দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
إن التفريق الذي صنعته منذ قليل بين دين القوم والدين الشمولي، سوف يساعد قارئ تاريخ الأديان على فهم ظواهر بدت له حتى الآن غامضة وعصية على التفسير. فلماذا تبدو الهندوسية، مثلا، على هذا القدر من التنوع والتعدد في الاتجاهات المذهبية، في الوقت الذي تبدو فيه بوذية الهينايانا، أو بوذية المهايانا، على هذا القدر من الاتساق والتماثل في المعتقد والطقس، وما يتبعهما من مظاهر الحياة الدينية؟ ولماذا نعثر في تاريخ الدين على إيمان يتسم بالتسامح ويقبل التعايش مع غيره، في الوقت الذي يناصب فيه إيمان آخر العداء لكل من غايره وخالفه؟ لماذا غضت السلطة في روما الإمبراطورية طرفها عن كل العبادات القادمة من الشرق من دون المسيحية التي وقع على أتباعها أول اضطهاد رسمي منظم في التاريخ الروماني؟ لماذا دمر البابليون، ومن بعدهم الرومان، هيكل أورشليم من دون بقية هياكل العبادات الفلسطينية أو السورية؟
إن الجواب على مثل هذه التساؤلات يكمن في التمييز بين دين القوم، الذي يتألف من عبادات متعايشة رغم التنوع والاختلاف، وبين الدين الشمولي الذي عمل منذ البداية على تنميط الحياة الدينية في المجتمع الذي استولى على إيمانه، ثم وطد العزم على تحويل كل إيمان آخر لكي يصب في تياره. ورغم أن الأديان الشمولية لا تبدي تماثلا تاما بينها، من حيث طريقة النشأة، وأسلوب الانتشار، والمسار الثابت الذي تتخذه بعد نجاحها، إلا أن دراسة بعض نماذجها التاريخية تفيدنا في التعرف على هذا الشكل من الحياة الدينية، سواء في تاريخ الدين أم في الصورة الحالية لأديان العالم القائمة اليوم.
ولسوف أتناول فيما يأتي ثلاث محاولات في تاريخ الفكر الديني الشمولي، اثنتان منهما عاجلهما الموت السريع، وواحدة عاشت بضعة قرون ثم عفا عليها الزمن. (1) أخناتون والآتونية
أول ديانة شمولية معروفة لنا وموثقة تاريخيا هي الآتونية، ديانة الفرعون أمنحوتب الرابع، الذي حكم مصر فيما بين 1369 و1353ق.م. وقد عاشت هذه الديانة عمرا قصيرا لم يتجاوز الفترة التي قضاها مؤسسها على عرش مصر، ثم آلت بعد ذلك إلى النسيان الكامل، حتى عرفنا عنها في العصر الحديث مع ما عرفنا عن تاريخ وحضارة مصر القديمة.
1
ولي أمنحوتب الرابع عرش مصر وهو حدث لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. ويبدو أن الفرعون الفتى قد مر بتجربة روحية خاصة قبل بلوغه سن السادسة عشرة، قادته إلى إيمان جديد يتعارض ودين القوم السائد في مصر. فقد بدأ بالإعلام عن معتقده منذ السنة السادسة لحكمه، وبنى أول معبد لإلهه آتون في العاصمة طيبة. وتظهر بقايا الكتابات التي وجدت على أحجار هذا المعبد، الذي هدمه الخصوم حتى أساساته، بعض أسماء الآلهة المصرية التقليدية، كما أنها تشير إلى الفرعون باسمه الرسمي كأمنحوتب الرابع، لا بالاسم أخناتون الذي اختاره لنفسه فيما بعد، ولا باللقب الذي لازمه بعد ذلك، وهو «الذي يعيش في الحقيقة». وهذا يعني أن الآتونية لم تكن في هذا الوقت المبكر من تأسيسها سوى عبادة تقوم إلى جانب العبادات التقليدية الأخرى في دين القوم المصري. وأغلب الظن أن هذه العبادة كانت ستعيش مدة طويلة لو أن الفرعون قد وقف عند هذا الحد في الدعوة لمعتقده والتبشير به، إلا أن الداعية الفتى قد دخل، وقبل الأوان على ما يبدو، في صراع حياة أو موت مع كل التقاليد المتجذرة في تاريخ الدين المصري.
بعد اكتمال معبد طيبة بوقت قصير، غير الفرعون اسم المدينة من طيبة إلى ألق آتون، وأتبع ذلك بإعلان إلهه آتون إلها أوحد لمصر بكاملها، كما غير اسمه إلى أخن آتون؛ أي فرح آتون، ثم قام بعدد من الإجراءات الجذرية الهادفة إلى محو ذكرى العبادات القديمة من النفوس، فأغلق معابد الإله الأعلى آمون رع، وسرح كهنته من الخدمة، كما أغلق معابد بقية الآلهة، وحطم تماثيلها، ومحا أسماءها وصورها أنى وجدت. وبلغ به الحماس حدا دفعه إلى فتح مقبرة أبيه أمنحوتب الثالث، حيث محا اسم الإله آمون رع من هناك، وأزال صوره، وغير اسم أبيه في منقوشات القبر. ولكن تآمر الكهنة عليه، وهذا ما نعرفه من رسالة بخط يده، قد دفعه إلى التفكير بترك مدينة طيبة وبناء عاصمة جديدة له، ثم اندفع إلى تنفيذ فكرته، واكتمل بناء العاصمة في مدة قصيرة، فأطلق عليها اسم أخت آتون؛ أي أفق آتون (اكتشفت المدينة في موقع تل العمارنة). وقد ترافق بناء هذه العاصمة مع حملة تبشيرية داخل مصر وخارجها؛ لأننا نعرف من وثائق تل العمارنة أن مدينتين أخريين مكرستين للإله آتون، قد تم بناؤهما في الوقت نفسه تقريبا؛ واحدة في سوريا لا نعرف مكانها على وجه التحديد، والأخرى في النوبة قرب شلال النيل الثالث.
رغم قلة المصادر المباشرة التي سلمت من حملت التدمير الشاملة، التي شنها خصوم الفرعون على كل ما له صلة بدين أخناتون من أبنية وصور ومنحوتات وكتابات، فإن هذه المصادر كافية لتكوين صورة واضحة عن حياة الفرعون الثائر ومعتقداته. فمن الوثائق الكتابية لدينا عدد لا بأس به من نصوص، إضافة إلى ترتيلتين تعتبران من عيون الأدب الديني للشرق القديم، خطهما قلم الفرعون نفسه (وقد قدمنا ترجمة كاملة لإحداهما سابقا). أما الشواهد الفنية من تلك الفترة فمتوفرة نسبيا؛ فآثار العاصمة أخت آتون تعطي فكرة واضحة عن النمط المعماري للمعابد والقصور والبيوت العادية ، وعن تنظيم المدينة بشكل عام، إضافة إلى عدد لا بأس به من المنحوتات والرسوم، وهي تشكل مدرسة متميزة في تاريخ الفن.
يقوم معتقد أخناتون على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء، وهو طاقة صافية لا تتخذ شكلا ما، ولكنها تتبدى في عالم الظواهر بقرص الشمس الذي يعطي الحياة والحركة للجميع. من هنا، فإن الشعوب والأمم جميعا تتساوى أمام آتون. يقول أخناتون في إحدى ترتيلتيه: «في جميع الأصقاع، في سوريا والحبشة وأرض مصر، أعطيت لكل مكانه.» وهذه أول مرة تذكر فيها البلدان الأجنبية قبل مصر في النصوص الفرعونية؛ الأمر الذي يشير إلى غياب الأفكار التعصبية للأمة من معتقد أخناتون، والدعوة صراحة إلى أخوة البشر، وذلك لأول مرة في التاريخ. ولقد وضع الفرعون الشاب أفكاره الإنسانية هذه موضع التطبيق العملي، عندما رفض التدخل لصالح الحكام الموالين لمصر في بلاد الشام في صراعهم مع الدويلات الأخرى المناهضة للنفوذ المصري، مفضلا خسران الإمبراطورية التي بناها أسلافه على الدخول في حرب ظالمة. والعلاقة بين آتون ومخلوقاته تقوم على الحب المتبادل، وكل المخلوقات الحية تكن الحب للأب الواحد الذي أظهرها إلى الوجود ويسر لها رزقها: «كل قلب يخفق لمرآك؛ لأنك ترتفع سيدا للجميع، كل أيدي البشر ترتفع لتسبح ظهورك.» وأيضا: «عندما تشرق عليهم يحيون ... وترتفع أبصارهم إليك.» وهذا يسري على كل الشعوب وفي كل مكان من أقطار المسكونة: «أنت آتون النهار، مبجل في كل قطر بعيد.» ويشترك في محبة آتون كل أشكال الحياة على الأرض، وكل يسبح بحمده على طريقته الخاصة: «كل مخلوق صنعته يثت إليك.» وأيضا: «كل الحيوانات تثب على قوائمها، وكل ذوات الريش تنهض من أعشاشها وتصفق أجنحتها بفرح، وتدور تسبح بحمد آتون.» ويشترك في هذا الحب والتسبيح عالم النبات أيضا: «البراعم تتفتح أزهارا، والنباتات الطالعة في الأراضي القاحلة تطلع وريقاتها لمرآك.» وبذلك توحد الآتونية بين جميع أشكال الحياة على الأرض، وتوحد بينها وبين خالقها بالحب.
إن مثل هذا المعتقد الذي يقوم على وحدة الخالق وأبوته للكون، وعلى المحبة التي تجمع بينه وبين المخلوقات، وما يستتبع ذلك من إحساس بأخوة البشر وصلتهم الحميمة ببقية أشكال الحياة على الأرض، لا يمكن له أن يبقى في إطار العبادة الإقليمية الضيقة، بل لا بد من التبشير به في كل مكان، لكي يبقى صاحبه في انسجام مع طروحاته العالمية. ولقد بدأ الفرعون بالفعل حملة تبشيرية واسعة النطاق كما أشرنا منذ قليل، إلا أن نشاطه التبشيري لم يكتب له النجاح رغم السعي المحموم الذي اتخذ شكل الهوس في بداية عهده. فخارج الأراضي المصرية، لا نعلم شيئا عن انتشار الأفكار الآتونية ضمن الأراضي الواقعة تحت النفوذ المصري، أما في الأراضي المصرية، فيبدو أن الأمر لم يكن بأحسن حالا، ولدينا عدد من الشواهد الدالة على تعثر التبشير بالدين الآتوني، وعدم فاعليته على جميع المستويات. ففي البيوت المريحة التي ابتناها أخناتون لعمال بناء العاصمة الجديدة، كشفت التنقيبات عن وجود صور الآلهة التقليدية مرسومة على الجدران؛ الأمر الذي يدل على أن بناة المدينة المقدسة، ومعظم أهلها فيما بعد، لم يهتدوا إلى دين الفرعون. ولم يكن إيمان النخبة التي قربها أخناتون إليه ورفعها إلى أعلى المناصب بأفضل من إيمان العامة؛ ففي نصوص القبور الخاصة بهؤلاء، هناك ثناء عميم على ولي نعمتهم لما أسبغه عليهم في كل مجال، ولكن دون ذكر خاص للآتونية، أو عبارات تشير إلى إيمانهم الديني، كما هو معتاد في نصوص القبور المصرية. ونستطيع أن نلمح الآثار النفسية العميقة لهذا الإخفاق في الصور التي تمثله، وقد أقبل على سن الثلاثين وهو في هيئة مكدودة متعبة، عليه سيماء من أحبط كل مسعى له في الحياة، بعد أن رأيناه في صوره الأولى، التي تمثله مع عائلته إبان السنوات الأولى لانتقاله إلى العاصمة الجديدة، وكله تفاؤل وأمل بالحياة وبالمستقبل.
অজানা পৃষ্ঠা