দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
إن كل ظاهرة معقدة يمكن تقليصها إلى بنية أساسية جوهرية، بالغا ما بلغ تعقيدها، وهي بنية الحد الأدنى التي تقودنا دراستها إلى ماهية الظاهرة ومعناها. وفي مجال الدين، وهو أعقد الظواهر المرتبطة بالإنسان طرا، يمكننا أن نجد بنية الحد الأدنى في المعتقد. فالإحساس الديني، وهو كما رأينا شأن لا نستطيع وصفه من الخارج، يجد تعبيره الموضوعي الموصوف في المعتقد، والطقوس الدينية تقوم على المعتقد الذي يعطيها المعنى والدلالة، والأساطير تنسج من أجل توضيح المعتقد وترسيخه، والشرائع والأخلاقيات الدينية تصاغ انطلاقا من إيمان ما وتصورات كونية دينية معينة. فالمعتقد والحالة هذه هو مركز الظاهرة الدينية، وعنده يجب التوقف لمن يريد البحث عن ماهية الدين واكتناه أصوله وبواعثه ومعانيه.
لقد وصفنا في معرض تقصينا لبنية الدين ومكوناته كيف يتشكل المعتقد الديني، والأشكال التي يعبر من خلالها هذا المعتقد عن مضامينه، أما الآن فسوف نتفرغ لعملية تقصي محتوى المعتقد الديني وفحواه. ونقطة الانطلاق التي سأبدأ منها هنا، هي الافتراض بأن المعتقدات الدينية قديمها وحديثها، بسيطها ومركبها، يمكن إرجاعها إلى عناصر ثابتة ومشتركة بين الأديان جميعا. ففي القاع من كل إيمان ديني، لا بد من وجود عدد من الأفكار البسيطة الأولية التي تجمعه إلى كل إيمان آخر، وهذه العناصر الثابتة أو الأفكار الأولية قد لا تبدي عن نفسها للوهلة الأولى؛ وذلك بسبب تراكم الأدبيات الميثولوجية في الأديان، وتنوع أساليب التعبير الرمزي الخاص بهذه الثقافة أو تلك. وإن فرضيتنا هنا حول وحدة المعتقد الديني عند جذور الأديان جميعا، لا تقوم من حيث المبدأ على أساس تعسفي، وإنما يقود إليها قولنا بوجود ظاهرة دينية واحدة عند الإنسان العاقل، لا ظواهر دينية مستقلة من حيث المنشأ والغاية، والظاهرة الواحدة لا بد لها من أساس واحد، رغم تنوع تبدياتها عبر الزمان واختلاف البيئة والمكان. وبتعبير آخر، فإن بنية الحد الأدنى للدين التي وجدناها في المعتقد، إنما تقوم بدورها على بنية أخرى للحد الأدنى الاعتقادي، هي تصور إنساني واحد يقوم عليه الدين برمته أنى التقينا به، سواء في العصور الحجرية القديمة أم في الحضارات الكبرى الغابرة والراهنة. فهل ستسعفنا الدراسة الميدانية بما يثبت هذه الفرضية التي تقوم ابتداء على محاكمة ذهنية سليمة؟
تخضع المعتقدات الدينية في الثقافات «العليا» إلى عملية صقل تمليها طبيعة الحياة الاجتماعية، التي تسير أبدا في طريق التركيب والتعقيد. ويساعد على ذلك تداخل الظاهرة الدينية في هذه الثقافات مع ظواهر أخرى سياسية واقتصادية ومجتمعية؛ لهذا السبب فإن رحلتنا الطويلة المقبلة في البحث عن الحد الأدنى الاعتقادي، لن تبتدئ من أديان الحضارات الكبرى، بل من أديان الثقافات البدائية الأصلية، موغلين في الزمن الماضي إلى أبعد نقطة استطاع عندها علم الآثار وعلم الأنتروبولوجيا العثور على شواهد مادية لمعتقدات دينية عند الإنسان العاقل أو عند أسلافه النياندرتاليين، متلمسين تلك الأفكار البسيطة الأولى التي تشكل حجر الأساس للمعتقد الديني عند الإنسان، والتي تضعنا وجها لوجه أمام «أصول» الدين. وكلمة «أصول» التي أضعها بين أقواس هنا، ينبغي ألا تفهم من وجهة نظر «تطورية»، سواء في السياق الحالي لاستخدامي لها أم في أي سياق لاحق من هذا الكتاب. فنحن لا نهدف من توغلنا في الزمن الماضي إلى البحث عن البدايات الزمنية لتطور الأفكار الدينية، بل إلى تحديد الأشكال الأصلية للمعتقد ، وهي أشكال لم تخضع لأية عملية تطورية، وما زالت قابعة تحت البنية الاصطناعية التي تراكمت فوقها. إن ما يبدو بحثا في الزمن الماضي هو في حقيقة الأمر حفريات في البنية الفكرية المدينية الراهنة، من أجل الكشف عن ذلك الأساس الذي لم يمسه تبدل أو تغير، والذي يشكل جوهر المعتقد الديني عند الإنسان. ولكن قبل الشروع في هذه الحفريات، سوف أتوقف قليلا عند مصطلحين استخدمتهما للتو، ويكثر استخدامهما في الأنتروبولوجيا وبعض العلوم الإنسانية الناشئة الأخرى، وهما «التطورية» و«البدائية»، لأحدد موقفي من الأول وطريقة استخدامي للثاني.
التطورية (=
Evolutionism ) مصطلح يستخدم للإشارة إلى نظريات أنتروبولوجية وبيولوجية ظهرت أواسط القرن التاسع عشر، وحاولت تفسير الظواهر الاجتماعية والبيولوجية باعتبارها ارتقاء في خط مستقيم من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يفضي الشكل الأدنى السابق إلى شكل أرقى لاحق. وقد كان للفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر أثر مباشر على ظهور المذاهب التطورية في مجال الأنتروبولوجيا بشكل خاص؛ فقبل ظهور كتاب داروين في أصل الأنواع، وإحداثه ثورة في علم البيولوجيا، قال سبنسر بالتطور على أنه المبدأ الذي يحكم التغير على كل صعيد. يقول في مقالته التطور وقوانينه: «إن التحرك قدما من البسيط إلى المركب عبر عملية متسلسلة من التمايز المتتابع، هو شأن أكيد لا يمكن ملاحظته في تطور الإنسانية، وفي تطور ما لا يحصى من النواتج الفكرية والمادية للنشاط الإنساني.»
1
وبعد أن نشر داروين نظريته في أصل الأنواع، دخل المفهوم التطوري في صلب تفكير الإنسان الحديث ونظرته الأمور، وصرنا ننظر إلى كل ما هو قديم باعتباره الأدنى في سلم التقدم، وإلى كل ما هو حديث باعتباره الأعلى في هذا السلم التطوري الصاعد. وقد ساعد على تكريس مفهومي الأدنى والأعلى تلك الرسوم البيانية النشوئية الخاصة بتطور الأنواع، والتي ابتدرها داروين، حيث ترسم الأشكال الأقدم في الجزء الأدنى من الرسم، والأشكال الأحدث في الجزء الأعلى منه. وبذلك دخل في روعنا تدريجيا أن القديم هو الأدنى، والحديث هو الأعلى. وترافق ذلك، وكما هو متوقع، مع حكم قيمي يربط الأدنى في سلم التطور بالتدني ؛ أي بما هو أسوأ، ويربط الأعلى بالسمو؛ أي بما هو أفضل. كما توسع مفهوم التدني ليشمل الانحطاط من الناحيتين العقلية والخلقية، فضلا عن الناحية الطبيعية. وانطلاقا من هذا الحكم القيمي الاعتباطي، يعتبر إنسان النياندرتال والأسترالي الأصلي، أحط من الناحيتين الثقافية والطبيعية من الإنسان الأوروبي الحديث الذي يعتلي شجرة التطور، وهي الصورة التي يرسمها عادة علماء الأنتروبولوجيا الطبيعية لشجرة نسب الإنسان التي تنبت من الأسلاف القرديين، وتتموضع عليها صعدا المجموعات المختلفة من الرئيسيات، على مخطط نشوئي يظهر الإنسان الأبيض كآخر وأعلى فروع الرسم، بينما تظهر الأجناس الأخرى وهي تتفرع من المناطق الدنيا الأكثر قدما.
وقد قادت المفاهيم التطورية إلى إحداث مصطلح «البدائي» و«البدائية»؛ فالبدائي هو الإنسان الذي عاش في «بداية» عملية النشوء والارتقاء، ومثله إنسان القبائل «البدائية»، الذي يعتبره التطوريون أقرب إلى الإنسان الأول في عصوره الحجرية، واعتبرت ثقافته بمثابة بقايا متحجرة من الثقافات الابتدائية الأصلية. وقد تم النظر إلى كل ما يمت إلى هذه الجماعات بصلة باعتباره «بدائيا» وفق الحكم القيمي التطوري، وصار الحديث عن «دين بدائي» و«أخلاق بدائية» و«مؤسسات اجتماعية بدائية» وما إلى ذلك أمرا شائعا. غير أن هذا الحكم القيمي الذي يرى في كل ما هو «بدائي» حالة متدنية، هو حكم غير دقيق في الواقع، ومسألة «البدائية» لا يمكن تقريرها بمثل هذه السهولة؛ فمما لا شك فيه أن المنكاش الحجري أكثر بدائية من المحراث الذي تجره الحيوانات، وأن هذا بدوره أكثر بدائية من الجرار الحديث. ومما لا شك فيه أيضا أن السهم الذي يطلق من أنبوبة النفخ أكثر بدائية من السهم الذي يطلق بواسطة القوس والوتر. ولكن من يستطيع القول إن الحكم الاستبدادي الذي ساد في الحضارات الكبرى أكثر تطورا من الحكم القبلي القائم على حرية وتساوي أفراد القبيلة الواحدة؟ أو إن الأديان المتأخرة التي يمتلئ تاريخها بالاضطهاد وملاحقة الهراطقة والحروب الشاملة ضد الشعوب الأخرى، هي أكثر تطورا من الأديان «البدائية» التي تتسم بالتسامح مع كل المعتقدات؟ أو إن العلاقات الإنسانية في المدينة الحديثة القائمة على التنافس المحموم، هي أكثر تطورا من العلاقات «البدائية» القائمة على التعاون والمشاركة؟ وفي الواقع فإن الشعوب البدائية قد تكون أقل تطورا في النواحي التكنولوجية وبعض النواحي الأخرى، ولكنها من بعض الوجوه أكثر تطورا من أكثر المجتمعات المتقدمة؛ فالبدوي في صحاري رماله، والإسكيمو في صحاري جليده، هو أكثر ودا وشجاعة وصدقا وإخلاصا وتعاونا من أكثر أعضاء المجتمعات المتمدنة، وإن الجماعة التي ندعوها «بدائية» هي أكثر الأشكال الاجتماعية والسياسية إتاحة لحرية الفرد وتفتيحا لإمكاناته. ولقد قادت المراجعة الشاملة للمفاهيم القديمة حول «البدائية» إلى ظهور جيل جديد من الأنتروبولوجيين في الغرب، أخذ يرى بوضوح، ونتيجة للدراسة الموضوعية لركام المعلومات التي تكدست خلال القرن العشرين، أن المجتمعات التي ندعوها «بدائية» ليست مرحلة طفولية من مراحل تطور البشرية، وليست انحرافات في مسارات مسدودة على شجرة التطور التي تتربع فوقها المجتمعات الصناعية الحديثة، بل إنها شكل تام من أشكال الحياة الإنسانية الناضجة والمكتفية بنفسها. يقول أحد الأنتروبولوجيين البارزين في هذا الاتجاه، آشلي مونتاغيو: «إن الخطأ الأساسي الذي يرتكبه من يتحدث عن الفن البدائي، هو استخلاص التعميم من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيا في الثقافة، وذلك مثل التكنولوجيا أو الاقتصاد، وافتراض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بالمقدار نفسه. والواقع، فإننا عندما نقارن خصائص معينة في الثقافات غير الكتابية «= بدائية»، مثل اللغة والدين والأساطير ونظام القربى والحكايا والأشعار وقص الأثر وغيرها، بمثيلاتها في المجتمعات المتمدنة، فإن أعضاء الثقافات اللاكتابية لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء المجتمعات المتمدنة فحسب، بل سيتفوقون عليهم في أحيان كثيرة. وعندما اكتشفت المنحوتات البرونزية النيجيرية الرائعة، قال البعض إنها لا يمكن أن تكون من صنع الزنوج؛ فقد كان أسهل على هؤلاء أن يتصوروا فنانا كبيرا ينتمي لأحد الأصول العرقية المتقدمة وقد قادته جولاته إلى نيجيريا، من أن ينسبوا لشعب «بدائي» لا يقرأ ولا يكتب، وما تزال ثقافته وتكنولوجيته «بدائية»، مثل هذه العبقرية الخلاقة والأساليب المتنوعة والخيال الرفيع، مما نجده في الفن النيجيري.»
2
ومن مجال الفن أيضا يأتينا البرهان على رقي نواح معينة من ثقافات العصر الحجري الموصوفة بالبدائية، رقيا يدفعنا إلى مقارنتها بنظائرها في حضارتنا الحديثة. يقول آشلي مونتاغيو، الذي اقتطفنا منه أعلاه، في هذا الموضوع ما يلي: «فإنسان ما قبل التاريخ في العصر الحجري القديم الأعلى، كان في بعض نواحي حياته قادرا على إنجاز أمور عجز غيره منذ ذلك الحين التفوق عليه فيها. ومن بين الأمثلة البارزة على ذلك فنون ذلك العصر التي قال فيها السير هربرت ريد: إن أفضل رسوم كهوف التاميرا ونيو ولاسكو، تكشف عن مهارة لا تقل عن مهارة فنانين كبار محدثين من أمثال بيكاسو. وكل من رأى الرسوم الأصلية، بل حتى نسخا مأخوذة عنها، سيوافق على أن هذا القول غير مبالغ فيه؛ فبالإضافة إلى المهارة الفنية التي اتصف بها الفنانون القدماء، فإن أعمالهم تظهر قدرا من الحيوية وقوة التعبير قل نظيره في أي عصر من العصور. ولا شك في أن الأفراد القادرين على استخدام مثل تلك المهارات، كانوا يتميزون بدرجة من الذكاء لا تقل عن تلك التي يمتلكها الإنسان المتمدن المعاصر. ولما كانت كلمة «بدائي» لا تؤدي إلى طمس هذه الحقيقة فحسب، بل إلى حجب قدرتنا على فهم المغزى الحقيقي للوقائع، فإن علينا التحلي بأقصى درجات الحيطة إذا أردنا استخدامها.»
অজানা পৃষ্ঠা