দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
كثيرا ما نسمع بمعتقدات وطقوس الخصب، ونقرأ عنها في أي عرض لأساطير وديانات المشرق العربي القديم؛ فوفقا لهذه المعتقدات هناك إله يموت في كل عام مع نهاية الصيف ويهبط إلى العالم الأسفل، ثم يبعث حيا في الربيع جالبا معه الحياة للأرض والخصب للماشية. وحول هذا المعتقد بنيت أساطير متعددة ونشأت طقوس متنوعة. ففي سومر على سبيل المثال، نستطيع تلمس عقيدة الخصب وطقوسها منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، سواء في النصوص المكتوبة أم في أعمال الفن التشكيلي، وهي تتركز حول «دوموزي» الإله الميت الحي وقرينته «إنانا»، غير أن عقيدة دوموزي وإنانا ليست كل ديانة السومريين؛ فنحن نعرف عن وجود مجمع موسع للآلهة يرأسه «آن» كبير الآلهة، ويبرز فيه الثالوث الأقدس «آن» و«إنليل» و«إنكي»، كما نعرف عن العدد الكبير لآلهة المدن المحلية؛ فالإله «شمش» كان يعبد بشكل رئيسي في مدينة «سيبار»، والإله «سن» في مدينة «أور»، والإلهة «إنانا» في مدينة «أوروك»، والإله «إنليل» في مدينة «نيبور» ... إلخ. لهذا السبب فنحن لا نستطيع أن نطلق على معتقد الخصب السومري وما يدور حوله من طقوس اسم ديانة الخصب السومرية، بل الأنسب أن نقول عبادة الخصب السومرية، وهو الاصطلاح المتداول عادة بين الباحثين؛ إذ يطلقون اصطلاح
Fertility Cult
على هذه الشيعة الدينية وأمثالها. أما الدين السومري فيتكون من مجمل العبادات المعروفة في المجتمع السومري بما فيها عبادة الخصب.
ويمكن أن نضرب مثالا آخر، ديانة العرب قبل الإسلام؛ فهنا تواجهنا أيضا عبادات متنوعة ومتعددة بتعدد القبائل العربية. فلدى قريش مثلا كانت تسود عبادة الإلهة «العزى» بشكل رئيسي إلى جانب عبادات أخرى ثانوية، ولدى الأوس والخزرج في يثرب كانت عبادة الإلهة «مناة» هي الأولى، ولدى ثقيف في الطائف كانت ترتفع «اللات» فوق الجميع. نقرأ في كتاب «الأصنام» لابن الكلبي المتوفى عام 204 للهجرة: «ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم للعزى، ثم اللات، ثم مناة. فأما العزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعزى، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين. وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم هبل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان ...»
1
أي إن القبيلة العربية الواحدة كانت تدين بما تدين به القبائل الأخرى، ولكن مع تأكيد على هذه العبادة في مقابل تأكيد الأخرى على تلك. من هنا، فنحن عندما ندرس الحياة الدينية عند العرب نستخدم مصطلح العبادة لما هو شائع ضمن القبيلة، ونترك مصطلح الدين لما هو مشترك بين الجميع. وإني أطلق على هذا الشكل من الحياة الدينية، الذي يجتمع فيه عدد من العبادات، اسم دين القوم، تمييزا له عن العبادة وعن الدين الشمولي الذي سأتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل.
أما عن علاقة الأفراد بهذين الشكلين للحياة الدينية، فيمكن القول بأن الفرد لا يشعر بانتمائه إلى دين القوم قدر شعوره بالانتماء إلى عبادة معينة تسود ضمن بيئته الاجتماعية المباشرة، ولتكن مدينة أو قرية أو عشيرة، أو شريحة اجتماعية ما من شرائح المجتمع الكبير. فالمزارعون في مملكة بابل، على سبيل المثال، لم يكونوا مهتمين بالإله مردوخ إله الإمبراطورية وخالق الكون قدر اهتمامهم بالإله تموز الذي يرعى دورة الفصول ويكثر الغلال ويجري اللبن في ضروع الأغنام. ولأسباب ليست على هذه الدرجة من الوضوح، كان عرب الطائف يعلون من شأن اللات، ويقيمون شعائرهم التي تدور حول حجر مكعب الشكل يشبه حجر مكة، ولا يهتمون إلا قليلا لكعبة قريش. وكان عرب ثقيف، على حد قول الجاحظ في كتابه «الحيوان»، ينافسون قريشا ببيت مقدس لهم: «وكان لثقيف بيت له سدنته يضاهون بذلك قريشا.»
2
فالعبادة والحالة هذه هي المناخ الديني الذي تنشط ضمنه الحياة الروحية للأفراد، والمؤسسة التي يشعرون بالانتماء المباشر إليها، أما دين القوم فيبقى رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة دون أن يكون له حضور مباشر ويومي في الحياة الدينية للناس.
وتتميز مؤسسة العبادة بالمرونة والتسامح؛ فإلى جانب الإله الرئيسي الذي اختار الفرد تعظيمه والدخول في عبادته، فإنه يقوم في الوقت نفسه بتبجيل آلهة أخرى والمشاركة أحيانا في طقوسها. وهو عندما يرحل من مكان إلى آخر فإنه يقوم بتقديم الفروض الدينية لآلهة الجماعات التي يحل بينها، وحتى لآلهة الأقوام البعيدة والغريبة عن قومه، مؤمنا بأن كل العبادات تملك من الحقيقة والمشروعية ما لعبادته وعبادات قومه. وكان إنسان الحضارات القديمة حرا في التنقل بين العبادات المختلفة، فيترك عبادة إله ما للالتحاق بعبادة إله آخر، لا يمنعه عن ذلك عرف ديني أو اجتماعي، ولربما بلغ به الأمر ترك دين قومه والالتحاق بعبادة إله قوم أجنبي، كما كان يحدث للجنود الذين يقضون زمنا طويلا في المناطق النائية ثم يعودون ومعهم آلهة الشعوب الأجنبية التي عاشوا بينها. وبهذه الطريقة تم تأسيس العبادات المشرقية في روما والعالم الهيليني اعتبارا من القرن الثاني قبل الميلاد، مثل عبادة «سيبيل» الأناضولية، و«ميترا» الفارسي، و«سيرابيس» المصري.
অজানা পৃষ্ঠা