দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
وبعد ذلك يأتي يسوع إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ويدخل المجمع حسب عادته كل سبت ويبدأ تبشيره.
إن هروب الفرد من خبرته الدينية المنعزلة إلى الجماعة، أو جذب الجماعة إلى تجربته عوضا عن ذلك، هو الذي يخلق ما أسميته بالدين الجمعي، وهو التبدي الثاني للظاهرة الدينية. (2) الدين الجمعي
تتخذ الظاهرة الدينية سمتها الجمعية عندما يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم المنعزلة إلى بعضهم بعضا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود إلى تكوين المعتقد ، وهو حجر الأساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي. فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول أجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مرشدة لتجربتها. وعندما يوضع المعتقد الديني في صيغته الناجزة وأطره الثابتة، يجد الأفراد أنفسهم مضطرين، وبدافع الميكانيكية التي تربط الفرد بالجماعة، إلى التماثل معه، وإلى فهم وتفسير خبراتهم وفقه. ومع المعتقد الذي ترسخ الآن يظهر الطقس المنظم، وهو أقوى أشكال التعبير عن الخبرة الدينية وقد انتقلت إلى مستواها الجمعي. فمن خلال القرابين والرقص والحركات الدرامية التي تؤدى وفق سيناريو ثابت، تعمل الجماعة على دمج الاستجابات الانفعالية المتفرقة في استجابة ذات طابع مؤسس عام، ترسم موقف الجماعة الخاص من القدسي الذي تستشعر حضوره الشامل في النفس وفي الطبيعة. ومع المعتقد أيضا تظهر الأسطورة التي تعمل على توضيح الاعتقاد وتجذيره. ولسوف أتوقف فيما بعد عند هذه العناصر الثلاثة وأشرحها بالتفصيل؛ لأني أرى فيها المكونات الأساسية للدين.
ويمكن مقارنة العلاقة بين الدين الفردي والدين الجمعي بالعلاقة بين الفرد والمجتمع؛ فنحن مهما عدنا بالزمن إلى الوراء، لا نستطيع تلمس دلائل تشير إلى وقت عاش خلاله الأفراد البشريون في عزلة عن بعضهم البعض، بل إننا نواجه الإنسان على الدوام ضمن جماعة، حتى عند أسلاف «النياندرتال» من أشباه الإنسان. غير أن حقيقة اجتماعية الفرد البشري لا تنفي حقيقته الأخرى ككائن ذي وجود مستقل، بل إن هذا الوجود الفردي المستقل هو الوحدة الأساسية التي يقوم عليها بناء المجتمع، وهذا ما ينطبق أيضا على الدين الفردي والدين الجمعي. لقد حكى ابن طفيل الأندلسي في كتابه «حي بن يقظان» عن كائن بشري عاش حياته في عزلة كاملة عن الأناسي منذ أن التقطته غزالة في القفر وأرضعته، وشرح لنا الخبرة الدينية لهذا الكائن، وكيف توصل إلى اعتقاد ديني معين من خلال حركته الذهنية والنفسية ودونما إيحاء من أحد. غير أننا في الواقع لا نستطيع العثور على مثل هذا الكائن في ماضي البشرية وحاضرها، لنختبر عنده نشوء الحس الديني وتحول هذا الحس إلى معتقد ناضج. ومع ذلك فإن هذا لا ينفي، في اعتقادي، أن الدين كظاهرة اجتماعية إنما يقوم انطلاقا من ظاهرة فردية في أساسها.
ويعتقد كارل غوستاف يونغ بوجود جدلية لا غنى عنها بين الدين المؤسس اجتماعيا وبين الخبرة الدينية الفردية المباشرة. وهو يرى أن للدين وظيفة نفسية كبيرة الأهمية في المجتمع؛ لأنه يقدم للأفراد جملة من الرموز الموظفة في معتقد وطقس منظمين تنظيما مكينا، من شأنها التعويض عن الخبرة الدينية المباشرة ورد غائلتها في الأحوال الشديدة. وقد شرح حالات كثير من مرضاه النفسانيين الذين واجهوا تجربة دينية ساحقة في ظل الإصرار على رفض الخضوع لسلطان مرجع ديني، وشرح كيف رافقهم في انهياراتهم النفسية الشديدة، حتى لقد بات مقتنعا بما للعقيدة والطقس من أهمية عظيمة بما هما منبعان للصحة العقلية. يقول في كتابه «الدين في ضوء علم النفس»: «إذا جاءني مريض كاثوليكي، نصحت له بالاعتراف والمناولة لكي يدفع عن نفسه غائلة الخبرة المباشرة، أما إذا جاءني مريض بروتستانتي فما كانت النصيحة مفيدة له؛ لأن العقيدة والطقوس غدت في البروتستانتية باهتة وخافتة، حتى لقد فقدت تأثيرها إلى حد كبير. يضاف إلى ذلك أن الكاهن البروتستانتي قد خضع لتدريب علمي في معاهد لاهوتية قضت على براءة الإيمان.»
17
وهذا ما يقودنا إلى المؤسسة الدينية، وهي التبدي الثالث للظاهرة الدينية وفق تصنيفنا. (3) المؤسسة الدينية
يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها إلى درجة تبعث على التشويش، وتؤدي إلى نتائج مفجعة في بعض الأحيان. ولعل أوضح مثال على ما أسوقه هنا، هو تلك الجملة التي وردت في كتاب للفيلسوف الاجتماعي كارل ماركس (1818-1883م)، والتي تقول بأن «الدين أفيون الشعوب». فلقد تحولت هذه الجملة، بعد أن انتزعت من سياقها، إلى شعار رفعته أحزاب في موقع السلطة، وحاربت من خلاله كل أشكال الحياة الدينية، حتى ظنت أنها قادرة على اجتثاث الميل الديني من نفوس الناس طرا. والحقيقة أن ما قصده ذلك الفيلسوف ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين، على تفسير المؤسسة الدينية للدين لا على تدين الناس، على تسييس الدين واستخدامه أداة ضغط وتسلط، سواء من قبل السلطة الزمنية، أم من قبل أية شريحة أو فئة تجعل من نفسها قيما على دين الناس ومرجعا أعلى لتفسيره والعمل بموجبه.
وفي الحقيقة، فإن المؤسسة الدينية هي بنية اجتماعية حديثة نسبيا في تاريخ الحضارة الإنسانية؛ فلقد عاشت الجماعات البشرية وفقا لمعتقداتها، ومارست طقوسها، وقصت أساطيرها لعشرات الألوف من السنين، دون مؤسسة دينية تشرف وتوجه وتجعل من نفسها السلطة المرجعية العليا. ربما قام أفراد متميزون، في مجتمعات العصر الحجري والمجتمعات القروية الأولى، بالإشراف على الطقوس الدينية والتوسط بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية، إلا أن هؤلاء لم يتخذوا صفة الكهان المرسومين، ولم يتمتعوا بسلطة مطلقة على الحياة الدينية لجماعاتهم. وربما تركزت الطقوس حول أماكن مقدسة كغابة ما أو بحيرة أو نبع، أو موضوعات مقدسة كشجرة ما أو صخرة، ولكن دور العبادة المكرسة لم توجد ولم تأخذ طابعها المعروف، إلا في نهايات العصور الحجرية والاقتراب من مطالع الفترات التاريخية. وتؤكد نتائج التنقيب الأثري في مواقع العصر الحجري الحديث (النيوليتي) ملاحظتنا هذه؛ ففي المستوطنات المستقرة الأولى السابقة للزراعة، لم يلحظ المنقبون بنى معمارية خاصة استخدمها الناس لأغراض العبادة، وذلك رغم عثورهم على الكثير من اللقى الأثرية ذات العلاقة بالمعتقدات والطقوس الدينية. أما في المواقع الزراعية التي تبدأ في الظهور والانتشار مع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، فهنالك دلائل قليلة جدا على وجود بيوت متواضعة لا تختلف عن بيوت السكن، مخصصة لأغراض دينية. ولا تأخذ هذه البيوت العادية بالتمايز عن غيرها والتحول إلى هياكل حقيقية إلا مع اقترابنا من العصور التاريخية. يضاف إلى ذلك أن الدراسة المدققة لعادات الدفن والهدايا الجنائزية المرافقة للموتى مثل السلاح والأدوات الشخصية، لم تثبت وجود شخصيات ذات طابع اجتماعي متميز مثل الملوك والقادة ورجال الدين. الأمر الذي يدل على أن هذه المناصب لم تكن مناصب دائمة، وأن شاغليها كانوا يختارون في وقت الحاجة ويستغنى عنهم كلما بطلت الحاجة إليهم، أو يستبدل غيرهم بهم دوريا. وهذا إجراء يتناسب وحالة المشاعة الأولى المترافقة مع ديمقراطية بدائية.
تأخذ ملامح المؤسسة الدينية بالتوضح خلال المرحلة الانتقالية بين المجتمعات القروية والمجتمعات المدينية الأولى.
অজানা পৃষ্ঠা