في أشكال الحيوانات الواقفة الساكنة. ورغم أن الأسلوب يتسم بالطبيعية والبعد عن التنميط والخطوط الهندسية، إلا أنه تعبيري في صميمه، ويلجأ إلى التحوير المقصود من أجل إظهار مضامين انتقائية؛ فالقيمة الرمزية هنا أمر مؤكد، وهاجس الصيد لا يشغل بال فنان الباليوليت أكثر مما شغل بال رسام الأيقونات البيزنطية هاجس الولادة والتكاثر وهو يرسم العذراء الحبلى أو العذراء والطفل الإلهي؛ ففي الحالتين نحن أمام تكوين رمزي يشير إلى ما وراءه، والشكل الحيواني هنا ليس إلا وعاء لقوة ما ورائية، وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان المحسوسة على المستوى الطبيعي.
অজানা পৃষ্ঠা