দিন ইনসান
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
জনগুলি
لقد حاولت بشكل أساسي تجنب أمرين؛ الأول فلسفة الدين، والثاني تاريخ الأديان. فالفلسفة تبقى بعد كل شيء امتدادا لفكر صاحبها، وتعبيرا عن توجهاته ومواقفه، إنها أمر شخصي بحت، ولدينا من الفلسفات قدر ما لدينا من الفلاسفة. وبما أني راغب عن تقديم وجهة نظر شخصية في مسألة الدين، راغب في وصفه وتحديده موضوعيا، فقد ابتعدت قدر المستطاع عن فلسفة الدين وفلاسفته، وعن إقحام أي رأي شخصي، مما يمكن للباحث أن يحمله ويضطر إلى وضعه على الرف مؤقتا، فيما لو كان جادا في التعلم من بحثه في اكتناه الواقع، لا في وضع هذا الواقع ضمن إطار ذهني مرتب مسبقا. أما تاريخ الأديان، فيعتمد منهجا تاريخيا يلجأ إلى تحليل الأديان المختلفة في سياقها التاريخي؛ أي إنه يحاول الكشف عما حدث فعلا، ودون العناية بفهم عميق لما حدث، أو تقديم تركيب منظم يجمع الظواهر الدينية التي يدرسها إلى ظاهرة واحدة. في محاولتي الابتعاد عن هذين التوجهين، وجدت نفسي مع أصحاب المنهج الفينومينولوجي (= الظاهراتي).
والفينومينولوجيا، كما وضع أسسها إدموند هوسرل (1859-1938م)، هي طريقة وصفية في البحث، تبتعد عن النظريات الفلسفية، وتحاول حدس ووصف الظاهرة كما تبدو لتجربتنا المباشرة؛ أي وصف طبيعتها وطرق تبدياتها وتعبيراتها عن نفسها. ففي مقابل انشغال الفلسفة التقليدية بتحليل المفاهيم، والتركيز على العقلاني، فإن الظاهراتية تركز على كلية التبدي الظاهراتي في التجربة الإنسانية، والتوجه إلى موضوع بحثها كأمر قائم في ذاته، لا يمكن إرجاعه إلى ظاهرة أخرى تحتويه. من هنا، هاجم هوسرل الإرجاعية السيكولوجية، التي يحاول علماء النفس من خلالها إرجاع كثير من الظواهر (ومنها الظاهرة الدينية) إلى الظاهرة النفسية. هذا الموقف الرافض للإرجاعية يحرر الباحث الفينومينولوجي من المواقف المسبقة، التي لم تخضع أصلا للنقد، والتي تمنعه من الالتفات إلى الخصوصية والتنوع في الظاهرة التي يدرسها، وهذا ما يعينه على توسيع وتعميق تجربته المباشرة، ويؤمن له وصفا دقيقا لهذه التجربة، لا يختلط بالأحكام القيمية. هذا عن الفينومينولوجيا الفلسفية. أما عن الفينومينولوجيا الدينية، فإنها تطبيق لطرائق الفينومينولوجيا على دراسة تاريخ الدين؛ أي إنها تشغل مكان الوسط بين الفلسفة والتاريخ، وتطرح منهج بحث عملي، لا فلسفة بالمعنى التقليدي.
إن ما يميز الفينومينولوجيا الدينية بشكل خاص هو ميلها إلى العمومية، وتقصيها لكل ما هو مشترك وعام بين الظواهر الدينية. وهي إذ تصف وتنظم وتنمذج موضوعاتها، إنما تعمل على استقصاء البنية الجوهرية والمعنى في الظاهرة الدينية. ورغم أن الظاهراتي يتحاشى فرض أحكامه وقيمه على موضوع بحثه، إلا أنه ينطلق في الوقت ذاته من موقف متعاطف مع هذا الموضوع، وبشكل خاص مع الجانب الإنساني فيه. فهو في وصفه للكيفية التي يعي بها المؤمن إيمانه ويفهمه، فإنه يحترم القيمة المطلقة التي يعزوها هذا المؤمن لعقيدته. وهذه نقطة يتوجب علي منذ البداية أن أجعلها واضحة تماما. عن هذا الموقف المتعاطف الذي لا ينشأ عن أفكار مسبقة، يقول كارل غوستاف يونغ، منشئ علم النفس التحليلي، ما يأتي: «على الرغم من أنني كثيرا ما أدعى فيلسوفا، إلا أنني امرؤ تجريبي، وأنطلق من موقف فينومينولوجي، ظاهراتي بحت. وهو موقف يعنى بالحوادث والخبرات، وتقوم حقيقته على الوقائع لا على الأحكام؛ فحين يتحدث علم النفس التحليلي، الذي أمثله، عن الميلاد العذري مثلا، فإنه لا يعنى إلا بواقعة وجود مثل هذه الفكرة، ومن دون التطرق إلى مسألة صحة الفكرة أو خطئها. فهذه الفكرة صحيحة سيكولوجيا، من حيث إنها فكرة موجودة. والوجود السيكولوجي هو وجود ذاتي بقدر ما تخطر الفكرة على بال إنسان واحد، وهو وجود موضوعي بقدر ما يترسخ بإجماع الناس عليه. والحق، فإن أفكارا معينة تكاد توجد في كل مكان وكل زمان، وهي قادرة على أن تخلق نفسها بصورة تلقائية وفي معزل عن النقل أو التقليد. هذه الأفكار لا يصنعها الفرد بل تحدث له، حتى لتفرض نفسها على وعيه فرضا. إن ما أقوله هنا ليس فلسفة أفلاطونية، بل علم نفس تجريبي.»
2
وعلى هذا، فإن ما أضعه بين يدي القارئ، فيما يأتي من الصفحات، هو مساهمة في فينومينولوجيا الدين، تتميز، على ما آمل، بالجدة في مقترباتها ومعالجاتها ونتائجها؛ ذلك أن عملا يأتي في هذا الوقت المتأخر عن فترة ازدهار هذا النوع من البحث على المستوى العالمي، لا بد من أن يحمل معه مسوغات قوية لظهوره. وإني لأعترف بفضل اثنين من المفكرين زوداني بالإطار الفكري السليم اللازم لإنجاز هذا الكتاب، وهما: إميل دوركهايم
Emile Durkheim ، المفكر وعالم الاجتماع، الذي أعطى لدراسة الدين نكهة العلم، وفريتجوف كابرا
Fritjof Capra
الفيزيائي الذي أعطى الفيزياء الحديثة نكهة الحكمة.
الباب الأول
ما هو الدين؟
অজানা পৃষ্ঠা