إهداء
مقدمة
1 - العقيدة والتضحية البشرية
2 - مصر وتقديم الأضاحي البشرية
3 - قرابين الأضاحي البشرية في بعض المجتمعات الأفريقية
4 - القرابين والأضاحي الآدمية في بلاد الرافدين
5 - الأضاحي البشرية في بلاد الأناضول
6 - الأضاحي البشرية في الهند واليابان والصين
7 - الأضاحي البشرية في الأمريكيتين
8 - الأضاحي البشرية في أوروبا
9 - الخاتمة والنتائج
10 - قائمة المراجع العربية والمترجمة
11 - قائمة المراجع الأجنبية
إهداء
مقدمة
1 - العقيدة والتضحية البشرية
2 - مصر وتقديم الأضاحي البشرية
3 - قرابين الأضاحي البشرية في بعض المجتمعات الأفريقية
4 - القرابين والأضاحي الآدمية في بلاد الرافدين
5 - الأضاحي البشرية في بلاد الأناضول
6 - الأضاحي البشرية في الهند واليابان والصين
7 - الأضاحي البشرية في الأمريكيتين
8 - الأضاحي البشرية في أوروبا
9 - الخاتمة والنتائج
10 - قائمة المراجع العربية والمترجمة
11 - قائمة المراجع الأجنبية
دماء على بوابات العالم السفلي
دماء على بوابات العالم السفلي
دراسة أثرية حضارية
تأليف
زينب عبد التواب رياض
بسم الله الرحمن الرحيم
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين
سورة المائدة، الآية 27
إهداء
إلى رموز التضحية في عالمي الصغير
إلى والدي الذي بذل سنين عمره من أجل أن أعتلي سلم النجاح، وإلى والدتي التي جعل الله الجنة تحت قدميها، والتي منحت بغير مقابل وكان لها أعمق الجهود في تحقيق كل نجاح وفقني الله إليه، حفظكما الله.
زينب عبد التواب
مقدمة
أدرك الإنسان الأول منذ بدء الخليقة أن روحه في حاجة إلى قوة تحميه ويأوي إليها، وكانت روحه ترتجف جوعا إلى هذه القوة مثلما كان جسده يرتجف جوعا إلى الأكل والأمان، فبدت تتشكل بداخله العديد من التخيلات بشأن الشمس والأرض والسماء بل الأحلام أيضا؛ فمرة يعتقد أن أباه الذي يظهر له في الحلم هو هذه القوة الخفية فيعبده ويقدم له القرابين ويتخذ من قبره مزارا، ونشأت من هنا عبادة أرواح الأسلاف.
ومع تطور معرفة الإنسان البدائي وارتقائه أخذ يتصور أن روح هذا الأب أو الجد يمكن أن تحل في حيوان أو شجرة فانتقل إلى عبادة الحيوانات والأشجار، وأصبح لكل قبيلة حيوانها الخاص الذي تعبده وتبجله، ومن هنا نشأت فكرة «الطوطم».
ومع تطور الفكر الإنساني تعددت القوى وتبدلت بما يتوافق مع تعدد حاجات هذا الإنسان البدائي ومخاوفه، بالإضافة إلى تعدد العوامل الجغرافية والطبيعية التي عاشها ذلك الإنسان، ومن هنا نشأت أولى الأفكار التي كونها الإنسان بطبيعته الفطرية، ونشأت بالتالي عادة التضحية بالبشر، تلك العادة التي أراد منها الإنسان التقرب من الآلهة!
ولم تقف عادة تقديم الأضاحي البشرية عند الحدود الزمنية للإنسان البدائي، وإنما امتدت لتجد لها صدى في العديد من البلدان حتى الوقت الحالي، فلا زالت عادة التضحية البشرية تمارس في إطار من الغموض والطقوس السحرية ببلاد عدة بغرض الحفاظ على القديم من العادات والمعتقدات الموروثة.
وبصفة عامة يجب عدم النظر إلى الديانات القديمة بمعزل عن الديانات الحالية؛ وذلك حتى يسهل علينا توضيح الفروق بين الدين والأسطورة في بعض المجتمعات والقبائل البدائية، ولمحاولة فهم طبيعة الفكر والمعتقدات التي أدت إلى وجود عادات تقديم الأضاحي البشرية وبقائها حتى الآن في بعض المجتمعات ذات الديانات الوضعية التي لا زالت تحيا حياة إنسان عصور ما قبل التاريخ.
فكي يتسنى لنا فهم الغاية من تلك العادة علينا أن نترك العنان للخيال يسبح بنا في ماض بعيد مظلم مليء بالوحشية نهارا وبالخوف والفزع ليلا، وما بين هذا وذاك عاش الإنسان الأول بقدراته البائسة ورغبته في الحياة وخوفه من الغد بل من اللحظة القادمة!
وهو في سبيل ذلك كان على استعداد لتقديم الغالي والنفيس كي يأمن عاقبة المخاطر التي تحيط به؛ فهو تارة يقدم قربانا حيوانيا وتارة يقدم قربانا بشريا وينتظر النتيجة، يترقب البيئة ويحتاط لها بالمزيد من الأضاحي لتهدئة غضب الطبيعة، وللحصول على مرضاة الإله!
ولقد مارست أغلب شعوب الأرض في العالم القديم بل الحديث أيضا؛ عادة التضحية البشرية، وكان ذلك انطلاقا من الفكر غير الواعي بحقيقة الإله الذي طالما سعوا إلى نيل مرضاته، ولا يزال هناك العديد من الشعوب البدائية تمارس تلك العادة حتى وقتنا الحالي، ولا بد أن تلك العادة كانت قد اتخذت أشكالا مختلفة، وكانت لها بداياتها ودوافعها التي أدت بها إلى تواجدها وانتشارها في شتى أرجاء العالم؛ فقد عرفت تلك العادة في العديد من دول الشرق الأدنى القديم وعرفت كذلك في أوروبا وتركيا والهند وغرب أفريقيا والأميركيتين وبولينيزيا وغيرها من بقاع العالم، وكان لكل دوافعها وأسبابها ولكن الغاية تكاد تكون واحدة.
وللوقوف على تلك الدوافع والأسباب كان لا بد من إلقاء الضوء على فكر وطبيعة حياة الإنسان الأول منذ البدء؛ فلا شك أن مدعيات الحياة كانت من أول الأسباب التي دعت الإنسان إلى اتخاذ مختلف الأسباب التي تمكنه من أن يحيا في أمان، فعندما نضع الإنسان البدائي في مواجهة مع الطبيعة، يجب ألا نغفل دور غريزة حب الحياة في هذه العلاقة، تلك الغريزة التي دفعت الإنسان لمحاولة تكييف الطبيعة لصالحه، وأن يستبدل بالظروف الطبيعية القاسية المفروضة عليه ظروفا أخرى يريدها، وهو في سبيل ذلك اتخذ كل السبل الممكنة لتحقيق الأمن والأمان له، وكانت عادة التضحية الآدمية واحدة من تلك السبل التي عرفها واستخدمها لينال رضا الآلهة ويحيا دون مخاطر.
لم يأخذ الإنسان البدائي الظواهر الطبيعية على أنها ظواهر معزولة عن كيانه، بل نظر إليها على أنها تدبر حياته وتتحكم فيها، هكذا تشكل للإنسان البدائي موقف من الطبيعة، ما بين خوفه منها ورغبته في الانتفاع بها، وهذا الموقف هو في حد ذاته موقف من نفسه؛ فهو دليل على شعوره بعجز المقاومة من ناحية والخوف على وجوده من ناحية أخرى.
وشيئا فشيئا أصبح هذا الإنسان صانع العبادات والمعتقدات والطقوس والرسوم في الكهوف دائم التطلع إلى عالم آخر حقيقي، وربما كان قد استقر في وعيه ملامح هذا العالم فأخذ يصوره ويرنو إليه بخطى حثيثة، وتجسد كل ذلك في صور عدة من الأساطير التي صاغها للوصول إلى هذا العالم.
واحتلت الأسطورة حيزا مهما من تراث الإنسانية ومجتمعاتها كافة، ولا يخلو مجتمع أو حضارة من أساطير ترتبط بتراثه جنبا إلى جنب مع الأشكال الأدبية والفنية الأولى التي تميز ثقافة ذلك المجتمع. وليس من السهل أن نعود لأكثر من سبعة آلاف سنة مضت لندرك ما كان يفكر فيه أسلافنا، وما اعتقدوا في الحياة والموت؛ أو لنستطيع أن نتصور كيف حاولوا تفسير أسرار الحياة والطبيعة وما يتعلق بهما، وما يزخران به من أشياء محيرة، خصوصا في ظل عدم استطاعتهم تدوين ما يختص باقتناعاتهم في تفسير ما كان يحيط بهم من ظواهر وأمور غامضة، ولكن بإمكاننا أن نمسك بالمفتاح الذي يزودنا ببعض المعلومات فيما يتعلق بمعتقداتهم، وذلك من اللقى والاكتشافات الأثرية التي يكتشفها علماء الآثار هنا وهناك، كالرسوم والنقوش الصخرية والتماثيل البدائية والمذابح والأدوات الحجرية؛ فجميعها أشياء تعطينا مغزى حقيقيا لدين معين. وإن لم يكتب الأقدمون شيئا، فبإمكاننا أن نستقرئ التاريخ بخصوصهم من خلال العادات والتقاليد التي لا تزال موجودة حتى اليوم، ومن خلال ما وصلنا مكتوبا على صفحات العصور التاريخية القديمة.
الفصل الأول
العقيدة والتضحية البشرية
كان السحر والدين في المجتمعات البدائية وجهين لعملة واحدة، ففي منظور السحر تتحول الأشياء كلها إلى رموز فيصبح الشيء هو الرمز نفسه، والرمز هو الكلمة، بينما يرتبط الدين بالقدرة الخارقة للآخرين سواء أكانوا آباء أم آلهة، وكانت المجتمعات البدائية تمارس الفعل عبر الرمز.
ولا أدل على ذلك من النقوش الصخرية ورسوم الكهوف التي عبر فيها الإنسان البدائي بالرمز عن أهدافه وغاياته، إن إنسان ذلك العصر بتنفيذه لرسومه ونقوشه الصخرية لم يكن يقصد منها مجرد أعمال فنية خالصة، بل كانت نوعا من التعاويذ السحرية التي من شأنها أن تحمي الصياد وتدله على مناطق الصيد الوفير. وتعتبر تلك الرسومات الصخرية في نظر إنسان ذلك العصر بمثابة ضمان ورمز سحري له أثره في التوفيق في عمليات الصيد.
1
وكان من أمثلة خدمة الفن للسحر في تلك الفترة ما جاء في رسم كهف الإخوة الثلاثة بفرنسا (شكل
1-1 ) حيث مثل الساحر بهيئة رجل متوج بقرون ظبي، أنفه يشبه منقار طير جارح وعيناه مدورتان كعيون البومة، أعضاؤه العليا قصيرة بصورة غير عادية، منتهية بمخالب تشبه مخالب الدب. وله ذيل حصان وعضو تناسلي لرجل يظهر بغرابة تحت الذيل. يبدو هذا الخيال الغريب ذو نصف الانحناءة وكأنه يؤدي رقصة طقسية كنوع من الممارسات السحرية.
2
وربما قصد من وراء هذا التخيل الإشارة إلى انتقال القوة الحيوانية ذات الرمز الطوطمي إلى البشر من خلال الدمج بين كلتا الهيئتين الحيوانية والآدمية، وذلك من خلال الرجل ذي القناع «الشامان» الذي يعد وسيطا روحيا بينهما؛ فهو مرشد الروح بين الطوطم «الحيواني» والإنسان.
3
شكل 1-1: ساحر كهف الإخوة، فرنسا. (
Mikhailova, N., the Cult of the Deer and “Shamans” in Deer Hunting Society, in: Baltica Archaeologia, vol. 7, 2005, p. 191, fig. 2.4 .)
ونستطيع استيضاح الأمر نفسه مع السحر في القبائل البدائية؛ فالأشياء التي يستخدمها الساحر في عمله السحري كلها أشياء رمزية كالتمائم والأدوات الطقسية مثل العصي والقرون والأكياس والأحجار والخرز والعظام وقطع الحديد والأحجبة وغيرها، وكانت هذه الأشياء في الماضي تكتسب قوتها أو قدسيتها العالية من تلامسها مع الأضحيات البشرية التي تحولت فيما بعد إلى أضحيات حيوانية تنحر من أجل أن تنتقل القوة المقدسة من دمائها إلى مادة التميمة، وهناك أيضا بعض التمائم التي تكتسب هذه القوة القدسية من الكلمة؛ إذ ما إن يعزم عليها أو تلقى الكلمة التعويذية السحرية عليها حتى تكتسب هذه القوة، وأحيانا يكون هذا الاكتساب عن طريق الدم والكلمة معا.
4 (1) مفهوم الدين وتطوره
يشكل الدين حجر الأساس لبناء أي مجتمع؛ فهو ضمير المجتمع وفكره، وهو المرآة التي تعكس مدى تطوره، ولقد اختلفت دلالات ومفاهيم الدين من مجتمع لآخر نظرا لأن الدين من الموضوعات التي يحيط بها الغموض وعدم الوضوح وتشتبك الآراء نحو تفسير جوهره، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأديان البدائية، إن صحت هذه التسمية، نظرا لما يحيط تلك الحقبة بأسرها من ضبابية، وللتناقضات المرتبطة بالتطور الإنساني الذي يتجاوز أنماط التفكير الحالي.
فالأديان البدائية بشرية الهوى والهوية، تعبر عن فكر ووعي الإنسان الأول بأريحيته وبساطته، الذي نسج بتصوراته البسيطة أساطير تفسر أسباب الحياة والوجود، وأصبحت هذه التصورات والانطباعات رؤى مقدسة لها مفرداتها.
ويمكن القول إن الدين البدائي هو رد فعل دفاعي ووسيلة يتقي بها الإنسان الخطر الذي قد يتعرض له في الطبيعة، وذلك من خلال التمسك بعقائد وأفكار تجعل لديه رد فعل دفاعيا يقاوم به أخطار الطبيعة،
5
ولكن يبقى الموت، ذلك الحدث الذي لا حيلة للإنسان فيه، ولأن قوانين الحياة تحول دون استحالة اجتناب الموت؛ فقد ساد الاعتقاد باستحالة بقاء الأفراد الذين يؤلفونها إذن فلن يبقى الأموات،
6
ولكن يبقى الخوف منهم؛ فالخوف أول ما أوجد الآلهة في العالم، فمما لا شك فيه أن انفعال الإنسان إزاء الطبيعة أصل من أصول الأديان، وفي نفس الوقت فالدين ليس خوفا بقدر ما هو رد فعل ضد الخوف.
7
ولقد مر الدين بمراحل عدة يمكن تسمية كل مرحلة منها بأهم ما يميزها من سمات حضارية كما يلي: (1)
الدين في مرحلة الصيد. (2)
الدين في مرحلة الرعي. (3)
الدين في مرحلة الزراعة. (4)
الدين في مرحلة التعدين. (1-1) الدين في مرحلة الصيد (العصر الحجري القديم)
وهو الدين الذي عرف في مرحلة الصيد حيث بداية صناعة الأدوات الحجرية واكتشاف النار، وكان هذان الحدثان من أهم إنجازات العصر الحجري القديم على المستويين المادي والروحي، وقد انعكسا على تطور وعي وفكر الإنسان؛ فقد كان اكتشاف النار واستعمالها أمرين ينطويان على الكثير من الأبعاد العملية والروحية للإنسان؛ إذ كانت النار تحمي كهوف الإنسان من الكوارث والبرد القارس، وكانت تستخدم لطهو الطعام، فبمعرفة النار أصبح الإنسان أكثر قوة من ذي قبل، وأصبحت النار بمثابة الشيء المقدس الأول الذي حرك النوازع الدينية الأولى نحو تشكيل هوية دينية بدائية.
8
ثم لاحظ الإنسان قوة الحيوانات وتنوعها بل منافستها له أيضا فبدأت تظهر بعض ملامح تقديس الإنسان للحيوان وقد نجد في هذا التقديس تفسيرا منطقيا لما عرف في الديانات الطوطمية التي رأت في الحيوان المقدس مبدأ جمع شمل القبيلة وأن افتراسه في طقوس دينية جماعية كان يعني توزيع هذا المقدس على أبناء القبيلة حيث يقوم بجمعهم في صلة واحدة قوية.
9
وقد شهد العصر الحجري القديم ظهور نوعين من الفن عبرا عن الفكر الديني وهما: الفن التشكيلي والذي يتجلى في رسوم الكهوف؛ وفن النحت الذي تجسد في التماثيل الأنثوية التي عبرت عن الإلهة الأم، ويعتقد البعض أن «ظهور الفن في هذا العصر ليس من أجل الفن في ذاته بل هو لخدمة أغراض دينية».
10
لا سيما أن الكهوف كما يراها البعض ما هي إلا معابد الإنسان الباليوليتي، رسم الإنسان الأول على جدرانها بكل تبتل وعناية رسوما وصورا روحية أضفت عليها صفة التقديس.
11
الشامان (رجال الدين)
كان الشامان.
12
في اعتقاد إنسان العصر الحجري القديم هو الساحر والعراف والطبيب والحاكم لأنه كان قادرا على حيازة النار وإضرامها والسيطرة عليها، ونظرا لأن النار كانت تشكل ضرورة حيوية لحياة الإنسان في تلك المرحلة، فكثيرا ما ظهرت النار بحوزة الشامان، ولقد لعب الشامان دورا هاما في ذلك العصر، وضح ذلك الدور من خلال العديد من الأعمال الفنية ورسوم الكهوف.
13
ويعتقد خزعل الماجدي أن ظهور الشامان في هذا العصر كان حاسما في العقيدة الدينية وقد ارتبطت به طقوس وممارسات شعائرية كثيرة، فربما كان مسئولا عن عمليات الدفن الشعائري وتوصيل المتوفى في رحلته إلى العالم الآخر وقد يأتي هذا كله ليس بسبب التقمص السحري للشامان بل بسبب القوة الروحية التي يمثلها الرجال الذين كانوا مؤهلين لأن يكونوا شامان عصورهم
14 (شكل
1-2 ).
شكل 1-2: إعادة تخيل يبين شامان من لاروكي سانت كريستوف (دردوني)، فرنسا.
وبصفة عامة كان الحيوان والشامان قد شغلا الجزء الأعظم من تفكير إنسان العصر الحجري القديم.
15
هذا إلى جانب المرأة التي تمثلت في العديد من الأحيان بتمثيلات تشير إلى الإلهة الأم؛ ومن ثم فقد وعى الإنسان بوجوده أكثر وأصبح أكثر اهتماما بالخصب الجسدي والولادة والتكاثر لأنه أمر لا يقل أهمية عن الغذاء فكلاهما يضمنان بقاء العنصر البشري على سطح الأرض.
16
الدفن والعودة للرحم
يرى خزعل الماجدي أن كلا من النار والحيوان والمدافن والكهوف والصبغة الحمراء التي استخدمها الإنسان البدائي بكثرة في رسوماته؛ كانت لها دلالات معينة تشير إلى الرحم؛ فالنار، كما يشير خزعل الماجدي، ربما كانت تعكس حرارته، وكان دفن المتوفى في وضع القرفصاء يمثل، في رأي الماجدي، «الشكل الأول للجنين»، وقد قرب بعض الباحثين بين دفن المتوفى بوضع الجنين في القبر وبين عودته إلى الرحم بشكل رمزي.
17
الدم ورمزية اللون الأحمر
استخدم إنسان عصور ما قبل التاريخ اللون الأحمر بكثرة في رسومه وطقوس دفنه، وكان هذا اللون يرمز إلى الدم الذي هو قوة وحياة، ونجد أن الإنسان البدائي قد أعطى للدم دلالات عدة؛ ولذا كان الاعتقاد السائد بأن تقديم الأضاحي من أهم الممارسات الطقسية التي تمنع سخط وغضب الآلهة وتجدد قواهم. (1-2) الدين في مرحلة الرعي
في مرحلة الرعي وضح دور الدين بشدة، وظهرت أهمية المرأة بشكل جلي، كما توسعت دائرة الممارسات الشعائرية بسبب بدء استقرار الإنسان ورغبته في السيطرة على عوامل الطبيعة عن طريق السحر،
18
وقد تصور الإنسان البدائي أن على السحر القيام بعدة وظائف؛ فهو يساهم في إخضاع الحوادث الطبيعية للإرادة البشرية، وحماية الفرد من الأعداء والأخطار، ومنحه القوة لإلحاق الضرر بأعدائه.
19 (1-3) الدين في مرحلة الزراعة
أثر الاكتشاف الزراعي في الأفكار والمعتقدات الدينية وأصبحت فكرة الخصوبة هي جوهر الدين في هذه المرحلة؛ ولذا عرف الدين في هذه المرحلة بهذا الاسم؛ فتاريخ الأفكار الدينية يختلط مع تاريخ الحضارة بكل مفرداتها من اكتشاف تقني وتجديد اقتصادي واجتماعي.
20
ولقد أحدث هذا الانقلاب الزراعي توجها عاما نحو تقديس وعبادة النباتات، واحترام وتقديس المرأة باعتبارها رمز الخصوبة، إلا أن هذا لم يمنع من استمرار بعض العبادات السابقة مثل تقديس الحيوان. وظهرت عبادة الجماجم وتقديسها على اعتبار أن الإنسان البدائي كان يميل إلى تقديس روح المتوفى، واتخذ من الجمجمة تجسيدا لها؛ مما أدى إلى ظهور بعض الممارسات الطقوسية المتعلقة بهذا النوع من العبادة اعتقادا بإمكانية بقاء العنصر الروحي للمتوفى عن طريق الاحتفاظ برأس المتوفى. ويعتقد البعض أن ظهور التشخيص في هذه الجماجم ومحاولة الإنسان تشكيل ملامح وجه إنساني هما بدء ظهور فكرة الإله.
21 (1-4) الدين في مرحلة التعدين (فجر التاريخ)
يحدد المؤرخون بداية الألف الخامس قبل الميلاد كتأريخ توصل الإنسان فيه إلى اكتشاف المعادن وبدأ يطوعها ويستعملها في صنع أدوات مختلفة. وقد تراجع في هذه الفترة دور الأنثى ليحل الذكر محلها ويصبح مركز الاعتقادات الدينية؛ لأن الثورة الكالكوليثية، في رأي خزعل الماجدي، ثورة رجولية نتج عنها فيما بعد مفردات جديدة كثيرة؛ فقد ظهرت المدينة والمعبد وظهرت الحرف والعمارة والتجارة وتميزت الحياة الاجتماعية وازداد الدين تركيبا وبدأت العقيدة الدينية تزحزح دور المرأة فظهر الإله الأب والإله الابن بجوار الإلهة الأم وأصبح أبو السماء في أهمية الربة الأم الأرضية.
22
وظلت ظاهرة الموت من أهم الظواهر التي لم يستطع الإنسان أن يتقبلها؛ فقد شغل الإنسان في كل مراحل تطوره واجتهد كي يصل لفهم معناها وهو يصارع وهم الخلود والبقاء كي يتقبل هذا المصير الحتمي الذي لا يطال الإنسان فقط بل كل كائن حي على سطح هذا الكوكب؛ فالإنسان البدائي وقف عاجزا عن فهم سر هذا الاختفاء الغامض الذي يصيب أفرادا منه، وكان أعجز عن القيام برد فعل دفاعي لصده. ولما لم يستوعب هذا الإنسان فكرة الفناء النهائي اعتقد باستمرار الحياة بعد الموت وبوجود عالم آخر، فبدأ يدفن موتاه حفاظا على هؤلاء الأفراد المفقودين من العشيرة، وربما كانت «المدافن والقبور إلى جانب تقديس الجماجم أو عبادة الأسلاف» جميعها أدلة على ظهور الدين لدى الإنسان البدائي.
23
وبناء على ذلك يمكن القول إن هناك حقيقة على غاية من البساطة والوضوح يتوصل إليها كل من يتأمل مسار الحياة الفكرية والروحية للبشر منذ حلول عصر الإنسان العاقل قبل مائة ألف سنة من العصر الحالي، وهي أن تاريخ الإنسان الفكري والروحي هو في المحصلة الأخيرة تاريخ دياناته وأساطيره وسجل إبداعاته الأسطورية والدينية. (2) المقصود بالأضحية والقربان
يعرف القربان بأنه كل ما يقربه العابد من معبوده إلها كان أو روحا في مناسبة دينية أو موسم محدد من صيده أو محاصيله أو طعامه، طالبا عونه في تحقيق منفعة أو اتقاء شر أو وفاء لنذر، وليس القربان خاصا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب.
24
أما الأضحية فهي القربان الذي يتقرب به الإنسان من المعبود ويكون من الذبائح الحيوانية والذبائح البشرية لدى بعض الشعوب، ولقد لعبت القرابين دورا هاما في العديد من الحضارات القديمة بل لدى بعض الشعوب الحالية أيضا.
25
ورغم أن الأديان السماوية أبطلت عادة تقديم الأضاحي البشرية، إلا أن القرابين البشرية لا تزال تقدم ربما حتى اليوم لدى العديد من أصحاب الديانات الوضعية التي تسمى مجازا «ديانات»؛ إذ تمارس في معظمها تقديم القرابين البشرية وتهتم اهتماما خاصا بالدم؛ إذ يثير الدم في النفس البشرية مشاعر غامضة، تتأرجح بين الخوف والتقديس؛ ومن ثم ارتبط الدم منذ عصور ما قبل التاريخ بقدسية ومهابة جعلت منه رمزا مقدسا مرتبطا بالقوة والتجدد والاستمرارية.
وتختلف الأضاحي والقرابين عند الشعوب باختلاف دياناتها وأساطيرها،
26
وقد قسمت هذه القرابين إلى ثلاثة أنواع هي: (2-1) قرابين دموية
كان يعتقد فيها بدور الدم في بعث الروح وتجديد الحياة، فكان يسفك فيها دم الحيوان على مذبح أو على رأس نصب وقد دللت التنقيبات الأثرية على ذلك من خلال كثرة المذابح التي عثر عليها.
27
إن تقديم القرابين إلى الآلهة كان من أهم الشعائر في الديانات القديمة، وتعود حقبة تقديم القرابين إلى بداية ظهور الدين في حياة الإنسان، وكان الهدف من تقديم القرابين إلى الآلهة توطيد الرابطة الدينية بين الإله وبين البشر، وكان من شروط تقديم اللحم كقربان هو اشتراك الإله والبشر في أكله.
28
وكانت الرغبة في تناول لحم الحيوان أو الإنسان المضحى به الذي كان بمثابة المقدس أو الإله؛ فعند أكل جسم الإله يكتسب قواه، وعندما يأكل ذلك الخبز ويشرب الخمر فإنما يتناول العابد جسم الإله ودمه الحقيقي، وكذلك اعتقد أن تلك الآلهة كانت أربابا للناس تتصرف في أمورهم وهي التي تمنحهم الأمن وتوفر لهم الخصب والرزق.
29 (2-2) القرابين المحروقة
ويقصد بها أي نوع من أنواع القرابين سواء أكانت من الحيوانات أو الطيور أو حتى البخور الذي كان يحرق في المباخر، وكان مبدأ الحرق للذبيحة أو البخور يقوم على صعود الرائحة الطيبة إلى السماء لتنال القبول؛ فالمذبح هو المكان الذي يوصل القربان المقدم بآلهته.
30 (2-3) الأضاحي البشرية
كانت ظاهرة تقديم الأضاحي والقرابين البشرية واحدة من الظواهر التي خدمت أغراض طقوس وشعائر دينية لدى العديد من الشعوب والقبائل البدائية.
31
ويقصد بالتضحية البشرية عملية قتل لشخص واحد أو أكثر وتقديمه كقربان ضمن شعائر الطقوس الدينية أو الممارسات الجنائزية، وقد عرفت التضحية البشرية في مختلف الثقافات عبر التاريخ القديم، وما زالت موجودة حتى عصرنا الحديث في العديد من القبائل البدائية بفرضية أن التضحية هي استرضاء للآلهة والأرواح وجلب للمنفعة. وغالبا ما كان الشخص المضحى به سعيدا عند تقديمه قربانا للإله؛ إذ كان ذلك يعد تشريفا له.
32
ويعلل البعض تقديم القرابين الآدمية بأنها وسيلة لإحياء الآلهة وبعثهم بواسطة التضحية البشرية أو تقديم الطعام للطوطم (المعبود الحيواني) والرغبة في توحيد المضحين بحياة أجدادهم.
33
ولقد تباينت أشكال التضحية بحسب تصور تلك المعتقدات البدائية وعلاقتها بالزمان والمكان. ولعل الحس الإنساني بالخطيئة وعمق الرغبة في الخلاص منها، كانا من أهم الأمور المؤثرة على أنظمة التفكير الديني والميثولوجي الناضجة في العديد من الحضارات. وهذا ما جعل الإنسان يستعين بكهنة أو وسطاء أو بطقوس معينة، يظن أنها هي الأصلح لتقديم الأضحية البشرية لنيل الرضا الإلهي.
وسأحاول توضيح ذلك من خلال إلقاء الضوء على بعض من تلك الممارسات لدى بعض الحضارات المختلفة وذلك لتقريب الصورة للأذهان.
الفصل الثاني
مصر وتقديم الأضاحي البشرية
يعد موضوع الأضاحي البشرية في مصر من الموضوعات الشائكة التي تؤخذ على حذر؛ فهناك من ينكرها وهناك من يعترف بها، وإن كانت الغلبة لمن لا يعترف بوجودها في مصر لتعارضها مع فكر المصريين القدماء. وأحاول إلقاء الضوء هنا على مجموعة من الآراء التي ربما قد تبرهن - من وجهة نظر البعض - على وجود إشارات لممارسة التضحية البشرية في الحضارة المصرية القديمة لا سيما في عصر بداية الأسرات، وهل كانت تلك الممارسات تتم بغرض التضحية والتقرب بها للمعبود، أم كانت تؤدى لأغراض أخرى؟ وهل كانت تنفذ على فئة معينة دون سواها، ولماذا؟ (1) الأضاحي البشرية في مصر في عصر ما قبل الأسرات
يرى بعض الباحثين، لا سيما غير المصريين، أن هناك أدلة على معرفة المصريين القدماء للتضحية البشرية في عصر ما قبل وبداية الأسرات، ويرى هذا الفريق أن تلك الأدلة قد تنوعت ما بين العثور على دفنات لأضاحي بشرية، وبين مناظر نقوش ورسوم متنوعة أشارت إلى وجود ومعرفة عادة التضحية البشرية في مصر آنذاك. وهنا عرض لأدلة وجود الأضاحي البشرية في مصر من وجهة نظر مدعيها؛ ومحاولة تفسيرها أو نفيها.
ولقد ظهرت أول أدلة معرفة التضحية البشرية في مصر منذ نهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية عصر الأسرات وخاصة في فترة نقادة الثانية 3500-3200ق.م. إذ عثر في بعض جبانات تلك الفترة على ما يشير إلى عادة تقطيع أوصال جسد المتوفى، وذلك على غرار ما جاء في العضايمة وهيراكونبوليس ونقادة؛ ففي جبانة هيراكونبوليس عثر على العديد من الدفنات الآدمية التي كانت الجماجم فيها فصلت قصدا عن الأجسام، وظهرت علامات القطع على فقرات الرقبة كما يتضح في «شكل
2-1 ».
وثبت وجود نفس تلك العلامات أيضا في حوالي واحدة وعشرين حالة أخرى لرجال ونساء،
1
مما يشير إلى تعرضهم للذبح وفصل الرأس، وقد عثر من بين تلك الجماجم على جمجمة كانت قد تعرضت لعملية إزالة لفروة الرأس في المقبرة رقم
HK43
2 (شكل
2-2 ).
شكل 2-1: علامات قطع على فقرات الرقبة، المقبرة رقم 43 بجبانة هيراكونبوليس. (
Jones J., Funerary Textiles of the Rich and the Poor, Vol. 14, 2002, p. 14 .)
شكل 2-2: جمجمة آدمية تعرضت لإزالة فروة الرأس، الجبانة رقم 43، جبانة هيراكونبوليس. (
Dougherty, S. P., 2004, p. 11 .)
ولقد فسر بعض الباحثين ذلك بأنه نوع من التعذيب أو العقاب.
3 ⋆
لا سيما أنه قد عثر على آثار وجود تعذيب على العديد من البقايا العظمية الآدمية في تلك المقبرة، وفي مقبرة أخرى بالجبانة عثر على بعض العظام الطويلة التي كانت قد فصلت قصدا عن الجثة ووضعت بعناية على طول جدران المقبرة.
4
كما عثر في مقبرة أخرى على سكين من الصوان وبقايا عظام آدمية كانت منفصلة ومكدسة في شكل كومة، ولم يعثر على الجمجمة ولكن عثر على إناء فخاري (شكل
2-3 ) وضع بديلا عنها، وأسفل منه كان السكين وبقايا شعر الرأس.
5
شكل 2-3: دفنة بها بقايا عظام آدمية وسكين من الصوان وإناء فخاري، هيراكونبوليس. (
Friedman, R., 2004, p. 8 .)
وفي نقادة تكرر الأمر نفسه؛ إذ عثر على بقايا عظام آدمية متناثرة بين المقابر أو مفككة عن قصد، ولقد لوحظ في مقابر نقادة أمران:
الأول:
أن بعضها تضمن أكثر من جثة واحدة؛ بحيث وجدت في إحداها خمس جثث.
والثاني:
أن بعض موتاها تعرضت عظامهم لعمليات تفكيك مقصودة أو غير مقصودة ووضعت في غير نظام.
ولقد فسر عبد العزيز صالح تفكيك العظام إلى ثلاثة عوامل - في حالة إذا كان تفكيكا غير مقصود - وهي: استخدام المقبرة لأكثر من مرة واحدة واضطرار أصحابها إلى تكويم عظام المتوفى القديم حيثما اتفق بحيث تشغل أقل حيز ممكن؛ أو نهب المقبرة وبعثرة عظام صاحبها خلال البحث عن حليه التي لبسها أو وضعها أهله معه في الحصير الذي كفنوه به؛ أو اعتداء وحوش الصحراء على الجثة حين تجتذبها رائحتها عقب دفنها.
6
ولكن لو صح ما ذهب إليه عبد العزيز صالح من تفسيرات لكان هناك شيء آخر لا بد من تفسيره؛ ماذا عن آثار القطع والحزوز التي وجدت على فقرات الرقبة بالعديد من دفنات هيراكونبوليس؟ هل كانت لأفراد من الأسرى والمدانين كان يتم قتلهم بهذه الطريقة - كالإعدام في العصر الحالي - أم هي أمور جنائزية وطقوس ذات صلة بممارسات التقدمة البشرية؟
ربما كانت تلك الدفنات بالفعل لممارسات ترتبط بالتضحية البشرية؛ لا سيما أن مثل هذه الدفنات قد تكررت، ولأنه في البعض منها كان هناك دلائل غريبة مثل العثور على السكين الصواني الذي كان مرافقا للدفنة آنفة الذكر، وبقايا لقى أثرية يصعب وضعها مع دفنة لمدان أو مجرم معاقب، والأمر الثاني أنه قد عثر على هذه الدفنات في سياج جبانات تمت العناية بها، فهل يعقل أن يقتل المدان ثم يكرم بدفنه ويصحب معه متاعه الجنائزي؟ (2) الأضاحي البشرية في مصر في عصر بداية الأسرات
استمر العثور على دفنات آدمية فسرها بعض الباحثين بأنها لأضاحي بشرية، وذلك في الجبانة الملكية بأبيدوس والتي تؤرخ بعصر ما قبل وبداية الأسرات.
7
ولقد كانت الجبانة الملكية بأبيدوس واحدة من أكثر الجبانات التي عثر فيها على العديد من الدفنات الفرعية الملحقة بمقابر ملوك عصر بداية الأسرات،
8
وعثر فيها كذلك على أدلة وجود دفنات الأضاحي البشرية - لو صح التعبير - في العديد من تلك الدفنات الفرعية، تنوعت تلك الدفنات ما بين دفنات لأضاحي آدمية ودفنات لأضاحي حيوانية.
9
وكان من أهم الدفنات الفرعية الآدمية تلك التي عثر عليها ملحقة بمقبرة الملك «حور عحا» بالجبانة الملكية بأبيدوس،
10
بعضها كان قريب الشبه من دفنات نقادة وهيراكونبوليس حيث العظام المفككة، والبعض الآخر كان مكتمل الجسد ومزودا بالمتاع الجنائزي على غرار عادات الدفن المتبعة في مصر القديمة، ففي «شكل
2-4 » نرى دفنة آدمية فرعية كانت ملحقة بمقبرة الملك حور عحا بأبيدوس، كان المتوفى قد دفن في وضع القرفصاء وزود ببعض الأواني الفخارية كنوع من المتاع الجنائزي للانتفاع بها في عالمه الآخر.
11
شكل 2-4: دفنة آدمية من الدفنات الفرعية عثر عليها قرب مقبرة الملك حور عحا بأبيدوس. (
http://guardians.net/hawass/press_release_Abydos_05-05.htm2005 .)
ومن الملفت للنظر أنه قد تم العثور على بقايا العديد من العظام الآدمية المتناثرة في بعض المقابر الفرعية الملحقة بمقبرة الملك حور عحا بالجبانة الملكية بأبيدوس، وكذلك عثر من بين ما تم اكتشافه بالجبانة على مقبرة بها مجموعة من العظام الآدمية تم تجميعها داخل تابوت خشبي، وبالقرب منها هيكل عظمي جيد الحفظ لامرأة، ومن خلال الفحص والدراسة تم تحديد العمر الزمني لأصحابها، وتبين أنها عظام لأفراد تتراوح أعمارهم ما بين 20 و25 عاما، ولقد أفاد بعض الباحثين أن هؤلاء الأفراد كانوا من خادمي القصر الملكي،
12 ⋆
تم دفنهم مع الملك ليداوموا على خدمته في العالم الآخر،
13
أو رغبة من هؤلاء الأشخاص في أن يدفنوا بعد وفاتهم مع ملكهم والذي هو صورة الإله، ويعتقد بعض الباحثين أن الأشخاص الذين رافقوا الفرعون إلى قبره لم يقتلوا بل قاموا بالانتحار طوعا عن طريق تناول السم، مما جعل العديد من علماء الآثار يؤكدون ممارسة المصري القديم لعادة التضحية البشرية منذ عصور ما قبل وبداية الأسرات.
14
ولقد تكرر العثور على ما يقترب من 317 دفنة من الدفنات الفرعية الآدمية.
15
أيضا بالقرب من مقبرة الملك «جر»، وعلى ما يزيد عن 242 دفنة عثر عليها حول سياج مقبرته ليبلغ إجمالي ما عثر عليه حوالي 559 دفنة آدمية فرعية لنساء ورجال
16
تمت التضحية بهم ودفنهم حول مقبرة الملك «جر» وبالقرب منها بالجبانة الملكية بأبيدوس
17 (شكل
2-5 )؛ مما جعل كثيرا من العلماء يميلون إلى اعتبار أن تلك الدفنات كانت لخدم.
18 ⋆
تمت التضحية بهم ودفنهم أحياء مع أدواتهم ومتاعهم كي يكونوا برفقة الملك لخدمته في العالم الآخر، وإن هذا التقليد لم يستمر وإنما استعيض عنه في نهاية المطاف بوضع هيئات آدمية رمزية برفقة المتوفى داخل المقبرة.
19
شكل 2-5: مقبرة الملك «جر» من ملوك الأسرة الأولى، جبانة أبيدوس. (
http://www.narmer.pl/abydos/qaab_en.htm .)
ولقد عثر على ما يقرب من 136 دفنة فرعية لرجال ونساء؛ كانت تحيط بمقبرة الملك «دن» بالجبانة الملكية بأبيدوس (شكل
2-6 )، ونظرا لكثرة عددها وتزامنها معا اعتبرها العديد من العلماء بمثابة أضاحي بشرية.
20
شكل 2-6: رسم تخطيطي لمقبرة الملك «دن» والدفنات الفرعية المحيطة بها. (
Dunn, j., The Tomb of King Den at Abydos, in:
http://www.touregypt.net .)
ولم تقتصر تلك الممارسة على البشر وإنما عرفت أيضا عادة التضحية الحيوانية وظهرت بكثرة في العديد من جبانات عصر ما قبل وبداية الأسرات، وكان من أهم ما تم العثور عليه بالقرب من موقع الجبانة الملكية بأبيدوس
21
دفنة حيوانية لحمار عثر عليه بالقرب من الجدار الشمالي الشرقي لما تم اكتشافه مسبقا لدفنات حمير كانت ملحقة بمقبرة أحد ملوك الأسرة صفر.
22
وإذا كان بعض الباحثين نظروا إلى مثل هذه الدفنات باعتبارها أضاحي بشرية ترافق الملك في العالم الآخر، فإن البعض الآخر يرى أن المصريين القدماء عرفوا ظاهرة التضحية البشرية من أجل أغراض طقسية أو دينية، وقد فسر هذا الفريق وجود الجبانات الموجودة حول الأهرامات في الجيزة وسقارة وأبي صير وغيرها، والتي كانت تضم أجساد العديد من المقربين للملك، بأنهم جميعا تم قتلهم عنوة حتى يرافقوه ويعيشوا معه الحياة الأخرى تماما كما كانوا يشاركونه الحياة الدنيا، ولكن هذا رأي يجانبه الصواب؛ لأن المقابر التي عثر عليها حول تلك الأهرامات ما هي إلا مقابر العمال الذين كانوا يقومون بالعمل في بناء الأهرامات.
23 (2-1) مناظر الأضاحي البشرية في عصر بداية الأسرات
يشير العلماء إلى وجود العديد من دلائل ممارسة المصري القديم لعادة التضحية البشرية منذ عصر ما قبل وبداية الأسرات، وكان من أدلة ذلك ما جاء ضمن رسوم مقبرة الزعيم أو المقبرة رقم 100 بهيراكونبوليس، والتي صورت مناظر لأسرى مقيدي الأيدي، وأمامهم شخص واقف ممسك بعصا ربما كان زعيم القبيلة ، يهم بضرب الأسرى الجاثين على الأرض
24 (شكل
2-7 ).
شكل 2-7: جزء من رسوم المقبرة رقم 100 بهيراكونبوليس.
وكان من أدلة ممارسة المصريين القدماء في عصر بداية الأسرات لتقدمة الأضاحي البشرية؛ ما جاء في نقوش بعض البطاقات العاجية التي عثر عليها في الجبانة الملكية بأبيدوس، وكان منها تلك البطاقة (شكل
2-8 ) التي ترجع لعصر الملك حور عحا، ويتبين في نقوش تلك البطاقة العاجية منظر ينطوي على طقسة تتعلق بذبح إنسان؛ إذ نرى رجلا مقيد اليدين جاثيا على ركبتيه، وأمامه رجل آخر يوجه سكينه نحو رقبة الشخص المقيد، وبينهما وبالقرب من الرجل الجاثي يوجد إناء ربما كان الغرض منه استقبال وتجميع الدم الذي ينزف من الضحية حتى الموت.
25
وخلف هذا المنظر نرى رجلا واقفا ممسكا بعصا، ربما كان شخصا ذا سلطة أو مكانة اجتماعية معينة، كان يشرف على تلك المراسم، وعلى عملية نقل الدم واستخدامه في بعض الطقوس العقائدية المرتبطة بالعالم الآخر، والتي ربما كانت الأساس المبكر للعقيدة الأوزيرية فيما بعد.
شكل 2-8: البطاقة العاجية للملك حور عحا ويتبين عليها ممارسة التضحية البشرية. (
http://xoomer.virgilio.it/francescoraf/hesyra/labels/xxaha2.htm .)
ولقد أظهرت نقوش بعض البطاقات العاجية التي عثر عليها بالجبانة الملكية بسقارة؛ تمثيلا لبعض طقوس الأضاحي الآدمية التي كان منها البطاقة (شكل
2-9 ) والتي ترجع لعصر الملك «جر»؛ إذ نرى بالسجل الأول من نقوش البطاقة منظرا ينطوي على طقسة تتعلق بذبح إنسان؛ إذ نرى رجلا مقيد اليدين جاثيا على ركبتيه، وأمامه رجل آخر يوجه سكينه نحو رقبة الشخص المقيد، وبينهما وبالقرب من الرجل الجاثي يوجد إناء ربما كان الغرض منه استقبال وتجميع الدم الذي ينزف من الضحية حتى الموت.
26
وخلف هذا المنظر نرى عملية نقل لهيئة آدمية أقرب للتمثال،
27
وربما كانت تلك الهيئة هي الأضحية البشرية بعد انتهاء مراسم الذبح تنقل تمهيدا للدفن. ونرى اسم الملك «جر» داخل علامة السرخ إشارة إلى أن كل تلك الممارسات تتم تحت سلطة الملك.
شكل 2-9: بطاقة عاجية من عهد الملك «جر»، الجبانة الملكية بسقارة. (
http://xoomer.virgilio.it/francescoraf/hesyra/labels/xxdjer2.htm .)
ولقد فسر بعض الباحثين تلك المشاهد بأنها تعبر عن تقدمة الأضاحي الآدمية، بينما فسر البعض الآخر تلك المناظر بأنها نقوش بها نوع من المبالغة للتعبير عن النصر على الأعداء، وذلك من خلال تصوير الأسرى بهذه الحال. ولقد افترض
Morris
أن طريقة القتل الآدمية كانت عن طريق الطعن وليس الذبح، واستند في ذلك على اثنتين من البطاقات العاجية، عثر عليهما في سقارة بمصطبة «حماكا» أحد كبار موظفي الملك «دن»، كانت نقوش تلك البطاقات قد أظهرت مناظر مشابهة لما جاء على بطاقة الملك حور عحا، إلا أن الشخص القائم بالقتل كان قد صوب سلاحه نحو صدر الضحية، وأسفل الجرح تم وضع إناء لتجميع الدم النازف من الجرح.
28
ومن خلال تلك النقوش يمكن التمييز بين شكلين رئيسين من الأضاحي البشرية هما:
الشكل الأول:
طقوس القتل الآدمي والتي ترتبط بأحداث معينة لا سيما المناسبات المرتبطة بالتتويج وتأكيد انتصار الملك والأعياد أو الاحتفالات الملكية، وكان المساجين من المذنبين والمجرمين وأسرى الحرب هم الفئة التي تقدم في تلك الحالة.
الشكل الثاني:
شكل من أشكال التقدمات والقرابين الآدمية، والتي كان الغرض منها إرساء دعائم الاستقرار ونيل مرضاة الإله.
أما من خلال ما جاء في المقابر المكتشفة فهناك نمط ثالث من تلك الأضاحي الآدمية تمثل في رغبة الملك في اصطحاب الخدم والأتباع معه في العالم الآخر، وذلك من خلال طقوس دفن جماعية تؤدى بعد وفاة الملك.
29
ولقد عبرت نقوش صلاية الملك نعرمر عن العديد من المراسم والطقوس الاحتفالية والملكية، التي كان من بينها قتل أسرى الحرب والمجرمين من الخارجين على الملك،
30
ولقد ربط بعض الباحثين بين تلك المناظر وبين التقدمات أو الأضاحي البشرية في عصر ما قبل وبداية الأسرات، ولعل هذه الصلاية بنقوشها تذكرنا برسوم المقبرة رقم 100 بهيراكونبوليس، ولقد عثر على تلك الصلاية أيضا بهيراكونبوليس بين أطلال معبد المدينة، ولو ربطنا الأحداث لأمكننا القول إن هيراكونبوليس كانت مركزا دينيا وجنائزيا، وكان لها أهميتها في عصور ما قبل التاريخ وبداية الأسرات، وربما كانت تقام بين جنباتها بعض المراسم والطقوس الجنائزية والدينية.
31
ونرى في نقوش أحد وجهي الصلاية الملك نعرمر واقفا بالهيئة الملكية، ومصورا بحجم كبير ، وممسكا بمقمعة القتال،
32
وأمامه حملة الألوية والأعلام، ثم الأسرى وقد صوروا في صفين، وجاءت رءوسهم مقطوعة وموضوعة بين أقدامهم بينما قيدت أيديهم خلف ظهورهم
33 (شكل
2-10 ).
شكل 2-10: الأسرى من المساجين وقد قيدت أيديهم ووضعت رءوسهم بين أقدامهم. (
The Narmer Palette, (Egyptian Museum of Antiquities, Cairo) .)
ولقد فسر
O’Connor
تلك التفاصيل بوجهة نظر لا تخلو من فلسفة دينية؛ إذ ربط بين الدم وبين اللون الأحمر لتاج الوجه البحري الذي يرتديه الملك نعرمر في ذلك المشهد المصور على الصلاية (شكل
2-11 )، فقد رأى أن التاج الأحمر هو الرمز المبكر للدماء والذبح والتدمير، وأن السماء كان يراها المصري القديم حمراء عند شروقها بالفجر؛ ومن ثم كان اعتقاد المصريين القدماء - من وجهة نظر
O’Connor - بأن لون السماء الأحمر في ذلك التوقيت إنما هو تعبير عن نهاية معركة دامية كانت بين رع وأعدائه؛ وأن التاج الأحمر لمصر السفلى بناء على ذلك ارتبط بشروق الشمس وأن ارتداء الملك نعرمر له في هذا المنظر يجعله مقترنا «أو يجعل منه» المعبود رع مقاتلا أعداءه بالليل، وذهب
O’Connor
إلى أبعد من ذلك؛ إذ فسر علامة القارب المصاحبة للمنظر بأنها قارب الصباح للإله رع في رحلته التي قام بها، وأن هذا القارب إنما يشير أيضا إلى شروق الشمس.
34
فالملك إذن هو رمز الإله أو هو الإله القائم بتنفيذ الحكم على الأرض،
35
وكان هذا الاعتقاد هو السائد ليس في تلك الفترة فقط وإنما امتد حتى العصر اليوناني الروماني؛ إذ كان الملك هو الإله أو صورة الإله على الأرض، وهو المنوط به تنفيذ مختلف الأحكام على المذنبين.
36
شكل 2-11: تفاصيل من الجزء العلوي لصلاية الملك نعرمر.
وأخيرا يمكن القول إن فكرة ممارسة المصريين القدماء لعادة التضحية البشرية من الأفكار التي تؤدي إلى مزيد من الخلافات العلمية؛ فهناك أدلة تجعلنا نميل إلى الاعتراف بوجود تلك العادة في مصر، وهناك أدلة أخرى شائكة لا تؤكد وجود تلك العادة في مصر لا سيما أن أغلب ما عثر عليه من دفنات آدمية فرعية ملحقة بمقابر ملوك عصر بداية الأسرات؛ كانت مزودة ببعض المتاع الجنائزي، وكانت قد دفنت بنفس تقاليد الدفن المتبعة في مصر القديمة، أي لا ينطبق عليها سمات التضحية البشرية، فكيف يضحى بإنسان ثم يزود بالمتاع الجنائزي؟
وجدلا إن افترضنا أنها دفنات لأضاحي بشرية، فلا بد أنها كانت قد تمت بمرضاة صاحب الدفنة؛ ليصحب الملك في العالم الآخر وربما كان هذا التبرير يوضح سبب وجود المتاع الجنائزي المصاحب للمتوفى، وعدم وجود أي من آثار الدفاع عن النفس من قبل المتوفى في تلك الدفنات.
والأمر الثاني لا بد أن نسأل أنفسنا: هل كل ما صوره المصري القديم كان لا بد لأمور واقعية، أم ربما كان يعبر بفنه عن أحداث بها كثير من المبالغة ربما رغبة في التخويف، وربما بهدف إرساء قواعد الحكم وإرهاب الخارجين عن الملك، أيا ما كانت الأسباب فإننا بصدد فترة غابت فيها الكتابة، ونعتمد فيها على استقراء الأحداث، وعلى دراسة ما بين أيدينا من أدلة ملموسة لدفنات آدمية غلفتها الغرابة وأحاط بها الغموض. (3) فكرة وجود التضحية البشرية في مصر في العصور التاريخية القديمة
فسر بعض الباحثين لا سيما المستشرقين وجود المقابر الفرعية حول الأهرامات في الجيزة وسقارة وأبي صير وغيرها - التي كانت تضم دفنات للعديد من المقربين للملك - بأنهم جميعا تم قتلهم عنوة حتى يرافقوه ويعيشوا معه في الحياة الأخرى تماما كما كانوا يشاركونه الحياة الدنيا؛ وفي هذا المضمار يوضح عبد الحميد عزب نقلا عن رشيد الناضوري أن هناك حالات دفن نادرة يمكن تفسيرها بالقتل عنوة لمرافقة الملك في حياته الأبدية (منها حالة واحدة عثر عليها فيما تم اكتشافه من مقابر حول هرم خوفو بالجيزة) وأشار الناضوري أن هذه الظاهرة أفريقية زنجية خالصة جاءت لمصر وليست متأصلة بها.
ويواصل «عزب» موضحا رأي «الناضوري» أنه ربما ارتبط موضوع التضحية البشرية بعيد «سد»، أو «اليوبيل الثلاثيني»؛ حيث كان ولا بد أن يؤدي الملك طقوسا توضح مدى تمتعه بالصحة والعافية والقوة البدنية، وكان الملك في هذا العيد، كما هو واضح من مجموعة الملك «زوسر» بسقارة من الأسرة الثالثة، يقوم حقيقة فيه بالهرولة والجري الطقسي لمدة كبيرة، ويذبح بنفسه الثيران الشديدة القوة مما يتطلب شابا قويا وليس شخصا معتل الصحة، كما كان عليه أن يصعد درجات منصة اليوبيل الخاصة بالتتويج والتي توضح بقاياها أنها شديدة الارتفاع، ويوضح «عزب» وجهة نظر رشيد الناضوري مشيرا إلى احتمالية الأصل الأفريقي لهذا العيد؛ حيث اعتادت القبائل أن تقيم حفلا كبيرا تحضره القبيلة وكهنتها ويقوم فيه الملك بإثبات مدى شبابه وقوته وعندما لا يتمكن يقومون بقتله، وإلا فلن تمطر السماء، ولن تنبت الزروع، ولن تنجب النساء، اعتمادا على عقيدة الأفارقة بأن الكون يرتبط بصحة الحاكم، وفي حال عدم قدرة الحاكم على عمل كل هذا يتم قتله وتنصيب أي شخص أي شخص آخر مكانه.
37
ويؤكد عزب أن التوابيت الحجرية التي عثر عليها في جبانة الجيزة والتي امتلأت بعدد من الهياكل العظمية الآدمية ليس لها علاقة بموضوع التضحية البشرية - حيث يذكر البعض أنهم قتلوا عنوة وتم إغلاق التابوت الحجري عليهم أحياء - ويفسر عزب الأمر بأن التابوت استخدم كمعظمة (مكان لتجميع رفات عظام بعض الجثث)، أو ربما دفن عظام أسرة أراد الكهنة لهم أن يكونوا معا في العالم الآخر ويتشاركوا في البعث معا مرة أخرى.
38
ومن هنا ينفي «عزب» فكرة ممارسة المصري القديم لعادة التضحية البشرية موضحا أن المصري القديم كان إنسانا وفنانا، وكان محبا للناس والطبيعة من حوله؛ ولذا يصعب معرفته للتضحية البشرية أو القتل عنوة إلا في حالة الحرب.
39
وهناك الكثير من القصص والأساطير التي ساقها مؤيدو القول بمعرفة المصريين القدماء لعادة التضحية البشرية - وإن كانت غير مؤكدة - ويرى هذا الفريق أن ترتيلة أكلة لحوم البشر التي جاءت في إحدى فقرات نصوص الأهرام بمقبرة الملك «أوناس» هي دليل على شيوع هذا النوع من الأضحية وتقول الترتيلة: «غامت السماء وأظلمت النجوم واهتزت الأقواس وارتعد الأرباب حين شاهدوا الملك يتجلى في هيئة الروح، وعظام كلاب جهنم ترتعد، والبوابون واجمون، عندما يرون الملك أوناس يشرق في صورة روح، بصفته إلها يعيش بأكل آبائه، ويتغذى بأكل أمهاته.»
40
ويأتي باقي النص تفصيلا لما يأكله الملك من أعضاء الآلهة، ولكن ما يظهر الغرض من تلك العادة هذا الجزء الوارد في نفس النص أيضا ذاكرا: «والملك أوناس هو الذي يلقف سحرهم، والملك أوناس يتغذى من أعضاء ممتلئة، وإنه شبعان إذ يعيش على قلوبهم وسحرهم وتعاويذهم في جوفه، فإنه إذ ابتلع علم كل إله.»
41
وربما لم تكن هذه التعاويذ سوى تعاويذ سحرية لن تحدث في واقع الأمر، فلم يكن المصري القديم دموي الطابع، وكل ما ذكره ليس مقصودا في ذاته ولا يشير إلى الواقع الفعلي وإنما يشير إلى مدى قوة الملك وسطوته بنوع من المبالغة.
ولعل هذا الجزء الأخير من النص يفسر بشكل واضح أن الغرض من تلك التعاويذ لا يتعدى سوى رمز باعتبار أن الملك هو صورة الإله على الأرض ويمتلك قوة روحية تمكنه من خلال السحر والتعاويذ من فعل ما يشاء أن يفعله فهو قادر على السيطرة على أعدائه.
وتنفي قصة خوفو والسحرة معرفة المصريين بهذا النوع من الأضحية ويظهر ذلك من خلال تفاصيل القصة؛ فعندما أمر خوفو أحد السحرة المتواجدين معه أثناء سرد أحداث القصة بإحضار نفس بشرية وممارسة طقوس السحر عليها بقطع رقبتها وإعادتها مرة أخرى للحياة لإثبات سحره، رفض الساحر أمر الملك معتذرا وعرض عليه القيام بما أمر بتمثيله للأضحية ولكن على أحد الطيور وكان طائر «الإوز».
42
شكل 2-12: منظر من مقبرة رمسيس التاسع تبين مجموعة من الأسرى وقد قيدت أيديهم وذبحوا بالسكين. (
Muhlestein, M., & Gee, J., 2011, p. 73 .)
وتشير بعض الدراسات إلى أن المصريين القدماء كانوا قد عرفوا عادة تقديم الأضاحي الآدمية أيضا بكثرة في عصر الدولة الوسطى بل الحديثة أيضا، ودللوا على ذلك من خلال بعض المناظر وذلك على غرار ما جاء في «شكل
2-12 » الذي يبين مجموعة من الأسرى وقد قيدت أيديهم خلف ظهورهم وقطعت رءوسهم بالسكين، وجاءت السكاكين أعلى رقابهم مما قد يشير إلى طقسة معينة ارتبطت بعادة ذبح الأضاحي البشرية - وذلك كما يرى البعض - ومن ثم رأى البعض أن المصريين القدماء عرفوا ظاهرة التضحية البشرية، وأنهم كانوا يقتلون أحيانا بعض البشر من أجل أغراض طقسية أو دينية.
43
ولكل ما سبق أميل إلى الرأي الرافض لفكرة ممارسة عادة التضحية البشرية في مصر القديمة؛ فمناظر القتلى التي جاءت مصورة على جدران المقابر والمعابد المصرية القديمة ما هي إلا صور لأسرى الحروب التي قادها ملوك مصر، وليسوا أضاحي بشرية أو قرابين بشرية، فلم يكن المصري القديم في حاجة إلى تقديم أضاحي بشرية؛ إذ لعبت الرمزية والسحر دورهما في فكره وعقيدته، ولقد حقق المصري القديم كل ما يتمناه وكل من كان يرجو اصطحابه معه في العالم الآخر من خلال ما صوره في نقوش المقابر حيث رسم نفسه مع زوجاته وأولاده وعبيده وخدامه، وحيواناته، وحدائقه وقرابينه وغير ذلك، ولم يكن في حاجة لقتل أحد حتى يرافقه العيش في العالم الآخر. (4) عروس النيل وحقيقة التضحية بها
آمن المصريون القدماء منذ استقرارهم على ضفاف النيل بأن نهر النيل هو مصدر الحياة، وأن منابعه هي حدود الكون المعروف في عالم الأحياء وفي العالم الآخر أيضا، وانطلاقا من تلك القاعدة فقد وصلت قدسيتهم له إلى أن اعتبروا النيل إلها أطلقوا عليه «حابي» أو «حعبي» بمعنى «الذي يفيض بالماء».
44
وصوروه على هيئة رجل جسمه قوي وله صدر بارز وبطن ضخم كرمز للخصوبة والنماء، يحمل خيرات الأرض من الطعام والشراب إلى جانب رموز الحياة والرخاء،
45
وربطوا بينه وبين أساطير الخلق في عقائدهم فآمنوا بأنه كان يمثل المياه الأولى التي برزت منها الأرض المصرية في بدء الخليقة. ونظرا لحاجة المصريين الدائمة لتجديد الفيضان فقد أكدت الديانة المصرية القديمة ضرورة القيام بعدد من الطقوس كل عام قبيل وأثناء قدوم الفيضان أملا في أن تهب الآلهة أرض مصر فيضانا وفيرا دونما انقطاع.
46
ولكي يتحقق هذا الخير والنماء كان لا بد من إرضاء النيل، ويقال إنه كانت هناك عادة تقام سنويا عند المصريين القدماء حيث كانوا يقدمون لنهر النيل كل سنة أضحية بشرية لتجنب غضبه وفيضاناته وتكون هذه الأضحية أنثى، وهذا هو ما نعرفه حاليا فيما يسمى بعيد وفاء النيل وما ارتبط به من فكرة «عروس النيل» التي يقال إنها عبارة عن طقوس تؤدى جنوب نيل مصر عند المنابع، حيث كان يتم إلقاء فتاة جميلة الوجه، مليحة القد، حسنة الهيئة في نهاية الطقوس وسط مياه النيل حتى يفيض النيل ويفي مرة أخرى، هي فكرة خاطئة ومبالغ فيها؛ لأن المصري القديم لم يكن يفعل ذلك وقد كذب «هيرودوت» وأساء فهم ما كان يحدث، وهو أن المصري كان يلقي مجرد دمية أو عروس صغيرة الحجم تمثل إله النيل نفسه وذلك بعد حرق البخور وذبح الأضاحي ضمن طقوس خاصة بوفاء النيل، وتحور الأمر بأنها تضحية بشرية بكل أسف.
47
ويقال إن هذه العادة ظهرت بعد أن قدم الملك إيجبتوس ابنته قربانا لنهر النيل تجنبا لغضب الآلهة، وقد رمى الملك نفسه في النيل منتحرا بعد ابنته. وأكد علماء المصريات أن إيجبتوس شخصية خرافية، وأن سجلات المصريين القدماء لا تحتوي على أي دليل يثبت حدوث هذه الممارسات.
ومن ثم كان النيل بريئا من فكرة عروسه المزعومة، ولعل ما حدث أثناء تولي سيدنا عمرو بن العاص القيادة في مصر عندما أرسل لخليفة رسول الله سيدنا عمر بن الخطاب قائلا: «من عمرو بن العاص إلى خليفة رسول الله، يقولون: إن نيل مصر لن يفيض هذا العام لوجود عادة ضرورية وهي إلقاء فتاة جميلة عند منابع النيل، فانظر ماذا ترى؟» وهنا رد عليه عمر بن الخطاب قائلا: «من خليفة رسول الله إلى نيل مصر، إن كنت تفيض من عندك فلا تفض، وإن كنت تفيض من عند الله منزل الغيث فأفض.» وهنا رد جميل واضح رفض عمر بن الخطاب لهذا كله، وبالفعل فاض النيل بدون عروس أو فداء أو تضحية.
48
الفصل الثالث
قرابين الأضاحي البشرية في بعض المجتمعات الأفريقية
أطلق اسم أفري على العديد من البشر الذين كانوا يعيشون في شمال أفريقيا بالقرب من قرطاج، ويمكن تعقب أصل الكلمة إلى الفينيقية أفار بمعنى «غبار» إلا أن إحدى النظريات أكدت عام 1981م أن الكلمة نشأت من الكلمة البربرية أفري أو أفران وتعني الكهف، في إشارة إلى سكان الكهوف، ويشير اسم أفريقيا أو أفري أو أفير إلى قبيلة بني يفرن البربرية التي تعيش في المساحة ما بين الجزائر وطرابلس (قبيلة يفرن البربرية). ويعتقد علماء الأجناس أن أفريقيا هي المصدر الأساسي للجنس الزنجي ذوي الرءوس الصغيرة والجباه المستديرة والفك العلوي البارز ذي الشفاه الغليظة المقلوبة والأنف العريض والبشرة السوداء والشعر الصوفي النادر على الجسم واللحية، والتكوين الجسماني ذي العجز القصير والظهر الأطول والمناكب العريضة، ونلاحظ طول الذراعين عن العضد، والساق أطول من الفخذ والكعب البارز والقدم المسطح. وينقسمون إلى قسمين هما الشعوب السودانية في الشمال والبانتو في الجنوب.
1 (1) السحر والدين في أفريقيا
ما بين السحر والدين بزغت المعتقدات الأفريقية ووضحت من خلال الطقوس والممارسات العقائدية، أو من خلال ما تركه من أعمال فنية عبرت عن مكنونه،
2
وبشكل عام تؤمن جميع القبائل الأفريقية بوجود إله أعلى خالق للكون، ولكن الاختلاف الأكبر فيما بينها هو إيمان كل قبيلة بأشكال مختلفة لقدرة هذا الإله وقوته وسلطانه في تسيير أمور الدنيا والبشر، ولكنهم يتفقون أيضا على أن هذا الإله يقبع في مكان بعيد تماما عنهم لا يستطيعون الوصول إليه أو الاتصال به بشكل مباشر، وهم مكلفون من قبله بحماية الأرض وتصريف أمورها.
3
وعندما لم تكن ملامح الدين قد تحددت خاصة في البداية، فلقد لعب السحر دور المنظم الأساسي للحياة لدى جميع القبائل البدائية والأفريقية من خلال استخداماته المختلفة في تفادي قوى الطبيعة والأرواح وتفادي شر المجهول والخوف والأمراض والأعداء. وكان الساحر يتصور أن في استطاعته إحداث أي تأثير عن طريق المحاكاة؛ عن طريق صنع دمية مشابهة لهذا الشخص وقراءة بعض التعاويذ عليها حيث سيتأثر بها شبيهه الأصلي نتيجة للترابط المعنوي، وهو استنتاج بأن أي شيء يفعله بالأشياء المادية سوف يقع تأثيره المماثل على الشخص المقصود.
4 (2) الفن والدين في أفريقيا
لعب الفن دورا هاما في التعبير عن المعتقدات الدينية الأفريقية، ولعبت الأقنعة دورا هاما في حياة العديد من القبائل الأفريقية؛ إذ لها أهميتها في أداء الشعائر والممارسات السحرية، ويعد قناع المختون الأفريقي (شكل
3-1 ) مثالا رائعا من فن السكان الأوائل، وهو الفن الذي يظهر بشكل رئيس في الطقوس، ومن خلال العديد من الأشياء التي تستعمل في الحياة اليومية.
5
شكل 3-1: قناع المختون الأفريقي.
فمن بين الرب والروح، وقداسة الطبيعة والسلف خرج الفن الأفريقي كوسيلة للتواصل بين الإنسان الأفريقي وعوالم معتقداته، فابتدع الأقنعة والنذور والقرابين التي كانت تمثل جوهر الحياة في المجتمعات الأفريقية التقليدية.
6 (3) قرابين الدم في أفريقيا
القربان يعني: كل ما يتقرب به الإنسان إلى القوى العلوية من ذبيحة وغيرها، وقد تكون هذه القوى إلها أو غيرها من القوى فوق الطبيعة الأخرى؛ جن، أولياء، أرواح ... إلخ، وإذا كان لكل قربان دلالته وقيمته الرمزية فإن أكثر أنواع القرابين قيمة هي الذبائح التي تراق دماؤها خلال طقوس دينية أو سحرية في مكان مقدس. وتختلف طبيعة القرابين باختلاف المناسبات والجهة التي تقدم إليها، ولقد اعتقد الإنسان القديم أن النفس والروح تجريان في الدم؛ فالكائن الحي يفقد الحياة بنزيفه للدم لذا كان الذبح هو الطريقة المثلى للتضحية وإزهاق الروح.
7 (4) التعدد الروحي في أفريقيا
ما زال الاعتقاد بوجود الروح في كل شيء يسيطر على كثير من القبائل في أفريقيا، حيث إن لكل الأشياء الحية وغير الحية روحا داخلية غير مرئية سواء أكانت شجرة أم حجرا أم حيوانا كما يعتقدون، وهذه الأرواح هي التي تجعلها تبدو في الصورة التي هي عليها بأحاسيسها الخاصة، تستطيع الانتقام إذا أثيرت، وتعبر عن الحب إذا أرادت، فإذا حرك شخص صخرة ما فالأفضل له أن يفعل شيئا لاستعطاف الروح التي تعيش فيها، وإلا سبب لها ضررا وأذى كبيرين، وكلما كان حجم الصخرة كبيرا زادت اللعنة التي تحل به، وهذا الأمر ينطبق على الأنهار والأشجار والغابات وغيرها من ظواهر الطبيعة.
8
يقف الأفريقي وسط هذا التعدد الروحي في مزيج من الأمل والرهبة، ولما كان يؤمن بأن سلوك الأرواح من الممكن التأثير عليه بأعمال البشر، فإنه يعتقد أنه إذا استطاع أن يجندها لصالحه فإنه سيحصل على ما يريد، ويستطيع أن يقضي على أعدائه، وعلى العكس فإن العدو الذي يكتسب السيطرة عليها سيستطيع إزعاجه وتدميره، وهكذا فإن الأفريقي عندما يصيبه المرض فإنه يعتقد أن روحا أو قوة خفية يؤثر فيها إنسان آخر هي التي سببت إصابته بالمرض، والموت نفسه ليس أمرا لا مفر منه، بل إن المرء يموت لأن شخصا آخر قرر أنه ينبغي أن يموت، ويجري استخدام هذه القوى غير المنظورة عن طريق السحر الذي يزدهر وينتشر في المجتمعات الأفريقية.
وذلك باعتبار أن الطبيعة تسكنها أرواح، وما الظواهر المادية إلا كشف لهذه الأرواح، أو باعتبار أن ما يصيب الإنسان هو الظواهر المادية الفعلية فإن إبعاد هذه المصائب يتوقف على الأرواح؛ لهذا لا بد من التضرع لهذه الأرواح قصد الإبقاء على الإنسان وإبعاد المصائب عنه، ويظهر التضرع والرجاء في القيام بالصلوات وتقديم القرابين والأضاحي ومخاطبة الأرواح، فبالتقرب للأرواح يقع التأثير في الطبيعة والمجتمع فيقع إبعاد الكوارث الطبيعية كالجفاف والزلازل والبراكين وغيرها، وكذلك إبعاد المصائب التي يسببها الإنسان للإنسان كالحروب والاستعباد والاستغلال وعموما القهر بجميع أشكاله.
9
كما أن هناك اعتقادا بمسألة الخلود الإنساني، فبعد الموت العادي تذهب الروح البشرية إلى السماء فترة ما، ولكنها تعود لتسكن في كوخ الأسرة، أو على مقربة منه، منتظرة أن تعود للتقمص داخل الأسرة في صورة طفل، والطفل الجديد في المجتمع الأفريقي لا يشبه قريبه الميت، بل هو هذا القريب فعلا.
10 (5) التضحية البشرية لدى بعض القبائل الأفريقية
هناك العديد من القبائل الأفريقية التي لا زالت تمارس حتى الآن عادة تقديم الأضاحي البشرية، فلا زالت نيجيريا حتى يومنا هذا تهتم بالطقوس الجنائزية وتمارس عادات تقديم القرابين سواء الآدمية أو الحيوانية، وذلك في ظل عبادة وتقديس المعبود
Abasi
الذي من أجله تمارس الشعائر والطقوس المتضمنة تقديم الأضاحي الآدمية.
11
وذاعت ممارسة طقوس تقديم الأضاحي البشرية في أوغندا، وكان الاعتماد الأكبر في ذلك على الأطفال؛ إذ اعتبروهم في أعلى رتب الأضاحي البشرية مكانة، وكان الغرض من تلك القرابين هو تحقيق الأماني والرغبات، ومنح القوة وإرضاء الأرواح،
12
وقد زادت في وقتنا الحالي تقارير العثور على العديد من الأضاحي البشرية التي يعتبرونها تقدمة بغية التقرب من الإله لتحقيق التواصل معه، وتقدم الأضحية في ظل طقوس وشعائر معينة وللدم دوره فيهما.
13
ولا زالت قبائل الدوغون التي تعيش فوق صخور باندياغارا في الجنوب من تمبكتو بأفريقيا تهتم بتقديس الأرواح والأسلاف ونحت الأقنعة والتماثيل الخشبية،
14
والدوجون أو الدوغون إحدى القبائل التي تجمع ما بين بدائية العيش والتطور الكبير في علم الفلك والتنجيم، ويمكن تصنيف قبيلة الدوجون وفق القبائل التي تقدس الأسلاف أو الأرواح، ويقوم ال «هوجون» أو الزعيم الروحي للقبيلة مقام الحاكم فله الكلمة العليا بين كل أفراد القبيلة وله مكانته واحترامه
15 (شكل
3-2 ).
شكل 3-2: الزعيم الروحي «هوجون» لقبيلة الدوغون الأفريقية.
وفي أقصى الجنوب الأثيوبي وبالقرب من حدودها المشتركة مع السودان وبالتحديد في منطقة وادي ديبوب أومو تعيش إحدى أغرب القبائل البدائية، وهي قبيلة الموريس التي تشكل مع قبائل أخرى السكان الأصليين لأثيوبيا، وكان من بين أغرب عاداتهم أنهم يشربون الدم بعد مزجه باللبن، هذا بخلاف طريقتهم الشاذة والغريبة في التزيين والتجمل سواء للنساء أو الرجال على السواء.
16
وتؤمن قبيلة «البامبارا» التي تقع غرب أفريقيا مثل مالي والسنغال والكاميرون بالإله «فارو»، ونسجت تلك القبيلة قصة عجيبة حول ذلك الإله، حيث خلق من السديم الأزلي في الفضاء، ثم صار إله الماء، وبعد ذلك قام بالانتصار على إله الأرض «بمبا» وقام بتنظيم شئون العالم على نحو أفضل، ويصورونه في صورة كائن مائي مزدوج الجنس يميل لونه بين الأصفر والنحاسي، أقرب لعروس بحر لها رأس أبيض، يتغذى على دم الأضاحي والطماطم وحساء الذرة، وهم يؤمنون بقدرته على التشكل في أي هيئة مثل كبش أو امرأة حسناء أو ضباب، ولا يجيب دعوة الداعي إلا فقط عن طريق الكهنة (شكل
3-3 ) ويعرف هذا الإله بأسماء عدة مثل «أشانتي» و«نانا» و«شوكو» والجدير بالذكر أن أهالي «توجو» يفسرون تباعد هذا الإله عن البشر؛ لأنهم قاموا بتلويث السماء بأيديهم القذرة.
17
شكل 3-3: الكاهن في قبيلة البامبارا بأفريقيا.
تقوم قبائل «البامبارا» بعبادة السماء وأركان الأرض الأربعة والجن، ويتخذون من الحجر أو الشجر أو أماكن وجود الماء محاريب لذبح الأضاحي، ويقوم اعتقاد تقديم الأضحية على أن القوى الحيوية للذبيحة تنتقل إلى المعبود الذي تقدم إليه الضحية، وفي العادة يضحى بحيوان أليف ككبش أو طير، إلا إذا كان المضحي صيادا فيجب أن يقدم حيوانا بريا، ويجب أن تطول مدة احتضار الذبيحة أثناء موتها؛ لأن تحركاتها تساعد العرافين على التكهن بالغيب. جرت العادة أن تكون الأضحية شخصا بشريا أشقر اللون، أي عدوا للشمس في وجهة نظرهم، ويحدث هذا في الأمور الهامة التي تهم المملكة بشكل عام ولذلك مراسم محددة، فمثلا في المشاكل الخاصة بالحكم كان يشطر الشخص إلى شطرين بحبل حول البطن في حضور الملك الذي يجب أن يبدو ساكنا تماما ويقوم بحمل الشطر الأسفل من الشخص المضحى به ويلقى في النهر قربانا للإله «فارو» والرأس يلقى أسفل عرش الملك. وفي حالة وفاة عدد كبير من أسرة واحدة يضحى بشخص أشقر ويذبح ويؤخذ لسانه وأنفه وعيناه لتأكلها الأسرة.
18
شكل 3-4: قبيلة الدنيا.
وهناك قبيلة زولو التي تؤمن بوجود تناسخ الأرواح التي تأتي من أمواتهم وتهيم في الغابات وتسمى «توكولوش»، ويصورونها على أنها مخلوقات ضخمة كثيفة الشعر تقتل كل من لا يقدم قربانا إليها.
19
وهناك قبيلة الدنكا (شكل
3-4 ) وهي من القبائل الشديدة الحفاظ على معتقداتها فهم يقدسون الأبقار ويخصون بقرة واحدة باسم «ديت» تيمنا بها بين أبقارهم. وهم يؤمنون بإله واحد يدعى «نيال» ويعتقدون أن روحه تتقمص الأفراد ليتحدث من خلالهم الدينكا في الأساطير، ويحترمون قادتهم في قدسية روحية ترتبط بموروث السلف.
20 (6) أكل لحوم البشر
أكل لحوم البشر من الممارسات التي عرفت عبر التاريخ في عدة حالات منها: (1)
أثناء المجاعات. (2)
في بعض القبائل البدائية. (3)
كنوع من المبالغة في إيذاء العدو، حيث يأكل المنتصر من لحم المهزوم دليلا على الانتصار. (4)
اعتقاد البعض أن أكل لحم الأعداء ينقل قدراتهم لهم. (5)
كإحدى الطقوس الدينية أو طقوس الدفن الجنائزية. (6)
أو كمرض سلوكي.
ولقد عرف العديد من القبائل البدائية في أفريقيا عادة أكل لحوم البشر، ولكنها لم تكن، كما أذاع البعض، هواية لتلك القبائل أو تلذذا بطعم لحوم البشر، وإنما هي ممارسات تتم في ظل طقوس وشعائر دينية، مغزاها هو اتحاد الآكل بالمأكول، فبعد أن يتناول الأحياء أضحية بشرية معينة يصبح المضحى به جزءا من هؤلاء الأحياء؛ فالغرض إذن ليس التناول في حد ذاته، وإنما الانتقال الروحي واتحاد الأرواح وتجدد مسيرة السلف في حياة من بعده، واكتساب القوة والحكمة والاستمرارية.
21
وتعد عادة أكل لحوم البشر واحدة من التقاليد الجنائزية الأكثر غرابة ووحشية، وتتم ممارستها من قبل قبائل تعيش في بابوا في غينيا الجديدة وبعض قبائل البرازيل، حيث تتغذى العائلة على جثة فقيدها المتوفى فيما يعرف بالآدمية الداخلية (أكل لحوم البشر داخل الجماعة) ويمارس ذلك خلال الشعائر الجنائزية، فقوة الحياة للميت يجب أن تمر في جسد من هم على قيد الحياة، وترمز الشعائر الجنائزية إلى تهدئة الموتى والسماح للأحياء ب «الحداد»
22 (شكل
3-5 )، ويرى العديد من الدراسات أن هذه الطقوس اللاإنسانية ربما قد نشأت في المجتمعات البدائية التي تعاني من المجاعات وسوء التغذية فلجأت غريزتهم للبقاء على إبداع طرق لإطعام أنفسهم. يتضمن هذا الطقس اجتماع العائلة حول جثة المتوفى ويتم استخدام النار والأعشاب وغيرهما من الأدوات الأساسية التي تجعل اللحم صالحا للأكل.
23
شكل 3-5: عادة أكل لحوم الأموات.
ولقد انتشر في القارة الأفريقية العديد من القبائل التي تأكل لحم البشر، وهي موجودة حتى الآن، ولكن من النادر أن يراها أحد؛ فهي تعيش متخفية في أغلب الأوقات، وتقوم تلك القبائل باختطاف أي شخص يدخل إلى الأدغال، وكانت قبيلة «فيجي» من أشهر القبائل الأفريقية التي اعتادت على أكل لحوم البشر
24 (شكل
3-6 ).
شكل 3-6: قبيلة فيجي الأفريقية التي اعتادت أكل لحم البشر.
الفصل الرابع
القرابين والأضاحي الآدمية في بلاد الرافدين
(1) المعتقدات الدينية في بلاد ما بين النهرين
تقدم لنا الحضارات المبكرة في الشرق الأدنى القديم فرصة فريدة لدراسة نشأة الدين وتطوره في منطقة ذات أجناس وثقافات مختلطة ظهرت فيها فيما بعد ديانات التوحيد الكبرى؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، ففي بلاد ما بين النهرين موطن السومريين والبابليين والآشوريين، ومنذ عصور ما قبل التاريخ وهؤلاء الناس على وعي بالقوى الروحية التي يعتمد عليها وجودهم وتشهد على ذلك بقايا المعابد والهياكل وأماكن التضحية والتماثيل الرمزية الصغيرة وتماثيل الآلهة وعادات الدفن.
1
ولقد تعددت الأساطير وتشعبت في بلاد ما بين النهرين، فكان لخلق الكون أسطورة وللآلهة أسطورة وكان لتدمير الكون وخرابه أسطورة أخرى، ولعل المفهوم الأساسي لمرحلة علة وجود الإنسان في الفكر البابلي هو العمل على خدمة الآلهة وتقديم القرابين لها والدفاع عنها، وتعددت الآلهة بقدر حاجة الإنسان حيث اعتقد البابليون أن الشمس تمثل الإله شمش والقمر يمثل الإله سن وعطارد الإله نابو وكوكب الزهرة يمثل الإله عشتار والمريخ الإله مردوخ وكوكب زحل الإله ننورتا وعشتار الربة الأم التي استمرت كقوة أنثوية خلال العصر الحجري الحديث الذي شهد منذ مطلعه ازدهارا لصور الأم الكبرى مترافقا مع ظهور المستوطنات الزراعية الأولى خلال الألف السابع قبل الميلاد؛ ومن ثم كان تقديم القرابين من الأمور الهامة لنيل مرضاة كل تلك الآلهة، وهو من الطقوس المعقدة التي تتطلب خدمات كاهن ذي دراية وخبرة؛ فقد بنى الكهنة على ذلك أساس أنه لو عرف الإنسان إرادة الآلهة لاستطاع أن يقف على نتيجة أعماله. (2) القرابين والأضاحي الحيوانية في بلاد الرافدين
تحتاج الآلهة في الفكر السومري إلى جميع ما يحتاج إليه البشر من طعام وشراب؛ فنرى الإنسان يقدم لها القرابين المختلفة من أغنام وأبقار لكسب الرضا، من هنا نجد العلاقة الوثيقة بين الإنسان والآلهة والتي تجسدت بشكل واضح من خلال الميثولوجيا السومرية والأكدية والمخلفات الفنية عن طريق الخصائص المماثلة للإنسان.
2
كان للحيوان أهميته في بلاد الرافدين منذ عصور ما قبل التاريخ، وفي عصر ما قبل وبداية الأسرات، كانت الحيوانات قد اتخذت مكانة وأهمية كبرى؛ إذ زادت الرمزية واتسعت التخيلات والأساطير المرتبطة بالحيوانات،
3
فأصبح للحيوان دوره الديني الذي انقسم إلى دور سلبي وآخر إيجابي، وأصبح الحيوان في ذلك العصر بمثابة حلقة الوصل التي ربطت ما بين عالم الإنسان وعالم الآلهة.
4
وتوثقت صلة الإنسان بالحيوان وبعالم الآلهة من خلال ما كان يقدم من أضاحي حيوانية، قصدوا بها أحيانا القضاء على الشر، وأحيانا أخرى إرضاء أرواح الموتى وأرواح الآلهة.
5 (2-1) الحيوان بين عالم البشر وعالم الآلهة
لم ينعم الإنسان في بلاد الرافدين بالخلود، بل كان تفكيره في هذا الصدد غامضا؛ فقد آمن بوجود عالم سفلي وجهز مقابر للأفراد والملوك، ولكن ظل الخلود مقتصرا على الآلهة،
6
وتشكلت بذلك العلاقة ما بين عالم البشر وعالم الآلهة، وتحددت ووضحت من خلال ما كان يقدم من قرابين وأضاحي حيوانية كانت تقدم أحيانا للمتوفى، ومن هنا برز الدور الحيواني في الفكر الديني للإنسان العراقي القديم.
7
وتحتاج الآلهة كالبشر إلى مؤن منتظمة من الطعام والشراب توضع أمامها على الموائد في الصباح والمساء، وكانت اللحوم المفضلة لديها هي لحوم القرابين والتي تسمى نيكو
Niqu ، ولا بد أن يصب الدم أولا في أوان ثم تختار الأجزاء الممتازة كالرئتين والكبد لمعرفة الطالع، وتقدم إلى الآلهة الفاكهة والسمك والطيور والعسل والزبد واللبن إلى جانب الأطعمة الرئيسة كخبز الشعير والبصل والبلح، أما الزيت والخمور والبخور فهي تقدم بسخاء وكل شيء يسجله الكتبة بدقة شديدة.
8
كان البابليون يعتقدون بوجود علاقة بين الإله الذي يقرب إليه الحيوان المضحى به والحيوان نفسه وهذا ما يذكرنا بالفكر الطوطمي للشعوب البابلية، فالإنسان البابلي كان يعتقد أنه عندما يضحي بالحيوان فإنه يكون جزءا من الإله، كما يكون جزءا من أجسام الناس الذين يأكلونه، وتكون روح الإله أو نفسه روح الذبيحة أو نفسها، وهذا ما يذكرنا بالاتحاد سواء الروحي أو الجسدي بين الطوطم وعشيرته حيث إن روح الإله تتمثل بروح الذبيحة، وبناء على ذلك يمكن للبشر أن يتطلعوا إلى روح الإله ومن ثم معرفة إرادته من خلال روح الذبيحة.
9
إذن كان يمكن للإنسان البابلي أنه يتفادى إرادة الإله بمعرفته إياها قبل وقوعها، ولكن في أي عضو من الذبيحة تتجسد إرادة الإله وتستقر؟ عد البابليون الكبد ذا علاقة وثقى بالروح والحياة لأنهم رأوا أن الحياة نفسها في الدم، والكبد هو مستودع الدم، وأما عن طقوس التضحية فعندما يستقر رأي العراف على الذبيحة المناسبة من الوجهة الدينية يتقدم العراف أمام صنم الإله ومعه موقد ومنضدة وكوب من الخمر وشيء من الخبز ومزيج من العسل والملح والزبد، ثم يأخذ بيد السائل المقرب ويتلو بعض التعاويذ والأدعية مخاطبا الإله مستأذنا منه تقديم الذبيحة إليه ثم تنحر الذبيحة ويخصص للإله أحسن أجزائها ثم يفحص العراف الكبد ويشاهد أجزاءه وما تظهر فيه من علامات كالفقاقيع والخطوط، وتفحص العلامات الصالحة وغير الصالحة وإذا تساوتا يعاد الفأل بفحص ثان وثالث، وكان أهم ما يفعله البابلي التقي المتمسك بدينه أن يشترك في المواكب الطويلة المهيبة كالمواكب التي كان الكهنة ينقلون فيها صورة الإله «مردوك» من هيكل إلى هيكل ويمثلون فيها مسرحية موته وبعثه، ويبدو أن هذه التمثيليات كانت أداة للتأثير على الجماهير وإذكاء لروح التضحية لديهم، ولعل هذه التقاليد قد بقيت راسخة لفترات طويلة حيث وسمت المجتمعات المعاصرة بهذه التقاليد وما تزال بقاياها، وإن اختلفت الأساليب وتعددت الطرق واختلفت الأوجه فهي وجهان لعملة واحدة وبقايا لأفكار قديمة تشمل معظم بلاد ما بين النهرين.
10 (3) القرابين والأضاحي الآدمية في بلاد الرافدين
عثر على العديد من المقابر والدفنات الآدمية التي لا تخلو من غرابة وذلك في مواقع عدة ببلاد الرافدين، وهي توضح العديد من العادات والطقوس الجنائزية التي كانت متبعة هناك.
11
وكان من بين أهم هذه المواقع: (3-1) تل العربجية «مرحلة حلف»
يقع إلى الشمال من الموصل في العراق، وهو من مواقع حضارة حلف وفي هذه المرحلة ظهر نوعان من أساليب الدفن:
النوع الأول:
وهو الدفن العادي تحت أرضيات البيوت في وضع منثن على أحد الجانبين ترافقه أدوات الزينة والأواني الفخارية.
12
النوع الثاني:
الدفن ضمن الجرار حيث دفنت الجماجم فقط بعد فصلها عن الجسد وزودت هذه الدفنات بالقرابين والهدايا.
13 (3-2) تل العربجية «مرحلة العبيد»
نشأت في جنوب العراق وانتشرت إلى جميع مناطق بلاد الرافدين في الفترة بين 4400-4300 قبل الميلاد، وكانت قد سميت أيضا بحضارة أريدو، وقد عرف في هذه المرحلة نوعان من عادات الدفن: النوع الأول، الدفن العادي، حيث تم الدفن تحت أرضيات البيوت، في وضع منثن، على أحد الجانبين، ترافقه أدوات الزينة والأواني الفخارية. أما النوع الثاني من عادات الدفن، فهو حرق الموتى، وجمع الرماد في جرار فخارية، وكانت قد ظهرت عادة حرق الجثث في بعض مواقع العصر الحجري النحاسي كما في «العربجية ومرحلة العبيد».
14 (3-3) الجبانة الملكية ب «أور»
مارست أغلب الحضارات القديمة التضحية البشرية، ومنذ البداية ارتبطت هذه الأضاحي بالطقوس الدينية ومعتقدات ما بعد الموت، فقد ظهر في المقابر الملكية بأور إحدى عادات الدفن الغريبة، التي تمثلت في دفن الخدم والأتباع بل أيضا الحيوانات مع الملوك باعتبارهم متاعا جنائزيا؛ ففي أور
15 ⋆
عثر على العديد من المقابر الملكية التي دفن فيها الخدم مع الملوك
16
والعربات الحربية التي تجرها الثيران؛ ففي المقبرة رقم 580 عثر على هيكل عظمي لثور، كان في حالة سيئة من الحفظ، وعثر إلى جواره على بقايا خشبية لعربة وبالقرب من هذه المقبرة، عثر على ما يعرف بحفر الموت،
17 ⋆
وكان قد عثر على أضخم تلك الحفر في المقبرة رقم
في الجبانة الملكية ب «أور»، وكانت تحوي ما يزيد على ثلاثة وسبعين جثة بما يشير إلى دفنة جماعية بالجبانة الملكية.
18
ورغم أنه نادرا ما يشار في المصادر الوثائقية إلى ممارسة عادة تقديم قربان بشري أو حيواني في سومر في عصر فجر السلالات، إلا أن تنقيبات «ليونارد وولي» في «القبور الملكية» في «أور» قد أثبتت عكس ذلك؛ فقد كان من دفن من ملوك في تلك القبور مصحوبين بأعداد من الضحايا تتراوح أعدادهم ما بين ستة أشخاص إلى ثمانين شخصا، وهم مجهزون بالأدوات والأسلحة الملائمة لهم في حياتهم الخدمية، وتكون الجثة الرئيسة مسجاة داخل حجرة قبرية مشيدة خصيصى لذلك الغرض من الحجارة أو الطوب.
19
أما الضحايا البشرية فإما أن تكون في حجرات منفصلة في ممر القبر أو على الأغلب في «حفرة موت» كبيرة (خندق مستطيل مكشوف كبير)، وتكون الجدران والأرضية مبطنة، مع وجود درجات أو سلم محفور على أحد الجوانب وكان يتم تشييد القبر أسفله، وعادة ما يجري وضع الملك أو الملكة في القبر أولا ويحكم إغلاقه، وذلك بمرافقة ثلاثة أو أربعة مرافقين في وضع الانحناء. وإلى داخل المقبرة يتجه موكب رجال الحاشية والجنود والموسيقيين والخدم والعربات التي تقودها الحيوانات والعربات ذات السائقين وسائسي الخيول، وكل شخص يحمل وعاء صغيرا من الفخار أو الحجر أو المعدن نفترض (بناء على الحالة المطمئنة التي تبدو عليها الجثث والتي لا تظهر عليها أية علامة على العنف أو الصراع) أنهم شربوا منه سما أو عقارا مخدرا. وبعد ذلك كان يتم ذبح الحيوانات، ثم ملء الحفرة الكبيرة بالتراب، ولا شك في أن العملية كلها كانت ترافقها شعائر دقيقة.
20
ففي مقبرة الملكة شبعاد عثر على اثنتين من العربات الحربية، كان يجرها ثيران (شكل
4-1 )، وكان كل من العربات والثيران قد دفن في وضع التأهب للحركة، ويعتقد
Woolley
أن كلا من الأشخاص المدفونين والحيوانات، كان قد أنزل إلى حفرة الدفن وهو على قيد الحياة، وأن الحيوانات قد ذبحت بواسطة تابعيها أو سائقيها بينما تناول الخدم والأتباع السم فماتوا. ولقد عبرت تلك المقبرة عن نوع من التضحيات الآدمية والحيوانية. بينما يرى آخرون أن هذه المقابر يفترض أنها تعبر عن طقسة الخصوبة أو الزواج المقدس الذي سيضفي الخصوبة على الأرض.
21
شكل 4-1: مقبرة الملكة شبعاد وقد عثر فيها على اثنتين من العربات الحربية وعدد من السائقين والخدم والأتباع. (
pearson, M. P., the archaeology of death and burial, Texas, 1999, p. 17 .)
وفي المقبرة الملكية رقم «789» بأور (شكل
4-2 ) عثر على ستة من هياكل الثيران، كانت تجر اثنتين من العربات الحربية، كانت هياكل الثيران قد وجدت ممددة أمام العربتين، ومتجهة إلى مدخل المقبرة، ويفهم من ذلك أن الحيوانات قد دفعت إلى داخل المقبرة دفعا، ودفنت وهي في وضع الاستعداد للتحرك أو لجر العربات ومن غير المعروف كيفية قتلها، تؤرخ هذه المقبرة بعصر بداية الأسرات.
22
ويرجح
Mitchell
الرأي القائل بشرب السم قبل الموت قائلا بأنه ربما كان يتم قتل الجميع بالسم، ثم حملت جثثهم إلى داخل القبر حيث رصت حول الغرفة المخصصة لدفن الملك التي تقع في مركز المقبرة.
23
وربما أشارت تلك الممارسات إلى حاجة الإنسان للتزود بالمؤن واصطحاب رفاقه وخدمه معه من أجل الحياة في العالم الآخر.
24
شكل 4-2: إعادة تخيل لما جاء بالمقبرة رقم 789 بجبانة أور تبين السائقين والثيران والعربات الحربية التي تجرها.
ولقد اكتسبت مدينة أور السومرية شهرة واسعة بفضل ما اكتشف في جبانتها الملكية.
25
وما فيها من قبور أثارت الدهشة، كما أنها تمثل أصدق تمثيل مظاهر حضارة وادي الرافدين في أوج ازدهارها وعظمتها في حوالي «2600ق.م.» هذا ولقد تشابهت عادات الدفن في مختلف المواقع العراقية؛ ففي الجبانة الملكية بكيش
26
عثر على قبور عدة اشتملت على دفنات مختلطة بشرية وحيوانية، تنوعت فيها الأضاحي بين الآدمية والحيوانية؛ إذ عثر على حمير وثيران مدفونة مع العربات الحربية كحيوانات جر مع سائقيها.
27
وتكرر الأمر نفسه في جبانة تل أبو سلابيخ.
28
التي جمعت مقابرها بين الدفنات الحيوانية والآدمية.
29
ومن كل ما سبق يمكن القول إن البشر والحيوانات في بلاد الرافدين كانا يقدمان كقرابين وأضاحي سواء بسواء لا سيما في عصور ما قبل وبداية الأسرات.
الفصل الخامس
الأضاحي البشرية في بلاد الأناضول
(1) بلاد الأناضول
تقع هضبة الأناضول في تركيا، في منطقة كانت تسمى قديما بالأناضول، وتحاط الهضبة بسلاسل جبلية متوازية هي: جبال الثور من الجهة الجنوبية لها؛ وتمتد هذه الجبال على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، وجبال بونتيك من الشمال، الممتدة على طول ساحل البحر الأسود، يبلغ ارتفاعها أكثر من 500م، وتسمى هضبة الأناضول أيضا بآسيا الصغرى.
1 (2) عادات الدفن في بلاد الأناضول
ارتبطت عادات الدفن في بلاد الأناضول بأمور عدة؛ أسطورية وعقائدية ودينية، كان منها: عبادة الأسلاف، وتقديس الحيوان، والسحر، ولقد وضح كل ذلك في مختلف دفنات هاتشيلار وجوبيكلي تبة وشاتال هويوك في العصر الحجري الحديث.
ولو ألقينا الضوء على عادات الدفن في الأناضول خاصة في أهم مواقع العصر الحجري الحديث، لوجدنا أنها ارتبطت بعبادة الأسلاف في أغلب الأحيان؛ ففي موقع هاتشيلار الذي يؤرخ بالعصر الحجري الحديث (الألف السابع ق.م.) لم يعثر على مقابر صريحة، ولكن عثر على جماجم منفصلة في البيوت مما يبعث على الاعتقاد بأنه كان هناك نوع من العبادات تخص سلالة الأجداد من خلال الاحتفاظ بجماجمهم داخل المساكن.
2
وفي شاتال هويوك ارتبطت عادات الدفن بالممارسات الدينية والشعائرية مما أدى بالعلماء إلى قول إن هذا الموقع كان منطقة معابد؛ وإن ما به من مساكن كانت تخص الكهنة في أغلب الأحيان، وكانت المعابد مزينة بنقوش من الجص على جدران صلبة وتمثل النقوش رءوس حيوانات لا سيما الثيران، ولم يعثر على موائد للقرابين، وقد عثر على معبد في المستوى السابع للحفائر كان مزينا في الجانب الشرقي منه برأس ثور، وعثر إلى جانب هذا الرأس على فتحة كانت مخصصة لحفظ الأدوات الطقسية.
3
ولقد عثر على إحدى عشرة دفنة ملونة بالمغرة الحمراء (أكسيد الحديد)،
4
وذلك في مستويات من الثالث وحتى التاسع بشاتال هيوك والتي تؤرخ بالعصر الحجري الحديث، ست من تلك الدفنات جاءت في مقاصير واضحة المعالم ومحددة، وثلاث من تلك الدفنات عثر عليها في بقايا أبنية ربما كانت مقاصير، والاثنتان الأخريان عثر عليهما في أبنية مفتوحة للعراء شيدت أعلى مقاصير من مرحلة سابقة عنها؛ ومن ثم فربما كان قد بزغ في الذهن آنذاك معتقدات دينية تخص مثل تلك الدفنات التي صبغت بالأحمر،
5
والتي كان يتم وضعها فقط في الأماكن المحرمة أو مقاصير العبادة، ولم يعثر على مثل تلك الدفنات في أماكن السكن المعتادة.
6
وكانت الدفنات منزوعة الجماجم ويبين «شكل
5-1 » ثلاثا من الدفنات الآدمية المنزوعة الجماجم عثر عليها في المبنى رقم 6 بشاتال هويوك.
7
شكل 5-1: دفنات آدمية الجثث فيها عديمة الجماجم، المبنى رقم 6 بشاتال هويوك. (
Meskell, L., The nature of the beast: curating animals and ancestors at Çatalhöyük, in: World Archaeology, 8, 2008, p. 379, plate 4 .) (3) الدفن السماوي
كان الدفن السماوي إحدى أهم سمات الدفن التي تميزت بها الأناضول،
8
وهو يشكل عادة من العادات الجنائزية التي عرفت منذ 11000ق.م. وربط بعض الباحثين بين الدفن السماوي وبين أعمدة ونصب المعابد التي أطلقوا عليها مصطلح الميجاليث،
9 ⋆
والتي عثر عليها في مواقع جنوب بلاد الأناضول كما في معبد جوبيكلي تبة؛ وذلك نظرا لأنه قد جاء عليها نقوش بارزة لحيوانات وطيور كان النسر من بينها، ولأن النسر في موضوع الدفن السماوي هو حلقة الوصل بين المتوفى وصعوده إلى السماء، وهو القطب الأهم الذي من خلاله تتم طقوس الدفن السماوي؛ فقد ربط العديد من الباحثين بين هذه الأعمدة الميجاليثية وبين النسر ودوره في الدفن السماوي، ويبين «شكل
5-2 » أحد أعمدة معبد جوبيكلي تبة وعليه نقش لنسور ولهيئة مستديرة، ربما عبرت تلك النقوش عن الإلهة الأم والروح الآدمية.
10
شكل 5-2: نقوش بارزة لحيوانات ونسور، من أعمدة معبد جوبيكلي تبة. (
Meskell, L., The nature of the beast: curating animals and ancestors at Çatalhöyük, in: World Archaeology, 8, 2008, p. 376, plate 1 .)
والمقصود بالدفن السماوي هو خروج الروح من الجسد الآدمي الذي ما هو إلا وعاء لحفظ هذه الروح، وترك هذا الجسد لطيور السماء كي تتغذى عليه فتعيده مرة أخرى إلى الوجود، بينما تصعد الروح المقدسة إلى السماء بين مصاف الأسلاف والأرواح الطاهرة، وكان يؤخذ ما تبقى من الجسد لدفنه ويتم الاحتفاظ بالجمجمة في مكان ما بالمسكن أو مقصورة العبادة إعزازا للمتوفى.
ومن ثم فقد كان الدفن يتم على مراحل، وارتبط في طياته بممارسات طقسية وعقائدية، ووضح وجود ومعرفة الدفن السماوي في شاتال هويوك؛ إذ تكرر العثور على جماجم الموتى وعلى بعض الدفنات الآدمية أسفل أرضيات المساكن أو أسفل مصاطب وجدت في بعض المقاصير
11
التي زخرفت جدرانها برسوم مختلفة كان منها النسور المحلقة في الفضاء، والتي صورت تنقض على جثث آدمية ملقاة أسفل منها لتأكلها وهي عملية قصد منها تنظيف وإزالة اللحم من جثث الموتى قبل عملية الدفن. ويعتقد بعض الباحثين أن معالجة الجثث كانت تتم بوضعها خارج القرية أو في الأفنية الخلفية حيث يتم تنظيف الجسد من اللحم بواسطة الطيور الجارحة؛ وذلك طبقا لرسوم المعابد التي تصور الطيور الجارحة تهاجم أجسادا بشرية منزوعة الجماجم، إلا أن هناك بعض علماء الأنثروبولوجيا الذين نفوا هذا التفسير؛ حيث إن الدراسة الأنثروبولوجية للعظام تدل على عدم وجود أي أثر لمناقير الطيور الجارحة على العظام، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الجسد كان يترك في الخارج حتى يتآكل اللحم ثم تجمع العظام وتدهن باللون الأحمر أو الأخضر ثم تلف بالقماش.
12
شكل 5-3: مقصورة للعبادة زخرفت بجماجم الثيران، ومناظر مهاجمة النسور لجثث الموتى (
Mellaart, J., 2008, p. 83 .)
ويبين «شكل
5-3 » إحدى مقاصير العصر الحجري الحديث - الألف السابع ق.م. - عثر عليها بالمستوى الثامن بشاتال هويوك، ونرى الجدران وقد غطيت بالملاط وزخرفت بعناصر بجماجم ثيران ذات قرون حقيقية، وعلى اليسار نرى مناظر النسور المحلقة أعلى جثة آدمية، وأسفل ذلك المنظر توجد اثنتان من الجماجم الآدمية، ولقد تكرر ذلك المنظر في بعض المقاصير الأخرى، ولكن لسوء الحظ لم تكن تلك المناظر مكتملة، وبدراستها وبتكرارها سواء في شاتال هويوك أو هاتشيلار، وبارتباط تلك المناظر بوجود بعض الجماجم الآدمية في أغلب الأحيان، استطاع ميلارت أن يستنتج أن سكان شاتال هويوك عرفوا عبادة الأسلاف،
13
وأنهم كانوا يتركون جثث موتاهم في الخلاء للنسور لإجلاء اللحم وتنظيف الجثة قبل إعادة دفن ما تبقى منها بتلك المقاصير، وكان يتم الاحتفاظ بالجمجمة بعد تجصيتها في ركن ظاهر بالمقصورة،
14
أو بأحد أركان المنزل كنوع من التقديس لصاحبها وعرفت تلك المقصورة بمعبد الأسلاف.
15
شكل 5-4: إعادة تخيل لمقصورة بشاتال هيوك ونرى جمجمة الثور ومنظر النسور التي تهاجم الموتى. (
http://popular-archaeology.com/ .)
وتعرف عبادة الأسلاف بأنها تقديس الموتى اعتقادا بأنهم واعون في حيز غير منظور ويمكنهم أن يساعدوا أو يجلبوا الأذى للأحياء ولذلك يجب تهدئتهم وتقديسهم.
16
وتأكيدا على ممارسة الدفن السماوي تبين تفاصيل المنظر (شكل
5-4 ) إعادة تخيل للنسور المحلقة في السماء وكيف تهبط لتتغذى على الجثث الملقاة على الأرض «عملية إزالة لحم الجثث الآدمية»، والنسر هنا ربما كان يلعب دور الإلهة الأم.
17
أما «شكل
5-5 » فيوضح منظر مهاجمة النسور لجثث الموتى.
18
أعلى ما يشير إلى برج، وأعلى هذا البرج وبين اثنين من النسور المحلقة نرى شكلا مستديرا، ربما كان رأس آدمي وربما كان إشارة لقرص الشمس، ويرى بعض الباحثين أنه ربما كان إشارة إلى الروح الآدمية التي كثيرا ما كان يرمز إليها في الفن الصخري في الأناضول في عصور ما قبل التاريخ بالهيئة المستديرة.
19
وصورت تلك النسور العملاقة أحيانا تهاجم شخصا بلا رأس وممسكا بعصا.
شكل 5-5: النسور تنقض على جثث الموتى أعلى الأبراج. (
Cook.J., recovering the lost world, chapter 12: starturn and archaeology, 2001, in:
http://saturniancosmology.org/arch.php .)
وفي مناظر أخرى كانت تصور مجموعة من الأشخاص تحاول محاربة تلك النسور الضخمة وهو من التصاوير التي تبعث على الحيرة.
20
ويبين «شكل
5-6 » مهاجمة النسور لمجموعة من الموتى المنزوعي الجماجم الأمر الذي دعا إلى الحيرة وإلى ضرورة إلقاء الضوء على الدور الديني والأسطوري للنسر في الأناضول.
شكل 5-6: النسور تهاجم جثث الموتى - شاتال هويوك - العصر الحجري الحديث. (
Ruether, R. R., Goddesse and the define feminine, p. 33, fig. 5 .) (4) الدور الديني والأسطوري للنسر في الأناضول
كان للنسر أهمية كبرى في بلاد الأناضول؛ إذ كان سكان الأناضول يعتبرونه طيرا مقدسا، ورمزا قوميا لهم، وكان يعتبر ظل الأرواح الحامية، وروح الإله في آسيا الوسطى، فالنسر يرمز إلى الشمس والقوة والنفاذ، وكان سكان الأناضول يؤمنون سابقا أن النسر عندما يرفرف بأجنحته يغير الفصول، ولقد عثر على أدلة ارتباط النسور بالعبادة والدين في مواقع عدة ترجع للعصر الحجري الحديث كان منها شاتال هويوك وجوبيكلي تبة ونيفالي كوري.
21
ولقد كان النسر أحد رموز ثالوث شاتال هويوك للآلهة، وقد ظهر بكثرة في معابد ومقاصير العبادة فيها، ويتألف هذا الثالوث غالبا من الإلهة الأم (وهي إما على شكل صليب أو نسر) والإله الأب (وهو على شكل صليب أو ثور)، والإله الابن (وهو على شكل رأس ثور في الغالب).
22
ولم يكن هذا التقديس مجرد مشاعر وعواطف وأحاسيس نابعة من أثر هذا الطائر في حياة الإنسان وحسب، باعتباره مثالا للقوة، وإنما يرتد في جانب كبير منه إلى ماض أسطوري موروث لدى سكان الأناضول، كان فيه النسر إلها أو شبيها بالإله، يقترن بالجن، ويرتبط بالروح، ويتصل بالموت والخلود، ومعرفة الغيب والتنبؤ بالمجهول، وحين نقلب صفحات ما قبل التاريخ، نرى النسر ماثلا في ثقافة «شاتال هيوك» النيوليتية رمزا للأم الكبرى، «نجده في جميع معابدها، وقد ملأ جناحاه جدار المعبد المقابل لتمثال الإلهة، وهناك من الأدلة
23 ⋆
ما يشير إلى أن كاهناتها كن يلبسن أردية من ريش النسور، ويضعن أقنعة على هيئة رءوس النسر خلال الطقوس وتقديم القرابين.»
24
وتكرر الأمر نفسه في الطقوس المرتبطة بالشامانية وعبادة الأسلاف إذ كان للنسر أيضا رمزيته التي ربطت ما بينه وبين الشامانية وعبادة الأسلاف، وقد عثر على أدلة ما تؤكد ذلك إذ استخدمت أجنحة النسور من قبل الشامان أو الكهنة في شاتال هويوك في أداء بعض الرقصات الطقسية ذات الصلة بعبادة الأسلاف؛
25
إذ كان الشامانيون يؤمنون بأن الأرواح المساعدة كانت تأتي إلى جانبهم على صورة نسر، وفي حال شوهد النسر طائرا في منطقة ما فهذا يعني أن الشامانية ستمنح لتلك المنطقة.
26
وكان للنسر أيضا أهميته الدينية في حضارات عدة؛ ففي بلاد الرافدين وضح دور النسر منذ العصور الحجرية، ففي كهف زاوي شيمي شانيدار بالعراق عثر على بقايا أجنحة لحوالي سبعة عشر من الطيور الجارحة الكبيرة بدراستها تبين أنها لنسور
27
عثر عليها جنبا إلى جنب مع بقايا عظام حيوانية وجماجم لماعز وأغنام برية.
28
ولا شك أن في ذلك إشارة إلى طقوس معينة كانت تمارس ربطت بين النسر وتلك الأنواع الحيوانية.
ولقد كان الاعتقاد السائد في بلاد الأناضول أن جناحي النسر يقدمان الحماية للمتوفى، ويبدو أن النسر كذلك كان لديه القدرة على إعادة الشباب، كما أن النصوص السحرية تشير كذلك إلى أن جناحي النسر يهبان الحماية من السحر، وكذا القدرة على السيطرة ودرء كل أنواع الشر والمفاسد.
29 (5) شاتال هويوك
تعد شاتال هويوك واحدة من أكثر المواقع الأثرية أهمية في بلاد الأناضول؛ إذ تجسد فيها التطور الحضاري بكل مراحله، وكانت عادات الدفن وعبادة الأسلاف هناك من أكثر الأمور وضوحا ولفتا للانتباه؛ فقد دفن سكان شاتال هيوك موتاهم تحت المصاطب ضمن البيوت أو في المخازن أو في الأفنية الخلفية، واحتفظوا بجماجم الموتى في مناطق واضحة بالمسكن. وكان الدفن يتم بعد معالجة وتنظيف الجثث إلا من الهياكل العظمية، وربما كانت الطيور الجارحة هي من تقوم بمهمة التنظيف هذه؛ وذلك بناء على ما أوضحته رسوم المعابد التي تصور الطيور الجارحة تهاجم أجسادا بشرية منزوعة الجماجم، وربما كان هذا يتم في الخلاء خارج القرية ثم كان يتم تجميع العظام وتدهن باللون الأحمر أو الأخضر، ثم تلف بالقماش؛ إذ إن أغلب الدفنات عثر عليها ملفوفة بالقماش أو الجلد، وكان هناك اهتمام بالغ بالجماجم؛ إذ عثر على بعض الجماجم الملونة باللون الأحمر، وقد وضعت أصداف مكان العيون.
30
مما يعكس وجود نزعة روحية واضحة خلال تلك الفترة.
وربما شكلت هذه الجماجم رمزا للأسلاف الموقرين، أو أعضاء مهمين داخل العشيرة، فحاول السكان الاحتفاظ بالقوى الروحية لزعمائهم المتوفين كنوع من الاحترام والتوقير، ولعل استخدام هذه الجماجم كان نوعا من الوساطة بينهم وبين أرواح المتوفين في العالم الآخر، ومن هنا ربما بزغت فكرة عبادة الأسلاف.
هذا وقد دفن سكان شاتال هيوك مع موتاهم العديد من الهبات والقرابين والتي اختلفت تبعا لجنس المتوفى ومكانته الاجتماعية. وقد تم التعامل مع الجماجم بشكل خاص؛ إذ أعيد تشكيل الأجزاء المتآكلة من الوجه، ويفترض أن من قام بعمل التجصيص للجماجم لا بد أن يكون شخصا متخصصا يمتلك قدرات خاصة سواء كمعالج أو كعراف.
31
ويمكن القول إن هذه الجماجم تدل على ما هو أكبر من مجرد الاعتقاد باستمرار الحياة؛ إذ حفظت كأوعية لقوة مقدسة إجلالا لأرواح أسلافهم؛ وبالتالي فإن فرضية عبادة الأسلاف هي الصيغة الأكثر قبولا بالنسبة للجماجم المجصاة في منطقة شرق البحر المتوسط.
32 (6) تل دومازتيب
يقع في جنوب تركيا في منطقة بين سهول كيليكية والبحر الأبيض المتوسط في الغرب وإلى الجنوب من سهل العمق.
33
عثر على الجانب الغربي من التل على مقبرة أرخت بين 5000-4700 قبل الميلاد تضمنت العديد من الدفنات الجماعية؛ إذ عثر على 25 فردا من كلا الجنسين وضعت بشكل مبعثر في القبور. وقد دلت الدراسة الأنثروبولوجية على أن جميع العظام قد تعرضت لعملية كسر مع وجود آثار قطع، وبعض العظام لا تتضمن الفقرات العنقية والتي من المحتمل أنه قد تم فصل الجمجمة عن الجسد قبل الدفن، كما أن بعض الجماجم قد تعرضت للكسر للوصول للدماغ، وبعض الجماجم تم تحطيمها بالكامل وتوزيعها على كافة أنحاء القبر، كما تم العثور على بعض الجماجم مدفونة بشكل مفرد.
34
ومن الدفنات الملفتة للانتباه التي عثر عليها بالموقع دفنة لرجل بالغ مدد على الجانب الأيسر في وضع منثن وقد فصلت الجمجمة ربما قبل الدفن.
35
تضمنت هذه الدفنات هدايا وقرابين كأدوات الزينة وتمائم على شكل طائر وأختام طبعت عليها أيد وأرجل ربما ترمز لتجزئة أعضاء الجسد.
36
ومن ثم يمكن القول إن الأضاحي البشرية في بلاد الأناضول كان الغرض الأقرب لها هو التخلص من الجثة أو تنظيفها تمهيدا لدفنها من ناحية، وجعلها تصعد إلى السماء الطاهرة من خلال تناول الطيور الجارحة لها من ناحية أخرى، وكان الاحتفاظ بالجمجمة داخل المسكن من وجهة نظرهم أبلغ أنواع التقديس.
ولم تكن الأضاحي الآدمية في بلاد الأناضول تعتمد على تقديم البشر من الأحياء، وإنما اعتمدت على تقديم البشر من الموتى لطيور السماء كي تصعد بها إلى أعلى حيث الحياة مع الأسلاف.
الفصل السادس
الأضاحي البشرية في الهند واليابان والصين
(1) الهند
تقع جمهورية الهند إلى الجنوب من قارة آسيا، وتتكون من ثمان وعشرين ولاية وسبعة أقاليم اتحادية، وتعتبر الهند من أكبر دول العالم من حيث المساحة، حيث تبلغ مساحتها ما يقارب ثلاثة ملايين كم
2 ، وتشترك في حدودها مع الصين، وباكستان، ونيبال، وأفغانستان، وبنغلادش وغيرها. (1-1) الهندوسية
وتسمى البراهمية وهي دين وثني يدين به الغالبية العظمى من أهل الهند، وأصل كلمة الهندوسية مشتقة من كلمة سند لأن أهل فارس واليونان كانوا يتجولون على سواحل السند ويغيرون حرف السين إلى الهاء، فقالوا الهند، ومن كلمة استهان ومعناها المقر، وكانت ثقيلة عليهم فجعلوها استان بحذف الهاء ثم قرنوا بينهما فقالوا: هندوستان؛ أي مقر أهل الهند وسموا سكانها هندو وإليها نسب دينهم الهندوسية أو الهندوكية، والهندوسية عبارة عن مجموعة من العقائد والعادات والتقاليد التي تشكلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر، وتتكون في أصلها من امتزاج عقيدتين؛ عقيدة الشعوب الآرية التي غزت الهند، وعقيدة أهل البلاد الأصليين.
1 (1-2) الطقوس والمعتقدات الدينية في الهند
تنوعت الطقوس والمعتقدات الدينية في الهند ما بين طقوس جماعية وأخرى فردية،
2
وكانت أعظم الطقوس الجماعية في الهند هي تقديم القرابين، وأعظم الطقوس الخاصة الفردية هي التطهر؛ فالقربان عند الهندي ليس مجرد صورة خاوية، لأنه يعتقد أنه إذا لم يقدم للآلهة طعاما فإنها تموت جوعا، وكانت القرابين في الهند كما في غيرها من كثير من بلاد العالم لا بد وأن تكون أضحية بشرية، بل ويفضل أن تكون من الرجال؛ إذ كانت «كالي» تحب أن يكون قربانها رجالا، وفسر هذا بأنها إنما تحب أن تأكل رجالا من أهل الطبقات الدنيا وحدها، فلما تقدمت الأخلاق أخذ الآلهة يكتفون بالحيوان قربانا، فكان الناس يضحون لهم بالكثير منه، على أن الماعز كان ذا منزلة خاصة في هذه الاحتفالات، ثم جاءت البوذية والجانتية و«أهمسا» فحرمت التضحية بالحيوان في بلاد الهندستان، ثم عادت العادة مجراها القديم حيث حلت الديانة الهندية محل البوذية.
3
وفي الهند القديمة كان البراهمة يعلمون تلاميذهم أن كعكة الأرز التي يقدمونها كأضحية إنما هي بديل عن الكائنات البشرية، وأن ذلك الكعك يتحول إلى أجسام رجال حقيقيين على يد الكاهن، فكان الهنود يضعون قطعة من الكعك كبيرة جدا على صورة معبودهم، وفي كل عام يضعون الكعكة على صورته فيكسرونها ويوزعونها بينهم ويأكلونها وهم يعتقدون أنهم يأكلون جسد معبودهم، وكانوا يقولون وهم يأكلونها: أكلنا ربنا. ويقولون: إنا نحفظ الله ونحرسه حين نأكله.
4
ويسود في الهند أعلى نسبة من الاعتقادات الخرافية والأساطير، فمن الصعب أن تجد هندوسيا لا يعبد عددا من الآلهة؛ فالعالم عنده زاخر بها حتى إنه يصلي للنمر الذي يفترس أنعامه، ولجسر الحديد الذي يصنعه الأوروبي، وللأوروبي نفسه عند الحاجة لذلك. ويسود في الهند أيضا التعامل بالسحر والشعوذة حيث يؤمن الهندي بالأرواح الشريرة والتقمص، حيث إن روح الإنسان بعد موته يمكن أن تحل في جسد آخر وتكون قد مرت بعدة تناسخات، فإذا كانت النفس طيبة فإنها تحل في صورة حسنة، وأما إذا كانت شريرة فإن هذه الروح سوف تحل في جسد خنزير أو أفعى، ولعل هذا المعتقد قد نشأ نتيجة الديانة التي يؤمن بها الهنود (الهندوسية).
5
كما أن الإنسان الياباني والهندي وغيرهما من الشعوب المجاورة لهما جغرافيا يقومون بتقديس البقرة ويعتبرونها مصدرا للحياة ويحرمون أكلها، وقد يكون ذلك بقايا الفكر الطوطمي الذي يمنع أكل لحومها نظرا لأهميتها في حياتهم، ولعل عبادتهم للحيوانات أو تقديسها يرجع إلى تفكيرهم بأن الله يمكن أن يتجلى في أحد الحيوانات. وتنتشر في الهند ظاهرة غريبة وهي تقديس العضو الذكري وكذلك العضو الأنثوي؛ وذلك لاعتقادهم أنهما مصدر الحياة والتجدد والبقاء، وتنتشر المعابد والمحارق إذ يعتقد الهنود أن حرق جثث الموتى أمر هام الغرض منه عدم تدنيس الأرض، وهذه من معتقدات الديانة الهندوسية.
6
عقيدة التناسخ
هي إحدى العقائد البوذية التي قامت على مبدأ وحدة الوجود وتناسخ الأرواح؛ فالله والمخلوق واحد، والروح سرمدية تذهب إلى الجنة أو إلى النار،
7
ولقد تعددت عقائد الهندوس؛ فهم يؤمنون بأن الروح خالدة لا تموت ولا تولد ولكنها ببساطة تنتقل من جسد إلى آخر، وهذه العملية تتحكم فيها الكارما
Karma
أي أعمال وأقوال الإنسان في حياته السابقة (السيئات والحسنات)، وعلى أساسها يتحدد الشكل الجديد الذي سيولدون به.
8
أي أن الأرواح في اعتقاد أصحاب هذه العقيدة تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخرى، وأن هذه الروح جوهر خالد أزلي، أما الجسد فهو قميصها الذي يبلى فتستبدل به قميصا آخر تنتقل إليه؛ ولهذا يسمى التناسخ - أحيانا - تقمصا، ويعنون بالتقمص انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر، وإن كان البعض يفرق بين التناسخ والتقمص، فيجعل التقمص انتقال الروح من إنسان إلى إنسان آخر فقط، بينما التناسخ يشمل انتقالها من إنسان إلى إنسان أو حيوان أو نبات، وبذلك يكون التناسخ أعم من التقمص. وإنما سمي تناسخ الأرواح بهذا الاسم، ولم يسم تناسخ الأجساد؛ لأن جوهر النظرية هو الروح وليس الجسد، وأن وظيفة الجسد فيها مقصورة على أنه وعاء لتتابع الروح وميدان تداولها، وليس موضوع التتابع والتداول.
9
ومن الأمور المسلم بها في الهند منذ أقدم الأزمنة، أن الإنسان لا يختص وحده بصفات الجود والتضحية بالنفس والوفاء والمحبة وسائر الصفات الأخلاقية الرفيعة، إنما يتصف بها أيضا الحيوان والطير، وحتى الأشجار والزهور، كما هو وارد في العديد من الأساطير الهندية.
10
فروح الميت قد تنتقل إلى حيوان أعلى أو أقل منزلة لتنعم أو تعذب جزاء على سلوك صاحبها الذي مات، وقد شاع أمر تلك العقيدة بين الهنود وغيرهم من الأمم القديمة.
11
ولقد مارس الهنود عادة التضحية البشرية فيما عرف بحرق موتاهم، ولكنهم نادرا ما كانوا يأكلون أضاحيهم أو موتاهم.
12
طقس الساتي
طقس الساتي الجنائزي هو تقليد قديم جدا يتم اتباعه من قبل معتنقي الديانة الهندوسية، فبعد وفاة الزوج وحرقه ونثر رماده في النهر، تقوم الزوجة التي يتوفى عنها زوجها بحرق نفسها برغبة منها في فعل ذلك، أو من دون رغبة، برمي نفسها في محرقة زوجها
13 (شكل
7-1 ).
فهو طقس يعتمد على التضحية البشرية المسببة، فبموت الزوج يضحى بالزوجة لتحرق معه وتشاركه نفس النهاية. (2) اليابان
اليابان مجموعة من الجزر التي تطل على المحيط الهادي وتقع بالقرب من الساحل الشرقي لكتلة الأرض التي تمثل القارة الآسيوية الأوروبية الضخمة.
وسيطر الفكر الأسطوري على الشعب الياباني منذ الأزل، وفي اليابان عرف العديد من العقائد والأساطير التي ارتبطت في طياتها بتقديم الأضاحي البشرية. (2-1) العقيدة الشنتوية
الشنتوية أو الشنتو كلمة صينية الأصل مكونة من مقطعين: شين
shen ، وتعني: الإله أو الروح، وتاو
Tao
وتعني الطريق، والمراد بها: طريق الآلهة. والشنتو هو الدين التقليدي لليابانيين، ويسمونه بلغتهم «كامي-نو-ميتشي» ومعناها أيضا: طريق الآلهة، غير أن التسمية الصينية غلبت عليه واشتهر بها. ولم تذكر لنا المصادر الكثير عن الشنتو قبل دخول البوذية إلى اليابان، ومما يقال في ذلك إنها تولدت من الخوف من مظاهر الطبيعة؛ إذ يعتقد اليابانيون أن كل الحركات الأرضية والسماوية هي بمنزلة الأدلة أو نتائج الأنشطة الإلهية.
14
وقد تطورت المذاهب البدائية لعبادة الطبيعة إلى مذاهب لعبادة آلهة الأسلاف وأرواح الأسلاف، ولم يكن هناك تمييز واضح بين الإله والبشر، وبين الطبيعة والآلهة، ومن هنا نشأت أقدم ديانة في اليابان؛ وهي «الشنتوية» وكانت عبادة الأسلاف من الأسس الرئيسة التي قامت عليها. وقد عرف للشنتوية صورتان:
الأولى:
تتجه بالعبادة إلى الحاكمين الأسلاف، وهم الآلهة الذين أسسوا الدولة وأقاموا بناءها.
والثانية:
التي تقام في المنزل، وهي عبادة تتجه إلى أسلاف القبيلة.
15
وسيطر معتقد الشنتو على الشعب الياباني، ووفقا لهذا المعتقد فإن مؤسس السلالة الإمبراطورية هو سليل الشمس المقدسة وقد وصل إلى الأرض مرورا بالكوبرا العائمة بين الأرض والسماء، والتي تمثل بمعناها الطريق إلى الآلهة وذلك لتمييزها عن الديانة البوذية، تتركز هذه الممارسات الدينية حول عبادة الآلهة أو «كامي» التي تتمثل في عبادة إحدى الظواهر الطبيعية أو الأجداد الأسطوريين الذين كانوا في أغلب الأحيان ظواهر من الطبيعة كالشمس مثلا، وكان الخط الفاصل بين الإنسان والطبيعة خطا واهيا فكان من السهل إضفاء صفة الألوهية على رجل مهيب أو غير عادي، والغريب أنه لم يكن هناك ارتباط بين المفاهيم الدينية والمفاهيم الأخلاقية باستثناء الخوف من الطبيعة واحترامها.
16
وتقوم فلسفة الشنتو على التفرقة بين ما هو نقي وما هو ملوث، بدلا من فكرة الخير والشر. وفي أفكار الشنتو لا توجد جهنم أو محاكمة أو عذاب. وأما روح الميت فقد اعتقدوا أنها أطلق سراحها من قيودها المادية لتصبح جزءا من تكوين الطبيعة، وتهتم الشنتو بالحياة أكثر من اهتمامها بالموت؛ ولذلك تتعدد الاحتفالات الدينية التي كان اليابانيون يزورون فيها المعابد حيث تتداعم الصلة بين الفرد والكامي.
17
الشنتو لا يؤمنون بحياة أخرى غير الحياة الدنيا، والموت عندهم ينتهي بجسم المتوفى إلى منطقة ملوثة، أما روح الميت، فقد أطلق سراحها من قيودها المادية لتصبح مرة أخرى جزءا من قوى تكوين الطبيعة.
18
وكما يعتقد اليابانيون القدامى أن عددا لا يحصى من الآلهة يحوم حول الدار وساكنيها ويرقص مع ضوء الصباح ووهجه، ولعل هذا الاعتقاد يعود إلى صناعة الهواجس التي بعثها الخوف من الطبيعة وكان التقرب إلى الآلهة الكثيرة والعاتية بإحراق عظام غزالة أو قوقعة سلحفاة وبفحص العلامات والخطوط التي تحدثها النار فحصا تستمد فيه المعونة من دعاة المعرفة، وكما جرت العادة فإن اليابانيين كانوا يخافون الموتى ويعبدونهم لأن غضبهم، كما يعتقدون، سوف ينزل بالعالم شرا مستطيرا ولكي يسترضوا الموتى ويحافظون على رضائهم كانوا يضعون النفائس في قبورهم وكانت تختلف باختلاف المتوفى؛ ففي حال كان المتوفى ذكرا فإنهم يضعون سيفا إلى جانبه، ويضعون مرآة إذا كانت امرأة، بالإضافة إلى تقديمهم الطعام وأداء الصلاة أمام صور أسلافهم كل يوم، بالإضافة إلى ذلك اتجه اليابانيون في عبادة أرواح الآباء إلى أكثر من هذا حيث تطورت هذه العبادة لتصبح لها معابد؛ فالأباطرة العظام لهم معبد تعبد فيه أرواحهم وكذلك الأبطال، كما توجد معابد تعبد فيها السيوف التي خاض بها أصحابها معارك وحققوا انتصارات على أعدائهم، فإن للسيف روحا هي التي ساعدت صاحبه على تحقيق الانتصارات.
19 (2-2) تقديم الأضحية البشرية
عرف المجتمع الياباني ظاهرة التضحية البشرية وكان ذلك بمثابة نوع من التوسل ل «آني» كي يوقف المطر الغزير أو لإيقاف هزات الأرض؛ فقد لعبت طبيعة بلاد اليابان دورا في التأثير في معتقدهم حيث كانوا يفسرون جميع ظواهر الطبيعة التي كانوا يتعرضون إليها بالقوى الإلهية وغضبها عليهم. وكان هناك غرض آخر من تقديم الأضاحي البشرية يتعلق بالحماية والدفاع؛ فقد كان الغرض من دفن الأتباع مع أسيادهم المتوفين هو الدفاع عنه في أول مراحل حياتهم الآخرة وهذا جزء مرتبط بعبادة الأسلاف.
20
وفي اليابان كان يتم استخدام الأجساد البشرية لبناء القلاع والجسور والسدود، فهناك الكثير من المباني في اليابان عثر فيها على عظام آدمية تعود إلى أشخاص جرى قتلهم واستغلال أجسادهم في البناء، وتستند تلك التضحيات لمعتقدات قديمة تؤمن بأن التضحية بالبشر واستخدام أجسادهم في البناء سيحقق بنية قوية ودواما واستمرارا لتلك الأبنية المشيدة على الأشلاء البشرية.
21
ولعل أشهر الأبنية التي يعتقد بأنها شيدت بالأجساد البشرية هي قلعة ماتسوي
matsue
الواقعة في محافظة شيماني اليابانية والتي تم بناؤها في القرن السابع عشر، فبسبب انهيار أجزاء من القلعة أثناء تشييدها، واقتناعا منهم بأن الأجساد البشرية ستساعد في تقوية دعائم تلك القلعة، قام البناة بالبحث عن شخص مناسب في الحشود خلال مهرجان بون المحلي، واختاروا شابة جميلة كانت تقوم بعرض مهاراتها الرائعة في الرقص، خطفوها وقتلوها ثم قاموا باستخدام جسدها في بناء الجدار وأكملوا بناء القلعة بدون حوادث تعيقهم.
22 (2-3) الانتحار الشعائري
هناك مثال آخر حول القربان البشري يتمثل في التضحية بالنفس كنوع من تقديم الولاء للإله، ويعرف هذا النوع من التضحية بالنفس ب «سيبوكو» (الانتحار الشعائري)، ولقد اتسمت سيبوكو بتمالك النفس أثناء قيام المحارب بشرط بطنه بسكين خاص، ثم يقطع جلاد عنقه.
23 (3) الصين
تقع الصين في شرق قارة آسيا، وتعد الديانة البوذية هي الديانة الأم في الصين. (3-1) الطقوس والمعتقدات الدينية البوذية
يقدس الصينيون أرواح أجدادهم الأقدمين، ويعتقدون ببقاء الأرواح ، ويؤمنون بأن القرابين عبارة عن موائد يدخلون بها السرور على تلك الأرواح بأنواع الموسيقى، ويوجد في كل بيت معبد لأرواح الأموات ولآلهة المنزل.
24
وتقوم الديانة البوذية على مبدأ هو «أن أسعد الناس وأوفرهم حظا يتعين عليه التسليم بقدر من البؤس أو التعاسة.» ولكن ترى هل كانت التعاسة المقصودة هنا هي تلك التعاسة القدرية التي قد يعاني منها الإنسان، أم أنها تعاسة ترجمت إلى معنى آخر يخدم غاية هي أبعد ما تكون عن مبادئ أي دين؟
25 (3-2) تقديم الأضحية البشرية
عرفت الصين عادة تقديم القرابين البشرية، فكان يتم التضحية بالبشر ويتم استخدام أجسادهم ودمائهم لأهداف شعائرية تشمل التواصل مع الآلهة، ولطالما قدمت القرابين البشرية على مدار التاريخ هناك، فقد قدم عدد كبير من الجنود وسائقي العجلات والمرافقين والخيول قرابين، ودفنوا مع الحاكم الأعظم حوالي عام 1500ق.م. وقد استندت تلك الطقوس إلى فكرة تنص على وجود علاقة وثيقة بين الأموات والأحياء، وقد فهم من ذلك أنه بعد الموت يقوم جمع من الخدم والمساعدين على خدمة الملك المتوفى وأسرته كما عملوا في الحياة الدنيا.
26 (3-3) رأس السنة الصينية
ينتشر الدين البوذي بكثرة في الصين، وكان من مدعيات هذا الدين أن يقام احتفال في اليوم الرابع والعشرين من شهر فبراير من كل عام؛ حيث كانت تقدم الفتيات كقرابين لبوذا، ويوضح «شكل
6-1 » قرابين من فتيات عذارى يقدمونهن الصينيون قرابين لبشر حولوه إلى إله ويأكلون لحومهن، يتم اختيار الضحية بعناية من طرف الكهنة البوذيين في أرياف الصين وأحيانا يطلبونها من والديها الجاهلين اللذين يفرحان بتقديم ابنتهما العذراء إلى إلههما بوذا كأضحية، يتم إحضار الفتاة للمذبح مكبلة اليدين والرجلين، وكانوا قد غسلوها ونظفوها كما يفعلون بالخنازير، ثم يكون الاستعداد لنحرها على طاولة خاصة بذبح الخنازير مع وضع وعاء لجمع الدماء لشربها كجزء من الاعتقادات الجنونية.
27
شكل 6-1: تقطيع اللحوم لتقديمها قربانا. (
http://yafeau.net/vb/showthread.php?t=38181 .) (3-4) الدفن في السماء في مقاطعة التبت الصينية
يعد الدفن في السماء من الطقوس الجنائزية التي تتم ممارستها حتى الوقت الحاضر في مقاطعة التبت الصينية ومنطقة منغوليا، يتضمن هذا الطقس قطع جثة الإنسان المتوفى إلى قطع صغيرة وتوضع على قمة جبل عال ليتم تعريضها للطيور الجارحة (شكل
6-2 )، وحسب معتقدهم فإن الفكرة من هذه الممارسة هي ببساطة التخلص من بقايا الوجود الفيزيائي للإنسان بطريقة سخية حيث يتم تقدمتها كطعام للحيوانات ولعوامل الطبيعة.
شكل 6-2: صورة توضح الطيور الجارحة إذ تقوم بتناول الجثث الآدمية.
وقد جاء آنفا كيف أن الدفن السماوي نوع من طقوس عادات الدفن التي ظهرت إرهاصاتها الأولى في بلاد الأناضول في عصور ما قبل التاريخ، ثم أعاد التاريخ نفسه لتظهر مرة أخرى لدى بعض الشعوب في جنوب آسيا، من خلال طقس ديني جنائزي يتبعه سكان التبت الصينية ومنطقة منغوليا عرف باسم الدفن السماوي،
28
يعمدون فيه إلى ترك جثث موتاهم للنسور كي تتغذى عليها؛ ففي اعتقادهم أن الجسد ما هو إلا وعاء يحوي الروح التي تصعد في السماء.
29
ولقد أطلق على هذا الطقس أيضا باللغة المحلية لسكان التبت «إعطاء الوعاء للطيور»، وهي عادة تعبر عن احترام الميت، وتسود لدى أغلب أصحاب الديانة البوذية والزرادشتية.
30
فأصحاب تلك الديانات الوضعية يؤمنون بتناسخ الأرواح وتحتم عليهم تلك الديانة أن يتصفوا بالسخاء؛ لذلك نجد أن طريقتهم في التخلص من جثث الموتى يعتبرونها نوعا من الكرم؛ فهم يقدمون الجثث طعاما للحيوانات والطيور.
31
وفي طقوس ذلك الدفن السماوي يتم تقديم جثث الموتى إلى تلك الطيور (النسور)، في أغلب الأحيان يجري تقديم الجسم كاملا للطيور الكبيرة، وعندما لا يبقى إلا العظام يكون الهيكل محطما بمخالب الطيور الكبيرة القوية، فتقدم طعاما إلى الطيور الأصغر.
32
وفي بعض المناطق التي تقوم بالدفن السماوي تؤدى بعض الرقصات الطقسية مستخدمين عصا
33 ⋆
ربما كانت طقسية من أجل تحفيز الطيور على الأكل.
34
ويبين «شكل
2-5 » ما يعرف ب «قبر نسور البحر» وهو أحد صور الدفن السماوي حيث يتم وضع الجثة في مكان معلوم مرتفع قرب البحر ليقوم طائر النسر بتنظيف الجثة ونزع اللحم عنها؛ إذ يعتقد أن إزالة اللحم تمكن الروح من مغادرة الجسد، وهي رمزية عقائدية لعب فيها النسر الدور الأكبر بحمله رفات الموتى إلى السماء،
35
تماما كما كان عليه الوضع في الأناضول في عصور ما قبل التاريخ، ويتطابق هذا النوع من الدفن مع المضمون الإنساني للديانة الهندوسية التي تقوم على الانسجام والتكافل بين مكونات الطبيعة، حيث يكون الناس سعيدين أن يتكرموا بجعل جسدهم طعاما لاستمرار الحياة عوضا عن العمل على تحنيطه وحفظه؛ ففي المفهوم الهندوسي يكون الجسد بعد أن غادرته الروح مجرد لحم فقط، لم يعد له وظيفة أخرى.
36 (3-5) طقس الخنق
تعتبر هذه الممارسة حديثة نوعا ما حيث إنها مستمدة من الطقوس القديمة المسماة «ساتي» (شكل
6-3 ) يقوم سكان إحدى جزر فيجي الواقعة جنوب المحيط الهادي بمراسم هذه الطقوس الغريبة التي تنطوي على قتل أحب شخص على قلب المتوفى من أفراد أسرته ليتم دفنهما معا. فحسب معتقداتهم فإن الروح يجب ألا تبقى وحيدة في العالم الآخر؛ لذلك يجب أن تصاحبها روح قريبة لها لجعل مرحلة الموت والحياة الأخرى أقل ألما وأكثر ودية.
37
شكل 6-3: طقس الخنق. (3-6) قبيلة كورواي بأندونيسيا
تعيش تلك القبيلة في إندونيسيا بجنوب شرق آسيا، وهي تعتبر من القبائل الآكلة للحوم البشر، وتعتبر الأكلة المفضلة لتلك القبيلة هي المخ البشري، ويفضل أن يتم تناوله وهو لا يزال دافئا. ويعيش أفراد تلك القبيلة فوق الأشجار من أجل أن يحتموا من الأعداء
38 (شكل
6-4 ).
شكل 6-4: أحد أفراد قبيلة كورواي ممسكا بجمجمة آدمية.
الفصل السابع
الأضاحي البشرية في الأمريكيتين
(1) تاريخ القارة الأمريكية
كان سكان الأمريكيتين دوما من المهاجرين، ولقد وصل الإنسان العاقل للعالم الجديد عقب رحلة في أرجاء العالم القديم، ودخل أمريكا الشمالية منذ حوالي أربعين ألف سنة على أقصى تقدير؛
1
إذ تكثر المواقع الأثرية التي تعود لأقدم من عشرة آلاف سنة في الأمريكيتين.
2
وتضم الأمريكيتان أشكالا متنوعة وكثيرة من المناخات والبيئات، وتدل التنقيبات الأثرية الحديثة على أن أنماط الحياة في الأمريكيتين كانت على درجة كبيرة من التنوع؛ فقد عرفت حياة الصيد البري وصيد الأسماك وجمع الطعام، وقد توصل بعض سكان أمريكا الأوائل إلى معرفة الزراعة بصورة مستقلة عن العالم القديم ، ولكن العلماء ما زالوا مختلفين حول توقيت حدوث هذا التطور، ولو أنه قد حدث على كل حال بعد اكتشاف الزراعة في الشرق الأدنى القديم، وبحلول عام 2000ق.م. كانت قد تطورت أمريكا الوسطى (شكل
7-1 ) فصار بالإمكان عندئذ أن تنشأ جماعات مستقرة وكبيرة.
3
شكل 7-1: خريطة توضح أهم المواقع الآثارية بأمريكا الوسطى. (
Marcus, J., 1978, p. 173 .) (2) أشهر القبائل الأمريكية وأشهر عاداتها
انتشرت في العصور القديمة بالقارة الأمريكية العديد من القبائل التي كانت تأكل لحوم البشر، خاصة في شمال أمريكا.
4
وقيل إن العديد من القبائل الهندية من كندا وأمريكا الشمالية مارسوا أكل لحوم البشر، ومنهم: هنود الجونكيان في شمال شرق أمريكا الشمالية، وكواكيوتل، وقبيلة
Athapaskans ، وقبيلة
Iroquois
وقبيلة
Hurons
وتعد قبيلة كواكيوتل هي أكثر القبائل تناولا للحوم البشر وهذا بالدليل القاطع؛ إذ يعتمد الهيكل الاجتماعي لهذه القبيلة على فكرة أكل لحوم البشر، فهم يصورون العالم كمكان لتناول الطعام، وينظر إلى الرجل على أنه أحد الكائنات التي يؤكل لصلته بالكائنات الخارقة، وهم لا يرضون بأدنى من ذلك كطعام لهم، وللسيطرة والهيمنة على هذه الفكرة لا بد من التدخل الديني؛ ولذا تتبنى تلك القبيلة العديد من الأساطير التي تمارس في ظل طقوس واحتفالات معينة يتم فيها تناول اللحوم البشرية.
5 (2-1) الشامان ودوره في قبيلة كواكيوتل
تعتقد قبيلة كواكيوتل أنه بمقدورها السيطرة على الطبيعة الثنائية لحياتهم من خلال الشامان ذي القناع، وذلك من خلال الراقصات وشخصيات آكلي لحوم البشر؛ لأن هؤلاء الأفراد يتكونون من جزءين؛ الجزء الجسدي «ممثلا في الجسم الآدمي» والشق الخارق «ممثلا في الرجل المضحى به»، وهذ هو ما يعرف بالبنية الثنائية للمجتمع، ودور الشامان في ذلك هو السيطرة أو التوسط بين القسمين؛ البشر الذين يؤكلون وفي نفس الوقت يشاركون في فعل القوة الخارقة بالعبور بين العالمين وينتهي بهم الأمر أن يؤكلوا فيحصلوا بذلك على هوية الخارق.
6 (2-2) شعب الهنود الحمر بشمال أمريكا
شعب الهنود الحمر المسمى هورون
Huron
عاش على ضفاف البحيرات الكبيرة الواقعة فيما يسمى اليوم ولاية أونتاريو في أمريكا الشمالية، أسطورة الخلق لديهم تحدثنا أنه في البدء لم يكن هناك إلا الماء وبه كانت تعيش الحيوانات المائية
7 (شكل
7-2 ).
شكل 7-2: البحيرات الكبيرة الواقعة فيما يسمى اليوم ولاية أونتاريو في أمريكا الشمالية. (3) الأضاحي البشرية من خلال الرسوم الصخرية
عثر على أشكال متنوعة لرسوم صخرية توضح ممارسة عادة التضحية البشرية، وذلك ضمن النقوش الصخرية في منطقة أولمبيك لشالكاتزينجو في موريلوس المكسيك (شكل
7-3 ) تؤرخ بحوالي (900-500 قبل الميلاد) تنطوي على مناظر لبعض طقوس التضحية البشرية، وتصوير للعديد من المشاركين في تلك الشعائر القربانية، وربما كان لهذه الطقوس ارتباطات أسطورية وسياسية تتعلق بالحكم والزعامة في المنطقة.
8
شكل 7-3: مشهد استعراضي يوضح ممارسات طقوس تقديم الأضاحي البشرية من خلال الرسوم الصخرية في بعض مواقع منطقة أولمبيك لشالكاتزينجو، في موريلوس، المكسيك. (
Lambert, A. F., 2012, p. 94, fig. 1 .)
أوضحت الرسوم والنقوش الصخرية في منطقة
Chalcatzingo
الوضع الاجتماعي والدور الرمزي للأضاحي البشرية، وأوضحت كذلك احتمالية أن تكون تلك الأضاحي البشرية قد تم تقديمها كطعام للإله؛ إذ تظهر الشخصيات مرتدية الحد الأدنى من الملابس التي بالكاد تغطي منطقة الأفخاذ والساق، ورغم ذلك كان هناك حرص على ارتداء عصابات الرأس الذهبية، والأكاليل وشرائح تزين الأذرع، وكانت هذه من زينة وملابس صفوة ونخبة المجتمع هناك لا سيما الحكام. وهكذا كانت الأضاحي في
Chalcatzingo
تجسد نوعا من التناقض؛ فالأضحية المقدمة للإله قد تكون من الأسرى وفي هذه الحالة تحرم من أي حلي أو متاع أو ملابس ترتديها، وقد تكون شخصا ذا مكانة اجتماعية عالية ومن ثم يرتدي ما خف من الثياب ويرتدي إكليلا أو عصابة ذهبية وحلي الأذرع
9 (شكل
7-4 ).
شكل 7-4: القطعة الأثرية رقم 5 من منطقة
Chalcatzingo
ويتضح بها هيئات الأضاحي البشرية. (
Lambert, A. F., 2012, p. 97, fig. 6 .)
ولقد ارتبطت الأضاحي البشرية كذلك بالتجدد والخصوبة الزراعية والعطاء، فبتقديم الأضحية البشرية يعتقد أهل
Chalcatzingo
أنهم بذلك يضمنون هطول المطر، وخصوبة الأرض الزراعية ووفرة عطائها.
10 (4) حضارة المايا
استوطنت شعوب المايا مناطق أمريكا الوسطى والشمالية بما فيها من بليز والسلفادور وجنوب المكسيك وغرب الهندوراس، تعود أقدم مستوطنات المايا إلى حوالي 2000 قبل الميلاد، والمايا هو اسم حضارة قامت شمال جواتيمالا وفي أجزاء من المكسيك حيث الغابات الاستوائية وهندوراس والسلفادور، وهذه المناطق موطن شعب هنود المايا، وقد بلغت تلك الحضارة أوجها سنة 700ق.م. وكان وصول الإسبان والأوروبيين إلى الأمريكيتين سببا في تدمير هذه الحضارة. وتنقسم حضارة المايا زمنيا إلى ثلاث مراحل هي: «ما قبل الكلاسيك - الكلاسيك - ما بعد الكلاسيك» وتمتد هذه الفترات زمنيا ما بين 1000 إلى 2500 عام ما بين نشأة وتقدم ثم انهيار حضارة المايا.
11
ككل الشعوب الزراعية القديمة كانت شعوب المايا الأوائل يعبدون آلهة الزراعة، وكانوا يقدمون لها القرابين لاسترضائها، وكان لديهم اهتمام بالنجوم والفلك، وكانت ملاحظات العرافين أو الفلكيين تتنبأ لتبشرهم بالأحداث والساعات السعيدة في كل أنشطتهم الحياتية، ولا سيما الزراعة أو الحرب، وكانت أهراماتهم تشبه التلال المصنوعة من الدبش والحجارة وفوق قمتها المذابح والمعابد المسقوفة، وكانت تشيد في قلب المستوطنات ليقوم الكهنة بتقديم التضحيات للآلهة فوقها؛ لهذا أقاموا الأهرامات الكبيرة الحجم في موقع الميرادور في الأراضي الواطئة من جواتيمالا، وتعتبر من البنايات الضخمة لقدماء المايا.
12
وكان لدى زعمائهم الدينيين فكرة عن الزمان؛ إذ كانوا يعتقدون أن الماضي يعد بمئات الآلاف من السنين، بل لعلهم توصلوا إلى فكرة أن الزمان ليس له بداية. وقد بقيت لنا ثلاثة من كتبهم، وهي مدونة على ورق مصنوع من لحاء الشجر ومطوي بعضه على بعض، وتتحدث هذه الكتب عن طقوسهم وهي تعطينا فكرة عن ماضيهم، أما بقية القصة فلا بد لنا من لملمتها بما بين أيدينا من وسائل، مثل التأريخ بطريقة الكربون المشع، وعلم الآثار، والنقوش الحجرية المحفورة بكتابة تصويرية بدأ العلماء الآن بفك رموزها. وتشير الأدلة المجمعة إلى أن الكتابة كانت تستخدم لأغراض أخرى أيضا، ولكن لم يكتشف أي كتاب عن التأريخ أو عن التنبؤ بالغيب. وتعد مدينة تشيتشين إيتزا من أشهر مدن المايا، ويبدو أن مجتمع المايا كان يتكون من عدد من الدويلات الصغيرة المبعثرة، كانت آخر معاقلهم في يوكاتان.
13 (5) معابد المايا وارتباطها بتقديم الأضاحي البشرية
عثر على العديد من معابد المايا التي كانت تتكون في المجمل من حجرتين صغيرتين ويتفرع منهما من الداخل ممر صغير يؤدي إلى حجرة أصغر مساحتها حوالي 1,5م × 5,1م وارتفاعها حوالي 37سم ، وتحتوي هذه الحجرة على مذبح ضخم يحتوي من الداخل على أنقاض وبقايا كتل حجرية مجصاة، ويبلغ ارتفاع المذبح 60سم واتساعه 1,1م وطوله 2,4م، ومحاط بسياج متخذ شكل حرف إل
L ، ويوجد درج واحد يؤدي إلى هذا المذبح.
14 (6) أفضل المعابد الهرمية لحضارة مايا القديمة
حضارة المايا هي واحدة من أعرق الحضارات في التاريخ؛ فقد شملت هذه الحضارة جميع أنحاء أمريكا الوسطى والشمالية بما فيها من بليز والسلفادور وجنوب المكسيك وغرب الهندوراس، ولقد وصلت هذه الحضارة إلى تقدم رائع في مجالات عديدة مثل الهندسة والبناء والفنون وغيرها من المجالات المتعددة.
15
ولعل النظرة الفاحصة للمصاطب العالية الهرمية الشكل للمايا والأزتك تجعل المرء يتجه بفكره على الفور إلى بلاد الرافدين وزقوراته العالية ومعابد الآلهة الصغيرة التي يعلو بعضها وما يكمن وراءها من فكر ديني وطقوسي؛ لهذا كله أظن أن باستطاعتنا أن نشير باطمئنان إلى التأثر الواضح لأصحاب حضارات أمريكا الوسطى بحضارات الشرق الأدنى القديم وبالذات حضارات بلاد الرافدين.
16 (7) هرم «الكاستيلو» في تشيتشن إيتزا
إن هرم الكاستيلو الشهير الواقع في تشيتشن إيتزا، نحو الجزء الشمالي من شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك، هو هيكل رمزي لهذا الموقع الأثري ويعترف به كأحد عجائب العالم السبع التي صنعها الإنسان. اكتشف علماء الآثار الذين أعادوا هذه البنية خلال الثلاثينيات هرما أصغر داخل هذا الصرح الذي يعود تاريخه إلى ما قبل الهسبان والذي يتوافق مع فترة أقدم من المايا. وقد أظهرت الدراسات الجيوفيزيائية السابقة التي أجراها المنقبون في عام 2014؛ تجويفا طبيعيا مدفونا جزئيا مملوءا بالمياه تحت هرم الكاستيلو، وباستخدام التقنيات الحديثة تبين وجود بنية تحتية ثانية أسفل البناء الهرمي المكتشف والذي يصل ارتفاعه تقريبا نحو 65,6مترا
17 (شكل
7-5 ).
وتشيتشن إيتزا إحدى أهم مدن حضارة المايا التي اشتهرت بمعالمها المعمارية المميزة لا سيما الهرم والمعبد
18 (شكل
7-6 ).
شكل 7-5: هرم تشيتشن إيتزا، المكسيك. (
René E. Chavez, R. E., & others, (2017), p. 223, fig. 3 .)
شكل 7-6: موقع تشيتشن إيتزا والمعبد وهرم الكاستيلو بالمكسيك. (
René E. Chavez, R. E., & others, (2017), p. 221, fig. 1 .)
شكل 7-7: نقش من تشيتشن إيتزا لرجل يحمل رأس بشري في يده. (
Miller, V. E., Skeletons, Skulls, and Bones in the Art of Chichén Itzá, in: New Perspectives on Human Sacrifice and Ritual Body Treatments in Ancient Maya Society, Mexico, 2008, p. 169, fig. 7.1 .)
شكل 7-8: رفوف الجماجم الآدمية من تشيتشن إيتزا. (
Miller, V. E., 2008, p. 171, fig. 7.4 .) (8) مواقع القرابين الأزتكية
كانت القرابين البشرية عند الأزتك تقدم ضمن نظام شعائري أكبر وأكثر تعقيدا ارتبط بالحروب والقرابين، وكانت تلك القرابين تقدم خلال مراسم بعض الاحتفالات الشعبية في عدد من المراكز الشعائرية في المدينة وفي أرجاء الإمبراطورية.
19 (9) تقديم الأضاحي البشرية
ولقد اشتهرت تشيتشن إيتزا كذلك بطقوسها وممارساتها العقائدية التي كان أهمها تقديم الأضاحي البشرية؛ وكانت طريقة تقديم القربان لدى شعب تشيتشن إيتزا بشعة، حيث يجتمع كبير المقاتلين وملك القوم وكاهنهم وبعض الحرس وأبناء الملك في رأس الهرم، ثم يأتون بالأضاحي البشرية التي سيقدمونها ويضعونها على مكان مرتفع في رأس الهرم ويأتي الكاهن ويقرأ التراتيل والتعويذات؛ ومن ثم يهوي بسكينة على صدر الشخص المضحى به ويشقه ويكسر الضلوع ويقطع الشرايين عن القلب ثم يخرجه، والضحية لا تزال حية؛ ومن ثم يهوي أحد الحراس بفأس على رأس الضحية فيقطعه ويهوي به من أعلى الهرم، ومن ثم يهوي بالجسم من أعلى الهرم، وهناك من يستلم الرأس بطريقة بهلوانية في أسفل الهرم؛ ومن ثم يقوم الكاهن بوضع القلب على مشب أو موقد ليشتعل القلب ويحترق وبهذا يكون قد قدم القربان إلى آلهتهم.
20
شكل 7-9: جزء من منظر مرتبط بالأسلاف عثر عليه بمعبد تشيتشن إيتزا. (
.)
ولقد اشتهرت تشيتشن إيتزا بالاهتمام بالجماجم الآدمية.
21
ورسم أجزاء الجسم البشري والعظام في العديد من الأعمال الفنية وربما كان الدافع إظهار القوة والانتصار على الأعداء، كأفعال دالة على الانتقام من مثل ما جاء في رفوف الجماجم في مرتفعات غواتيمالا؛ إذ كان التركيز على نقش جماجم بشرية عدة فاتحة فمها لبث الخوف في قلب العدو.
22
ولا يخفى على أي زائر للمكان مدى الروحانية والرمزية التي يتمتع بها، ويتبدى ذلك سواء من خلال الأعمال الفنية أو المنشآت المعمارية التي شيدها شعب تشيتشن إيتزا.
23
ولقد عبرت الأعمال الفنية في معبد تشيتشن إيتزا عن العبادات والعقائد التي آمن بها شعب تشيتشن إيتزا والتي كان على رأسها تقديس الأسلاف؛ ففي «شكل
7-9 » يتبين جزء من منظر عثر عليه في المعبد ركز فيه الفنان على إظهار أحد الأشخاص يعلو رأسه تاج ريشي؛ مما يشير إلى اعتباره شخصية مقدسة، ويمسك في يده مجموعة من الرماح وثعبانا فاغرا فاه.
24 (10) حضارة الأزتك
كانت إمبراطورية الأزتك في طور التوسع عندما وصل إليها الأوروبيون، وقد سحرتهم بغرابتها وإنجازاتها كما أثارت الرعب في نفوسهم.
25
والأزتك
Aztec
هي قبائل الهنود القديمة (شكل
7-10 ) التي عاشت في أراضي المكسيك منذ القرن الحادي عشر وحتى بداية القرن السادس عشر، وأقاموا هناك واحدة من أعظم حضارات العالم والتي لا تزال آثارها موجودة حتى الآن.
26
وقد أنشأ الأزتك العديد من الأماكن الرائعة التي أشهرها وأعرقها معابد أشبه بالأهرامات كانوا يقصدونها للعبادة وإقامة الطقوس والتي لا تزال موجودة حتى الآن. كما توصل الأزتك لمعلومات قيمة للغاية في علم الفلك والرياضيات.
27
وفي سنة 1324 أقام الأزتك قرية فوق جزيرة أسموها «تينوكتيتلان» تطورت بعد ذلك وأصبحت مدينة كبيرة وهي مدينة «نيو مكسيكو» العاصمة الحالية.
28
شكل 7-10: رسم تخيلي لإمبراطورية الأزتك. (
Michael E. S., Live in the Preovminceps of the Aztec empire, Mexico, 2005, p. 90 .) (11) تقديم الأضاحي الآدمية أعلى معابد الأزتك
شكل 7-11: رسم تخيلي لشكل المعبد الهرمي لحضارة الأزتك. (
Michael E. S., Live in the Preovminceps of the Aztec empire, Mexico, 2005, p. 91 .)
تقول الفلسفة الأزتكية إن الجسد البشري شكل مخزونا حيا للقوى المقدسة في العالم، وكان القلب والرأس متلقيين لمصادر القوة والتجدد في الطبيعة.
29
ولقد استندت الديانة والحياة اليومية الأزتكية على فكرتين هما: تكرار صنع الآلهة في الخلق والتدمير، وتغذية الآلهة عبر تقديم هبات من الطاقة المقدسة.
30
وكان الشكل الهرمي من أهم الأنماط المعمارية التي أتقنتها واستمرت عليها قبائل الأزتك وربما كان لذلك دلالته العقائدية لديهم؛ فالهرم هو مركز الطقوس الدينية ويصح هذا الأمر على الأرجح على مدينة تيوتيهواكان.
31
ويوضح «شكل
7-11 » إعادة تخيل لما كان عليه المعبد ذو الشكل الهرمي لديهم.
32
وكانت ديانة الأزتك تتطلب تقديم الأضاحي البشرية،
33
ولقد أثبتت أحدث الاكتشافات تقديم الأضاحي الآدمية أعلى معابد الأزتك.
34
وكان هذا الأمر يتم بصورة فظيعة تقطع فيها رءوس الضحايا وتنتزع قلوبهم من صدورهم وهم أحياء، بغرض إرضاء الإله وتجديد قوته.
35
وهناك العديد من الأعمال والمصنوعات الفنية الهامة لدى الأزتك التي ارتبطت بطقوس تقديم الأضاحي البشرية كان من بينها علبة حجرية تستخدم لإحراق قلوب البشر وتخزينها، وكانت أساطير الأزتك تقول إن الآلهة قد اضطرت للتضحية بنفسها لكي تمنح دماءها غذاء للشمس، فكانت هذه الطقوس المريعة إعادة تمثيل لتلك الأسطورة.
36
ولقد عبد الأزتك إلها مكرسا للحرب، وأقاموا له معبدا فخما فوق مصطبة عالية مشيدة من الحجارة المتراصة، ترتفع فوق مباني المدينة لتكون موضعا متميزا يليق بضحايا إله الحرب، كانت تقوم أمام معابد الأهرامات تلك ساحات واسعة يتجمع فيها الأزتك لمشاهدة الطقوس التي تراق فيها دماء الضحايا فوق درج المعبد.
37
وكانت الطقوس تتم بعد أن يعتلي المضحى به درجات سلم المعبد، ويتم انتزاع قلب الضحية البشرية وهو لا يزال ينبض، ويلقى على سلالم المعبد لتتخضب درجات السلم بالدماء حتى يصل القلب إلى الأرض، وكان اعتقاد الأزتك أن من يضحي بنفسه أو يتم تقديمه كأضحية من الرجال أو النساء فهو خالد لأنه ضحى بنفسه لنيل رضا الإله، كانت الطقوس تتم بلا رحمة ودون هوادة فبمجرد صعود المضحى به ووصوله إلى أعلى المعبد يذبح وينتزع قلبه ويلقى به متدحرجا عبر درجات الهرم، وهذا هو الموت الوشيك الذي صعد ليناله سواء كان برضاه أو مرغما عليه.
38 (12) معابد الأزتك والأضحية البشرية
اتخذت معابد الأزتك الشكل الهرمي ولقد شيدت الأهرام لأسباب دينية، وبالتحديد لتقديم القرابين والأضاحي البشرية لآلهة الشمس والقمر (شكل
7-12 ).
شكل 7-12: نموذج لهرم أزتكي. (13) نظريات حول سبب التضحية بالبشر لدى الأزتك
مارست شعوب وحضارات أمريكا الجنوبية كالمايا والأنكا والتولنك والأزتك التضحية البشرية، وكان الأزتك أكثرها ممارسة لهذه العادة من حيث العدد وربما يعطي التقويم الأزتكي تفسيرا مهما لأسباب الإفراط بالتضحية البشرية لدى الأزتك، إلا أن علماء التاريخ يذكرون أسبابا ونظريات أخرى أهمها:
39
أن الأزتك كانوا يفتقدون في غذائهم إلى البروتين؛ لذلك حاولوا التعويض عن ذلك بأكل لحوم البشر حيث كانوا يقومون بأكل أجزاء من جسم الضحية، إلا أن بعض العلماء يدحضون هذه النظرية بالقول إن غذاء الأزتك كان حقا يفتقر إلى البروتين الحيواني، ولكنه كان غنيا بالبروتين النباتي.
نظرية أخرى تقول بأن الأزتك كانوا يستعملون التضحية البشرية كدعاية لهم لإثارة الرعب في نفوس أعدائهم، وأنهم كانوا يبالغون في إعداد الأضحية لأجل بث الخوف وإضعاف مقاومة أعدائهم.
وهناك نظرية أخرى ومؤيدوها هم من أحفاد الأزتك في المكسيك، وترى هذه النظرية أن جميع ما ذكرته الكتب عن التضحية البشرية لدى الأزتك هو كذب وتدليس قام به المستعمرون الإسبان لتشويه صورة شعوب الهنود الحمر في الأمريكيتين وتبرير المجازر التي قاموا بها بحق هذه الشعوب، وربما تكون هذه النظرية محقة نوعا ما؛ حيث إن الإسبان أسهبوا وبالغوا في وصف بربرية شعوب الأزتك، ولكن تبقى هناك حقيقة أن الكثير من نقوش ورسوم التضحية البشرية مأخوذ من معابد وآثار الأزتك نفسها.
40
ولقد تم العثور على معبد داخل بناء يتوسط مدينة المكسيك، وهو معبد صغير مستدير الشكل كان مخصصا لإله الرياح؛ ومن ثم اتخذ نمط هذا المعبد شكل الدوامات أو شكلا يرمز إلى الدوامات (شكل
7-13 ) وفيه عثر على الكثير من دلائل تقديم الأضاحي البشرية.
41
شكل 7-13: المعبد الذي اتخذ شكلا يرمز إلى الدوامات. (
Aguilar-Moreno, M., Aztec Architecture, part 1, fig. 103 .) (14) قبيلة شوار (جيفارو)
توجد غرب الأمازون في البرازيل بأمريكا الجنوبية وهي قبيلة متوحشة بدائية، عندهم موجة من الطقوس المتوحشة تسمى تسانتسا، بحيث يصطادون عادة رءوس أعدائهم من البشر ويقطعونها، ثم يزيلون عظام الجمجمة ثم يحشونها بالرمال الساخنة لتخفيفها (شكل
7-14 ) وفي النهاية يخيطون الشفتين، ثم يعلقون الرأس على شجرة بحيث يكون حجمه تقريبا مثل حجم التفاحة
42 (شكل
7-15
وشكل
7-16 ).
شكل 7-14: طريقة تسانتسا لتصغير الوجوه بعد قطعها لدى قبيلة شوار بالبرازيل.
شكل 7-15: منظر يوضح كيف تقوم قبيلة شوار بتخييط الشفتين. (
https://bahrainforums.com/vb/showthread.php?t=888181 .)
شكل 7-16: منظر يوضح كيفية تعليق رأس الأضحية على شجرة بحيث يكون حجمه تقريبا مثل حجم التفاحة. (
https://bahrainforums.com/vb/showthread.php?t=888181 .)
شكل 7-17: جمجمة طفل عثر عليها شمال بيرو.
وفي شمال «بيرو» - غرب أمريكا الجنوبية - عرفت عادة التضحية بالأطفال؛ فقد عثر في شمال بيرو على جماجم العديد من الأطفال التي كانت قد قدمت كأضحية ضمن الممارسات الدموية التي مورست هناك منذ آلاف السنين
43 (شكل
7-17 ).
ولعل هذه الجماجم كانت قد استخدمت كنوع من الوساطة بين البشر وبين قوى الطبيعة؛ ففي هذا العصر استقر السكان في قرى معينة طوال السنة، معتمدين بشكل أساسي في غذائهم على الزراعة فلا بد أنهم مارسوا طقوسا دينية خاصة لزيادة المحصول وهذا المعتقد ما زال موجودا لدى سكان المايا في دولة جواتيمالا، حيث يتم الاحتفاظ بثلاث جماجم على مذبح الكنيسة، ويعتقد السكان أنهم يمثلون أسلافهم الموقرين، وخلال وقت معين من السنة الزراعية يتم تسيير إحدى الجماجم في موكب عبر القرية ويحدث ذلك ليلا بواسطة رجال القرية (كبار السن)، ويتم تقديم الجمجمة على طبق كبير وتتسلمها فتاة في سن الزواج، ويتم إعداد وليمة تقليدية وتوضع الجمجمة على مائدة منفصلة مع أفضل الطعام، ومن الواضح أن هذه الشعيرة ما هي إلا إحدى ظواهر الخصوبة؛ حيث من تقوم بإجراء القداس امرأة قادرة على الإنجاب؛ وبالتالي الربط بين خصوبة المرأة والأرض.
44 (15) قبيلة يانومامو
وهي عبارة عن مجموعة من السكان الأصليين الذين يعيشون في بعض القرى في غابات الأمازون المطيرة على الحدود بين فنزويلا والبرازيل. وعند هذه القبيلة تتم ممارسة أكل لحوم البشر من داخل الجماعة، وأي ذكرى للميت يجب أن تمسح من فوق سطح الأرض، وأي ممتلكات له يجب تدميرها، ويتم نسيان اسمه وحرق جسده في مكان عام، ثم تسحق عظامه وتخلط بعصيدة الموز وتبتلع من قبل أقاربه، ومن شأن هذه الشعيرة أن تهدئ من شبح الميت الذي يمكنه هكذا أن يعيش حياة سرمدية دون تشرد.
45
الفصل الثامن
الأضاحي البشرية في أوروبا
(1) الأوربيون والتضحية البشرية
مارس الأوربيون التضحية البشرية بأشكال مختلفة ذبحا وحرقا وغرقا، ولقد انتشرت تلك الممارسات في شمال غرب أوروبا؛
1
إذ حفظت برودة المناخ نماذج عدة من هياكل وأجسام لأضاحي بشرية فيما عرف بأجساد المستنقعات، أقدمها يرجع للعصور المجهولية فصاعدا، وأثبتت الدراسات أن أغلب تلك الأضاحي البشرية كانت لأشخاص من الشامان أو كانت لأناس تمت التضحية بهم ضمن ممارسات الديانة الشامانية.
2
ولقد لوحظ على معظم هذه الأضاحي الآدمية وجود سمات معينة تنوعت بين ما يلي: (1-1) العنف المفرط بما في ذلك تفكيك/قطع الرأس/الطعن
تتضمن الرحلة إلى العالم الآخر في العقيدة الشامانية الإثنوجرافية أمورا معينة لا سيما الأولى، قطع الرأس وتفكيك الجسم رمزيا لتفكك الروح التي يجب أن تحدث لإعادة الميلاد، ادعى ديودوروس سيكلوس المؤرخ اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، أن الكاهن الذي تم تفسير ممارساته الطقسية على أنها شامية، استخدم الضحايا البشرية المقدمة كقربان كأدوات للروح وذلك بأن يتم طعن الضحية فوق الحجاب الحاجز ثم يتم التنبؤ بالمستقبل عن طريق تشنجات جسده، وسكب دمه وفي بعض الحالات ملاحظة أحشائه؛ فالعنف المفرط هو واحد من السمات الأكثر شيوعا بين أجساد المستنقعات التي عثر عليها بشمال غرب أوروبا.
3 (1-2) الاختناق يتجلى من خلال وجود الحبال أو الوتر
يمكن أن يحدث الاختناق حالة من الغشية والنشوة المؤقتة وذلك من خلال نقص الأكسجين،
4
وهذا هو ما حدث مع الشامان الأتراك والسياميين السيبيريين حيث قاموا بشنق أنفسهم بالحبال من أجل إحداث حالة من النشوة، وكان من أشهر الأمثلة على ذلك شامان فايكينغ أودين الذي شنق نفسه من أعلى شجرة يغدراسيل من أجل اكتساب المعرفة الروحية.
5
و«أودين» تعني «سيد النشوة»، وقيل إنه نام كأنه ميت، وخلال ذلك الوقت كان يستطيع أن يشكل تحولات بأشكال عدة كأن يأخذ شكل دب، أو ذئب أو طائر جارح. من الناحية الفسيولوجية، من المعروف أن الخنق الجزئي يكون شبه مهلوس ويمكن أن يزيد من الإثارة الجنسية، ويبدو أن الاختناق شائع جدا بين أجسام المستنقعات.
6 (1-3) تناول مواد الهلوسة
في الشامانية الإثنوغرافية يمكن استخدام ابتلاع أو استنشاق المواد ذات الخصائص المسببة للهلوسة للحث على نشوة، أو إحداث حالة متغيرة من الوعي، فالسم أو المخدر يؤدي إلى الموت، وهو ضروري لرحلات الشامان إلى العوالم الأخرى.
7 (1-4) التشوهات الجسدية أو السمات الجسدية غير العادية
غالبا ما يتم اختيار الشامان على وجه التحديد لأن لديهم تشوهات جسدية أو إعاقات حيث يعتقد أنهم قد تأثروا بالأرواح،
8
فكان الشامان الأراوكانيون في تشيلي عادة ما كانوا يعانون من ضعف عام وأمراض أخرى،
9
ويعتبر مرضى الصرع من صفات الشامان في جزر أندامان وهم من السحرة العظماء، وقد يمتلك الشامان سمات غير عادية أخرى تميزهم عن مجتمعهم مثل الوشم أو الوحمة أو مكانة استثنائية أو ربما الغموض الجنسي.
10 (1-5) الأيدي غير القاسية والأظافر المشذبة
كان للشامان وضع خاص في المجتمع حيث يتم اختيارهم من قبل الأرواح، فهم أفراد من النخبة الصوفية المختارة، ويرى العديد من الباحثين أن الشامان والكهنة كانوا من الطبقة العليا في المجتمع،
11
وعلى هذا النحو يبدو أنه من غير المحتمل أنهم كانوا يشاركون في العمل اليدوي؛ فالأظافر من الأشياء المهمة في القيام بالممارسات الشعائرية والطقوس السحرية.
12 (1-6) العري أو شبه عري
يدخل العديد من الشامان إلى العوالم الأخرى في حالة خلع ملابس أو العري، فقبل أن يدخل الشامان في حالة من الغيبوبة يكون الجزء العلوي من أجسادهم عاريا، وذلك كما في حالة الشامان الكنديين، وفي الأمثلة الإثنوغرافية الشامانية الأخرى، هناك «حكماء عراة» هم كهنة الشامان في العقيدة الهندية.
13 (1-7) وجود أغطية الرأس والأحزمة ومعاصم الأذرع الجلدية بالقرب من الجسم العاري
يمكن لرجل الشامان أن يرتدي ملابس من الجلد أو الصوف أو من الفراء مثل أغطية الرأس والقبعات والسراويل؛ من أجل تمثيل شخصية حيوان الشامان التي تساعد في نقله إلى عالم الروح، وهذا كله من الأمور الرمزية المساعدة لتحوله إلى شخصية الشامان.
14 (1-8) التركيز على الرأس أو الشعر
في ثقافة العصر الحديدي تم تكريم الرأس حيث كان يعتقد أنه يحتوي على القوة الروحية للفرد، وكان يعتقد أن الرأس المحرر رمز للخصوبة؛ فللرأس خصائص تجددية وقدرة على التوسط بين العالمين وبالمثل في الشامانية الإثنوغرافية يعتقد أن الروح موجودة في الرأس؛ ولذا فالشامان لا يقطعون شعرهم لأنهم يعتقدون أن الشعر هو المكان الذي تعيش فيه أرواح العشائر، فلدى قبائل الأسكيمو الشعر والأظافر مهمة في تنفيذ الطقوس السحرية، ويؤمن أتباع إنويت في كندا أنه في قطع الشعر ينفصل جزء من الروح؛
15
وبالتالي فإن قطع الشعر قد يدل على تحرير الروح، أو على العكس من ذلك، قد لا تتمكن الروح غير الكاملة من السفر إلى العوالم الأخرى.
16 (1-9) القيود مثل العوارض الخشبية، والحبال، والحواجز، والأربطة
جزء من طقوس الديانة الشامانية قد ينطوي على أن يكون الشامان مقيدا بطريقة ما. يرى بعض الباحثين أن ربط الشامان هو أعظم المفاخر الشامانية،
17
وفي بعض الأحيان تم العثور على أجساد للشامان وقد تم فك أربطتهم نوعا ما، وكان تفسير ذلك أن مساعدي الروح قد ساعدت على فك قيوده.
18 (2) نماذج من الأضاحي البشرية
عثر الباحثون على جثث في حالة جيدة للغاية بالرغم من أنه مضى عليها حوالي 2000 سنة. وكان من بينها جثة رجل أطلق عليه اسم
Tollund man
الذي عثر عليه في تيلاند الدنماركية أدهش الجميع بتعابير وجهه الفتية. هذا بخلاف الجثة التي أطلق عليها
Bockstensman ، والتي عثر عليها في قرب مدينة فاربيرغ الدنماركية، كانت لا تزال في ملابسها العائدة للعصور الوسطى. التحاليل التي أجريت على هذه الجثث، تشير إلى أنهم ماتوا كقرابين للآلهة المتعطشة للدماء، وأن تقديم البشر كقرابين كان عادة منتشرة في العصر الحديدي، خصوصا في اللحظات الحرجة.
19
هذه الجثث كانت محفوظة بشكل جيد إلى درجة أن من يراها للمرة الأولى يعتقد أنها جريمة قتل حديثة إلا أن الطرق المتطورة في التحليل أمكنها أن توقف هذا الجدل القديم وتبرهن على أنها جثث من الماضي السحيق. أغلب الجثث من هذا النوع ترجع إلى الفترة ما بين 375-210 قبل الميلاد.
20
وهناك رجل أولدكراجون الذي عثر عليه عام 2003، خلال حفر قناة الصرف في مستنقع
Cloner
وأرخه الكربون المشع بما بين 362 و175 قبل الميلاد. وقد طعن في صدره، وقطع رأسه، ونزع من جسمه، وقطع جسده من منتصف الجذع. كان هذا الشاب في منتصف العشرينيات من عمره، يتمتع بمكانة ووضع اجتماعي مميز يتبين ذلك من خلال يديه غير القويتين وأظافره المشذبة التي توحي بأنه لم يشارك في العمل اليدوي على الأقل لفترة ما قبل وفاته، وقد عثر حول ذراعه اليسرى على جلد مزين بزخارف معدنية
21 (شكل
8-1 ).
شكل 8-1: جسد رجل أولدكراجون. (
Brennan, B., 2014, plate 11 .)
وكان من بين جثث ضحايا الطاعون التي ترجع إلى العصور الوسطى تلك الجثة التي عثر عليها وكان قد وضع بقوة بين فكيها قطعة من الصخر أو لبنة تم كسرها، وكانت هذه الطريقة تستخدم مع مصاصي الدماء المشتبه بهم في أوروبا خلال هذا الوقت، خاصة عندما أدت العمليات البيولوجية الطبيعية بعد الموت إلى سائل شبيه بالدم يتدفق من الفم ، الجثة كانت لسيدة مسنة وقد قرر الباحثون أن هذه السيدة لم تكن من مصاصي الدماء بعد وفاتها فحسب، بل ربما كانت قد اتهمت بممارسة السحر قبل أن تقابل نهايتها، فلم يكن معظم الناس يعيشون في سنها، وقدرت أعمارهم ما بين 60-71 سنة، وكان العديد من الأوروبيين في العصور الوسطى يعتقدون أن الشيطان أعطى قوى المسنين لخداع الموت، كانت النساء الأكبر سنا مشتبها بهن بشكل خاص لأنه كان يفترض أنه ليس لديهن سوى القليل ليعشن فيه، كما أنهن معرضات لعروض القوة
22 (شكل
8-2 ).
شكل 8-2: مصاص دماء البندقية بإيطاليا جنوب أوروبا. (
https://www.pinterest.com/pin/344806915191204887/ .)
ومن بيرو في غرب أمريكا الجنوبية عثر على مومياء مقيدة أطلق عليها «المومياء الصارخة»، ويبدو عليها آثار التعذيب والفزع قبل الموت ويتأكد ذلك من القيود ومن الفم المفتوح بالصراخ
23 (شكل
8-3 ).
شكل 8-3: مومياء بيرو الصارخة. (
Rogers, S., Frightening Archaeological finds: 15 Odd Human Remains, in:
https://weburbanist.com/2013/04/03/frightening-archaeological- finds-15-odd-human-remains/ .)
ولقد عثر في أيرلندا على الكثير من الجثث في مناطق المستنقعات هناك وتبين بدراستها أنها ربما كانت أضاحي بشرية، وكان من بين تلك الجثث جثة رجل أطلق عليه «رجل غروبال»، تظل هذه الجثة فريدة نوعا ما؛ إذ لا تزال في حالة جيدة من الحفظ ولم يزل شعر الرجل وأظافره كما هما، ومن الممكن تحديد أسباب الوفاة اعتمادا على الدلائل الموجودة في جسمه وحوله، استنادا إلى أثر جرح كبير يمتد على عنقه من الأذن إلى الأذن، يمكن القول إن هذا الرجل كان قربانا تمت التضحية به أملا في موسم حصاد وفير
24 (شكل
8-4 ).
شكل 8-4: رجل غروبال، أيرلندا.
وفي السويد وهي ثالث أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي عثر أثناء التنقيب الأثري في بحيرة جافة في متوالا على جماجم آدمية تخترقها أوتاد عبر محاجرها، علاوة على جمجمة حشرت بداخلها قطع من الجماجم الأخرى، ويؤرخ ذلك بنحو 8000 عام، وهو قطعا لم يكن أمرا مستساغا
25 (شكل
8-5 ).
شكل 8-5: جماجم تخترقها أوتاد.
وفي الدنمارك غرب السويد عثر على غرار ما عثر عليه في أيرلندا؛ فقد عثر على جثة رجل أطلق عليه «تولدن مان» بدت الجثة كمومياء طبيعية، تم اكتشافها في أحد مناجم الفحم في الدنمارك عام 1950 وتعود المومياء إلى القرن الرابع قبل الميلاد أو ما يطلق عليه العصر الحديدي في أوروبا، وأهم ما يميز هذه المومياء هو وجهها، حتى إن من يراها يظن أن صاحب الجثة قد توفي حديثا. كانت الجثة مدفونة على عمق 50 مترا، متخذة وضع القرفصاء، وكان هناك قبعة جلدية مخروطية الشكل على رأس الجثة، وباستثناء هذه القبعة كانت الجثة عارية، وكان شعر الرأس قصيرا والذقن محلوقا بصورة جيدة باستثناء بعض الشعر الناعم الذي يدل على أن صاحب الجثة لم يحلق ذقنه في اليوم السابق لمماته. وكان هناك حبل جلدي يلتف بإحكام حول عنقه ويتدلى على كتفه ويمتد إلى الأرض بجوار الجثة
26 (شكل
8-6 ).
شكل 8-6: تولند مان، الدنمارك. (
Brennan, B., 2014, plate. 13 .)
ولقد تنوعت الآراء بشأن هذا الرجل، فرأى البعض أنه ربما كان لصا سقط فمات بهذه الوضعية، ورأى البعض الآخر أنه ربما كان أضحية بشرية تم تقديمها بهذه الكيفية، وأعتقد أن الرأي الأخير هو الأصوب، لا سيما أن المومياء تكاد تكون خالية إلا من القليل من الملابس، فمن غير المعقول أن يقوم لص بالسرقة عاريا! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وجود الحبل المتدلي حول عنقه يؤكد هذا الافتراض، ووجود القبعة يذكرنا بالتقاليد المتبعة في أضاحي حضارة الأزتك حيث كانوا يحرصون على وضع تاج على رأس الأضحية وتخفيف الملابس، وصاحب المومياء هنا لم يرتد كثيرا من الملابس ولكنه وضع غطاء للرأس، فالأوقع أن يكون أضحية بشرية قدمت في ظل ممارسات طقسية أحاط بها الغموض.
وهكذا من كل ما سبق يمكن القول إن عادة تقديم الأضاحي البشرية تعد ممارسة قديمة وحديثة معا، لها أسبابها وأدلتها في كل زمان ومكان، وكان للسحر والأسطورة دور هام في أسباب القيام بها، فما بين أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين دارت صفحات الكتاب بإيجاز وبشيء من الإيضاح، تم إلقاء الضوء على أسباب تلك العادة، ودوافعها وكيفية القيام بها ومدى التشابه والاختلاف في ممارستها من مكان إلى آخر.
الفصل التاسع
الخاتمة والنتائج
السحر هو موقف الرجل البدائي من العالم ونظرته التي تقوم على الملاحظة والتجربة والخبرة الطويلة بظواهر الحياة وأحداثها وأسرارها، وقد حاول الإنسان البدائي أن يضع منطقا معينا يفسر تلك الأحداث والظواهر ليؤثر فيها بطريقته الخاصة.
الساحر في المجتمع البدائي كان يضع الفروض ويحاول وضع نظام عقلي لفهم الكون؛ فالسحر بالنسبة إلى البدائي هو العلم الذي بواسطته يستطيع تسخير قوى الطبيعة والتحكم بها من خلال شعائر معينة يتصل بها الساحر بكائنات معينة.
وجد الإنسان البدائي أن الفرق بين الشخص المتوفى والشخص الحي هو التنفس، فسمى التنفس ب «الروح»، واعتقد الإنسان البدائي أن هذه الروح هي التي تزوره في الأحلام بعد موت هذا الإنسان، فآمن بعالم آخر تسكنه الأرواح!
اعتقد الإنسان البدائي بآلهة شريرة وراء الظواهر والكوارث الطبيعية السيئة، فأخذ يتقرب لها بالعبادات والأضاحي ومن هنا عرفت ظاهرة التضحية بأنواعها.
لم تكن التضحية البشرية حكرا على العالم القديم وحده، وإنما كان هناك نصيب للعديد من الحضارات الحالية سواء البدائية منها أو من أصحاب الديانات الوضعية.
منذ بدء الخليقة يسعى الإنسان إلى معرفة الخالق وإرضائه، وتخبط في طريقه لذلك بين الحقيقة والسراب، فمرة يسترضيه بالسحر والطقوس التعبدية، ومرة يسترضيه بالقرابين والأضاحي الحيوانية ثم مرة أخرى يقدم نفسه قربانا لمرضاته.
رسم الإنسان لنفسه منذ عصور ما قبل التاريخ عالما من الروحانية، مفرداته الأساسية كانت روح السلف، والدم، والقربان والسحر، فجعل هناك هالة من التقديس للموتى من الأسلاف، وعبر عن هذا التقديس بصور عدة تنوعت ما بين دفنه، وحرقه، أو نثره في الهواء، وأخيرا تناوله ليصبح من يتناوله جزءا منه، كنوع من التبجيل والإعزاز! والرغبة في توحيد المضحين بحياة أجدادهم.
الإله هو ذلك الكيان غير الواضح الذي لا بد من الوصول إليه لنيل رضاه، وللوصول إليه لا بد من وجود وسيط - هذا ما تخيله الإنسان البدائي منذ عصور ما قبل التاريخ - وعن هذا الوسيط فهو إما أن يكون عراف القبيلة أو زعيمها، وإما أن يكون ذلك الشامان الذي بسحره يقنع من حوله بوساطته تلك بينه وبين الإله.
إذا كانت الدماء هي رمز الحياة بجريانها في الشرايين أثناء الحياة، فقد اعتقد الإنسان البدائي في العديد من القبائل الأفريقية أن الدماء هي أيضا رمز الحياة بسفكها وتقديمها للإله بعد إزهاق روح صاحبها؛ إذ يعتقد بأن جريان الدماء على المذابح أو أمام تمثال الإله فيه تجديد للحياة، بل أيضا تجديد واستمرارية لحياة الإله، وما هذه إلا تصورات رسمها الإنسان البدائي بتخيلاته الساذجة وفطرته الأولى.
القرابين البشرية تعني قتل أحياء من البشر، واستخدام أجسادهم ودمائهم لأهداف شعائرية بغرض التواصل مع الآلهة.
قدم العديد من القرابين البشرية على مدار التاريخ البشري في العديد من دول العالم منذ أقدم العصور، وهناك العديد من الشواهد في الهند والصين واليابان وأوروبا والأمريكيتين تدل على قدم ممارسة تلك العادة؛ إذ كان يقدم عدد كبير من الجنود وسائقي العجلات والخيول أو الحمير أو الثيران كقرابين، وكانوا يدفنون مع الحاكم كي يكونوا بخدمته في العالم الآخر.
إن فكرة ممارسة المصريين القدماء لعادة التضحية البشرية من الأفكار التي تؤدي إلى مزيد من الخلافات العلمية، فهناك أدلة تجعلنا نميل إلى الاعتراف بوجود تلك العادة في مصر، وهناك أدلة أخرى شائكة لا تؤكد وجود تلك العادة في مصر.
يرى العديد من القبائل البدائية في شرق وغرب وجنوب أفريقيا أن لكل شيء روحا؛ فللجماد روح، وللنبات روح، وللهواء روح، أي إن لكل الأشياء الحية وغير الحية روحا داخلية غير مرئية وهذا هو ما يعرف بالتعددية الروحية.
يعلل البعض عادة تقديم الأضاحي الآدمية بأنها وسيلة لإحياء الآلهة وبعثهم مرة أخرى من خلال التضحية البشرية.
لا تقتصر عادة التضحية البشرية على حقبة زمنية بعينها، ولا على شعب بعينه، وإنما هي عادة ذات طقوس ممتدة الجذور عرفت قديما ولا زالت تمارس حتى الوقت الحالي؛ ومن ثم فلا نستطيع القول بأنها عادة عرفت في عصور ما قبل التاريخ فقط، وإنما هي عادة عرفت واستمرت منذ عصور ما قبل التاريخ حتى وقتنا الحالي في بعض البلاد التي لا زالت تحيا ثقافة إنسان عصور ما قبل التاريخ، أو لدى بعض الشعوب ذات الديانات الوضعية.
الفصل العاشر
قائمة المراجع العربية والمترجمة
إحسان الديك، أسطورة النسر والبحث عن الخلود في الشعر الجاهلي، دراسات العلوم الاجتماعية والإنسانية، المجلد 37، العدد 2، 2010.
أحمد أمين سليم، العصور الحجرية وما قبل الأسرات في مصر والشرق الأدنى القديم، الإسكندرية، 2000.
أحمد محمد البربري، الأدب المصري القديم، القاهرة، 2006.
أشلي مونتاغيو، البدائية، ترجمة محمد عصفور، الكويت، 1990.
أضخم الاكتشافات الأثرية في تاريخ البشرية، شبكة أبو نواف، 22 / 9 / 2012.
أمين الوزان، الديانة الشنتوية، موقع العقيدة والحياة، 6 / 7 / 1428.
الباحثون السوريون، من أغرب طقوس دفن الموتى في العالم، 22 / 10 / 2014.
بسام الشماع، احتفالات وأعياد المصريين القدماء، القاهرة، 2006.
جاسم حسين يوسف، العلاقة بين البشر والآلهة في بلاد الرافدين في ضوء النصوص المسمارية، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد 49، 2018.
جفري بارندر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، مترجم، الكويت، 1990.
جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج11، بيروت، 2001.
جون كولر، الفكر الشرقي القديم، مترجم، الكويت، 1995.
جيروم بيمبينيه، السكان الأصليون (الخطر، الصراع، المستقبل)، ترجمة مارك عبود، الرياض، 2014.
جيمس هنري برستيد، فجر الضمير، ترجمة سليم حسن، القاهرة، 2014.
خالد كروم، قصة الخلق في الأساطير القديمة، الحوار المتمدن، العدد 5347، 19 / 11 / 2016.
خالد موسى عبد الحسيني، أثر القربان الوثني في العشاء الرباني المسيحي، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد 42، 2016.
خزعل الماجدي، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، سلسلة التراث الروحي للإنسان، دمشق، 1997.
خزعل الماجدي، بخور الآلهة دراسة في الطب والسحر والأسطورة والدين، لبنان، 1998.
الدوجون ... من غرائب قبائل دولة مالي، أفريقيا قارتنا، أكتوبر، العدد الرابع عشر، 2014.
دياكوف، ف؛ كوفاليف، س، الحضارات القديمة، الجزء الأول، مترجم، دمشق، 2000.
ديفيد كارسكو؛ سوكت سيشونز، عصر الأزتك أمة الشمس والأرض، مترجم، أبو ظبي، 2012.
ديمتري أفييرينوس، الأساطير الهندية وأثرها في المنقول الثقافي الهندي، القاهرة، 2014.
الدينكى امتداد العرق الزنجي الحامي في الدولة السودانية، مجلة أفريقيا قارتنا، العدد السابع، سبتمبر 2013.
رمضان عبده علي، تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضاراته منذ فجر التاريخ حتى مجيء الإسكندر الأكبر، ج2، الأناضول، بلاد الشام، القاهرة، 2002.
ريتا فرج، التسوية ما بعد الكولونية، دراسات، مجلة الفيصل: العددان 497-498، مارس-أبريل 2018.
الزولو قبيلة لم يطمس الحاضر ماضيها، مجلة أفريقيا قارتنا، العدد الخامس، 2013.
زينب عبد التواب رياض، الدفن السماوي في الأناضول خلال العصر الحجري الحديث «دراسة مقارنة مع هضبة التبت»، دورية «كان» التاريخية، السنة العاشرة، العدد الثامن والثلاثون، ديسمبر 2017.
زينب عبد التواب رياض، الدفنات الحيوانية في مصر والعراق وبلاد الشام في عصور ما قبل التاريخ وبداية الأسرات، رسالة ماجستير، كلية الآثار، جامعة القاهرة، 2006.
سلطان محيسن، عصور ما قبل التاريخ، منشورات جامعة دمشق، الطبعة السادسة، 1998.
سيجموند فرويد، الطوطم والتابو، مترجم، الطبعة الأولى، 1983.
عادل فؤاد، أغرب المعتقدات الدينية في أفريقيا، الشبكة الليبرالية الحرة، 19 / 12 / 2014.
عباس باني حسن، السحر وفنون العصر الحجري، موقع الناس، 26 / 9 / 2009.
عبد الحميد عزب، التضحية البشرية في مصر القديمة، مصر بيتنا، 2014.
عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ج1، العراق، القاهرة، 1984.
عبد العزيز صالح، حضارة مصر القديمة وآثارها، ج1، القاهرة، 2006.
عبد اللطيف حموتن، آكلي لحوم البشر، مجلة المعرفة، 23 يوليو 2014.
عبد اللطيف سلمان، الفن الهندي، القاهرة.
عبد الله عوض العجمي، فلسفة الرموز في الأديان الشرقية التقليدية: دراسة تحليلية، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والقانونية، المجلد 13، العدد الأول، يونيو 2016.
عوض عيسى عوض عمر؛ مصطفى عبده محمد خير؛ عبده عثمان عطا الفضيل، تأثر فن النحت الأوروبي الحديث بأساليب النحت الأفريقي (الزنجي) «دراسة على أعمال بيكاسو»، مجلد 17 (3) 2016.
غرائب المعتقدات، الجمادات لدى قبائل أفريقيا تسكنها الأرواح، موقع كايرو دار، متعة المعرفة، 3 سبتمبر 2014.
غسان أحمد نامق، القربان البشري في بلاد الرافدين القديمة، مؤسسة النور للثقافة والإعلان، 20 / 2 /2015.
فهيد صلاح عاهد الجعبري، تناسخ الأرواح في الأديان والحركات الباطنية في الإسلام، دراسة مقارنة، بحث تكميلي لدرجة الماجستير في أصول الدين، قسم العقيدة الإسلامية، كلية الدراسات العليا، جامعة الخليل، 2014.
قبيلة الموريس البدائية، إحدى أغرب القبائل البسيطة على وجه الأرض، العدد العاشر، مجلة أفريقيا قارتنا، يناير 2014.
كوستا ريكا، «ذبح الفتيات في الصين»، الحقيقة الضائعة، تعريب قوال بلوجر،
http://nepasmentir.blogspot.com/2012/04/blog-post_729.html , 09:48 .
مارسيا إلياد، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، مترجم، الجزء الأول، دمشق، 1986.
محسن محمد عطية، الفن والحياة الاجتماعية، القاهرة، 1994.
محمد إسماعيل الندوي، الهند القديمة، حضارتها ودياناتها، القاهرة، 1970؛ رافد الدوري، تاريخ شامل عن الأساطير الدينية والاجتماعية لدى الشعوب، القاهرة، 2013.
محمد قاسم الدجيلي، تقارير منوعة ... معابد الأزتك والأضحية البشرية، ستوريز أوف أزنيك، 2014.
محمد كمال صدقي، معجم المصطلحات الأثرية ، جامعة الملك سعود، كلية الآداب، 1988.
مسعد بري، تطور الفكر الطوطمي (دراسة في الجغرافية الاجتماعية)، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الجغرافيا، جامعة حلب، 2010.
مي جمال الدين، آكلي لحوم البشر، عالم المعرفة،
http://knowledge.world.blogspot.com/2013/01/blog-post_7.html .
مي نديم الحايك، عقائد الدفن وعبادة الأسلاف في بعض مواقع شرق البحر المتوسط في عصور ما قبل التاريخ، رسالة ماجستير غير منشورة كلية الآثار، جامعة القاهرة، 2006.
نائل حنون، عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة، بغداد، 1986.
هنري برجسون، منبعا الأخلاق والدين، بيروت، 1945.
ول ديورانت، قصة الحضارة، الهند وجيرانها، الجزء الثالث، مترجم، القاهرة، 1950.
الفصل الحادي عشر
قائمة المراجع الأجنبية
Adams, D. M., & O’Connor, D., Monuments of Egypt at its origins, Predynastic and early dynastic Egypt: recent discoveries, in: The third international colloquium on
2008.
Andrews, G. F., architectural survey at Chichen Itza, University of Oregon, 1991.
Archaeology Course book, Religion and Ritual, Chapter 6, London, 2001.
Arnaud F. Lambert, Olmec Ferox: Ritual Human Sacrifice in the rock art of Chalacatzingo, Morelos, in: Adoranten, 2012.
Around the World, Bull Int Assoc Paleodont. Volume 4, Number 2, 2010.
Avar, R., unlocking the mysteries of chalcolithic ossuaries, Excavation: food for Vultures, in: Biblical Archaeology Review, November/Desemper, 2011.
BAINES, J., “Presenting and discussing deities in New Kingdom and Third Intermediate period Egypt”, in Pongratz-Leisten, B., (ed.), Reconsidering the Concept of Revolutionary Monotheism, Winona Lake IN 2011.
Barry, J. K, Ancient Egypt: Anatomy of a Civilization, New York, 2006.
Barry, J. K., “Abydos and the Royal Tombs of the First Dynasty”, in: Journal of Egyptian Archaeology, 1966.
Bellwood, P., First Farmers: The Origins of Agricultural Societies, Oxford, 2006.
Bernault, F., body, power and sacrifice in Equatorial Africa, in: Journal of African History, 47 (2006).
Bestock, Laurel. “The First Kings of Egypt: The Abydos Evidence.”
Before the Pyramids: The Origins of Civilization . Edited by Emily Teeter, Accessed: 4/16/15.
https://oi.uchicago.edu/sites/oi.unchicago.edu/files/uploads/shared/docs/oimp33.pdf .
Bingöl Üniversitesi, İlahiyat Fakültesi, Dergisi (2015).
Black, T., and green, A., gods, Demons and symbols of ancient Mesopotamia, London, 1992.
Bohnet, U., Crisis Needs Shamans, as Shamans Need Crisis? In: NEO- LITHICS 2/13, 2010, p. 53-55; Winkelman, M., Shamanism in Cross-Cultural Perspective, in: Studies 31(2), 2013.
Bremmer, J. N., human sacrifice: a brief introduction, University of Groningen, 2007.
Brennan, B., the influence of shamanic practice on the deposition of prehistoric human remains in bogs, this project is submitted in part fulfillment of the NCEA requirements for the award ofB. Sc. (hons) in applied archaeology, May, 2014.
Brill, E. J. Visible Religion, in: Annual for Religious Iconography. Volume 1, Leiden, 1982.
Campbell, S, Emergent Complexity on the Kahramanmaras Plain: the Domuztepe Project 1995-1997, AJA, 1998, Vol. 103/4, P. 395.
Carrasco, D, City of Sacrifice. Beacon Press, Boston, 1999.
Carter, E, New Data from Late Halaf Domaztepe in South Central Turkey, Paleorient, Vol. 29/2, 2003.
Child, V. G., new light on the most near east, London, 1952.
Clutton-Brock, J., and Burleigh, R., “the animal remains from Abu Salabikh: preliminary report” in: Iraq: vol. 40, 1978.
Cook.J., recovering the lost world, chapter 12: starturn and archaeology, 2001, in:
http://saturniancosmology.org/arch.php .
Demarest, A., Overview: Mesoamerican Sacrifice in Evolutionary Perspective. In Ritual Human Sacrifice in Mesoamerica, edited byE. H. Boone, 1984.
Dodds Pennock, C., Mass murder or religious homicide? Rethinking human sacrifice and interpersonal violence in Aztec society.
Historical Social Research, 37(3) , 2012.
Dohot, M., Gobekli Tepe’s Cosmic Blueprint Revealed, in:
http://mihaidohot-2.blogspot.com.eg/2013 .
Dougherty, S. P., A Little More Off the Top, in: Nekhen News, Vol. 16, 2004, pp. 11-12.
Dreyer, G., 'Zur Rekonstruktion der Oberbauten der Königsgräber der 1. Dynastie in Abydos’, MDAIK 47, 1991, pp. 93-104.
Dunn, j., The Tomb of King Den at Abydos, in:
http://www.touregypt.net .
Emery, W. B., Great Tombs of the First Dynasty II (London, 1954).
Erdogu, B., Ritual symbolism in the early chalcolithic period of Central Anatolia, in: Journal for Interdisciplinary Research on Religion and Science, No. 5, July 2009, p. 129-139.
Fowler, C., “Some Lexical Clues to Aztec Prehistory.” International Journal of American Linguistics Vol. 49 No. 3 (July, 1983): 224-57.
Friedman, R., “He’s got a Knife! Burial 412 at HK43”, in: Nekhen news, Vol. 16, 2004.
Friedman, R. F., the Predynastic cemetery at HK43 [in:] Friedman, R. F.; Maish, A.; Fahmy, A. G.; Darnell, J. C. & Johnson, E. D, Preliminary report on fieldwork at Hierakonpolis: 1996-1998. Journal of the American Research Center in Egypt 36, 1999.
Gibson, C., the Aztecs under Spanish Rule: A History of the Indians of the Valley of Mexico, 1519-1810. Stanford: Stanford University Press, 1964.
Godlove.I.H., The Earliest Peoples and their Colors, London, 2011.
Griffiths, J. G., “A Gift of the River”, Journal of Near Eastern Studies, Vol. 25, No. 1 (Jan., 1966), PLATE VII.
Gruzinski, Serge. The Aztecs: Rise and Fall of an Empire. New York: Abrams, 1992.
Haury, E., “The First Americans”, in Man before History, edited by C. Gabel, New Jersey, 1964.
Horcasitas, F., the Aztecs Then and Now. Mexico: Editorial Minutiae Mexicana, 1979.
Iping-Petterson, M. A., Human Sacrifice in Iron Age Northern Europe: The Culture of Bog People, Leiden, 2011.
Jacobsen, T., “death in the Mesopotamia, abstract”, in: Alster, B, op. cit., p. 19.
James, E. O. Origins of Sacrifice: A Study in Comparative Religion, London, 1971, p. 94-96, 98, 102, 106.
Jones J., Funerary Textiles of the Rich and the Poor, Vol. 14, 2002.
Jones, J., New perspectives on the development of mummification and funerary practices during the Pre-and Early Dynastic periods [in:] Goyon, J.-C. & Cardin, C. (eds.), Proceedings of the ninth international congress of Egyptologists. Grenoble 6-12 septembre 2004, Orientalia Lovaniensia Analecta 150, Leuven. 2007.
Klein, C., “The Identity of the Central Deity on the Aztec Calendar Stone.” In Pre- Columbian Art History: Selected Readings. Edited by Alana Cordy- Collins and Jean Stern.
Köhler, E. C., History or Ideology? New Reflections on the Narmer Palette and the Nature of “Foreign” Relations in Predynastic Egypt, in E. C. M. van den Brink and T. E. Levy (eds), Egyptian-Canaanite Relations During the 4th Through Early 3rd Millennia.
Kropp, A. M., “Ausgewiahlte koptische zaubrtexte”, vol. 2, Bressels, 1930-1931.
Kvæstad, C. F., House Symbolism and Ancestor Cult in the Central Anatolian Neolithic, M. A. thesis in Archaeology, Department of Archaeology, History, Cultural Studies and Religion University of Bergen, 2010.
Lambert, A. F., Olmec Ferox: Ritual Human Sacrifice in the rock art of Chalacatzingo, Morelos, in: Adoranten, 2012, pp. 93-102.
Lemara, D., Re-Examining a First Dynasty Egyptian Cemetery. A thesis submitted to the Faculty of Graduate Studies and Research in partial fulfillment of the requirements for the degree of Master of Arts, Alberta, 2012.
Lloyd, s., the archaeology of Mesopotamia, London, 1978.
Lukaschek, K., The History of Cannibalism, Thesis submitted in fulfilment of the MPhil Degree in Biological Anthropology, University of Cambridge, UK, Lucy Cavendish College, 2000/2001.
Lukaschek, K., The History of Cannibalism, Thesis submitted in fulfilment of the MPhil Degree in Biological Anthropology, University of Cambridge, UK, Lucy Cavendish College, 2000/2001.
Mallowan, M, Excavations at Tell Arpachiyah, Iraq, 1935.
Mallowan, M. E. L., “The early Dynastic period in Mesopotamia” in:
C. A. H , vol. 1, part. 2, 1971.
Marcus, J., “Archaeology and religion: a comparison of the Zapotec and Maya” in: World Archaeology, vol. 10, No. 2, 1978, p. 173-187.
McCrary, A., Tracing Tradition: A Case Study of Child Sacrifice in Uganda, International Letters of Social and Humanistic Sciences Online: 1435-12-06 ISSN: 2300-2697, Vol. 41, 2014.
Mckenna, T., food of the gods, New York, 2014.
Mellaart, J, Excavations at Catal Huyuk, 1963, Third Preliminary Report, Anatolians Studies, Vol. XIV, 1964.
Mellaart, J.,
Ḉ
atal
Ḧṻ
y
ṻ
k, A Neolithic town in Anatolia, New York, 1967.
Merkur. D., Becoming Half Hidden: Shamanism and Initiation Among the Inuit, London, 1993.
Meskell, L., The nature of the beast: curating animals and ancestors at Çatalhöyük, in: World Archaeology, 8, 2008.
Michael E. S., Live in the Preovminceps of the Aztec empire, Mexico, 2005.
Mikhailova, N., the Cult of the Deer and “Shamans” in Deer Hunting Society, in: Baltica Archaeologia, vol. 7, 2005.
Miller, V. E., Skeletons, Skulls, and Bones in the Art of Chichén Itzá, in: New
Mexico, 2008.
Mitchell.T. C, reminiscences: sir Leonard Woolley’s excavation of UR, in: Minerva, vol. 10, no. 2, 1999.
Molina M., Augusto F. “The Building of Tenochtitlan.” National Geographic, Vol. 58, No. 6, December 1980.
Morris, D. F., (un) dying loyalty: meditations on retainer sacrifice in ancient Egypt and elsewhere, in: Campbell, R., violence and civilization, Oxford, 2014.
Morris, E. F., a Sacrifice for the State: First Dynasty Royal Funerals and the Rites at Macramallah’s Rectangle. In Performing Death: Social Analyses of Funerary Traditions in the Ancient Near East and Mediterranean, Chicago, 2007.
Morris, E. F., “First Dynasty Royal Funerals and the Rites at Macramallah’s Rectangle.” In: Performing Death: Social Analyses of funerary Traditions in the Ancient Near East and Mediterranean, edited by Nicola Laneri, 2007.
Morris, Ellen F. “Sacrifice for the State: First Dynasty Royal Funerals and the Rites at Macramallah’s Rectangle.” Performing Death: Social Analyses of Funerary Traditions in the Ancient Near East and Mediterranean. Edited by Nicola Laneri. Accessed; 4/16/15.
https://oi.uchicago.edu/sites/oi.uchicago.edu/files/uploads/shared/docs/ois3.pdf .
Muhlestein, M., & Gee, J., “An Egyptian Context for the Sacrifice of Abraham”, in: Journal of the Book of Mormon and Other Restoration Scripture 20/2 (2011).
Musana, P., The Judeo-Christian Concept of 'Sacrifice’ and Interpretation of Human Sacrifice in Uganda, in: International Letters of Social and Humanistic Sciences, 30(1) (2014).
NAKANO, T., “An undiscovered representation of Egyptian kingship? The diamond motif on the kings’ belts”, Orient 35 (2000), pp. 23-34.
O’CONNOR, D., “The Narmer Palette: a new interpretation”, in E. TEETER (ed.), Before the pyramids: the origins of Egyptian civilization, Chicago 2011.
Ojua, T. A., and Omono, C., African Sacrificial Ceremonies and Issues in Socio-Cultural Development, in: British Journal of Arts and Social Sciences, Vol. 4, No. 1 (2012).
pearson, M. P., the archaeology of death and burial, Texas, 1999.
Interpersonal Violence in Aztec Society, Historical Social Research, Vol. 37, 2012, No. 3, p. 276; Dodds Pennock, C., Mass murder or religious homicide? Rethinking human sacrifice and interpersonal violence in Aztec society.
Historical Social Research, 37(3) , 2012, pp. 276-277.
Some Thoughts on Epigraphy and Iconography El disco de El Caracol de Chichén Itzá (929-932d. n.e.). Algunas consideraciones de epigrafía e iconografía, estudios de cultura maya, 2016.
Redman, C. L. the rise of civilization New York, 1978.
René E. Chavez, R. E., & others, Interior Imaging of El Castillo Pyramid, Chichen Itza, Mexico, Using ERT-3D Methods: Preliminary Results, Geofísica Internacional (2017).
Robert W. Ehrich, chronologies in old world archaeology London, 1965.
Rogers, S., Frightening Archaeological finds: 15 Odd Human Remains, in:
https://weburbanist.com/2013/04/03/frightening-archaeological- finds-15-odd-human-remains/ .
Rogers, S., Frightening Archaeological finds: 15 Odd Human Remains, in:
https://weburbanist.com/2013/04/03/frightening-archaeological- finds-15-odd-human-remains/ .
Ross, C., Dark rituals dark powers, Revelation16, (December 6, 2000).
Ruether, R. R., Goddesse and the define feminine, 1, gender and the problem of prehistory, London, (n.d).
Russell, N., & McGowan, K. J., Dance of the Cranes: Crane symbolism at
Ḉ
atal
Ḧṻ
y
ṻ
k and beyond, in: Anyi Quity, vol. 77, no. 297, 2003.
Schadrack. M., The communicative power of blood sacrifices: A predominantly south African perspective with special reference to the epistle to the Hebrews,
Scurlock, J., “animal sacrifice in ancient Mesopotamian religion” in: Collin, B. T., a history of the animal world, in the ancient near east, Leiden 2002.
Scurlock, T., “animals in ancient Mesopotamian Religion” in: Collins, B. J., (edit.) A history of animal world in ancient near east, Leiden, 2002.
Seawright, C., Tomb 100, Tomb U-J and Maadi South: Themes from Predynastic Egypt, Oxford, 2013.
Semple, D. L., Macramallah’s Rectangle: Re-Examining a First Dynasty Egyptian Cemetery A thesis submitted to the Faculty of Graduate Studies and Research in partial fulfillment of the requirements for the degree of Master of Arts, University of Alberta, 2012.
Shah, B., Sky burial practice of Ancients from Anatolia to China (west to east), in:
www.academia.edu .
Sharer, R., who were the Maya? in: Expedition, vol. 54, no. 1, p. 12.
Smith, “Aztec Culture”, Arizona State University, 2006.
Solecki, R. L., and Solecki, R. S., “The Zagros Proto-Neolithic and Cultural Developments in the Near East”, in Solecki, Solecki, and Anagnostis.
Solecki, R., “Predatory Bird Rituals at Zawi Chemi Shanidar,” Sumer 33 (1977).
Steif. A., endless resurrection: art and ritual in the upper Paleolithic, Michigan, 2010.
Stutley, M. Shamanism, an Introduction. London, 2004.
Sugiyama, S., Human Sacrifice, Militarism, and Rulership, in: “New Studies in Archaeology”, Cambridge, 2005.
Tatlock, J., How in ancient times they sacrificed people, human Immolation in the eastern Mediterranean Basin with Special Emphasis on ancient Israel and the near east, Michigan, 2006.
The Narmer Palette, (Egyptian Museum of Antiquities, Cairo).
Tomb 100, Tomb U-J and Maadi South: Themes of Kingship, Religion, and Order versus Chaos during Egypt’s Predynastic Period ARC3RFC © Caroline Seawright 2013.
Tropper, J, Syrie Memoire et Civilization, Imprimerie Chiffoleau, 1993.
Tweg, S., Sky burial, China, 1999, p. 1ff; Rinpoche, S., The Tibetan Book of Living and Dying, Rider, London, 1995.
Van Djik, J., “Retainer Sacrifice in Egypt and in Nubia”, the Strange World of Human Sacrifice, Studies in the History and Anthropology of Religion, Vol. 1, 2007.
Watrin, L., Human sacrifices in early dynastic Egypt: an archeological mirage? In:
http://www.grepal.org , 2008.
Weaver, M. P., Aztecs, Maya, and Their Predecessors: Archaeology of Mesoamerica. 3rd edition. San Diego: Academic Press, 1993.
Williams, M. Prehistoric Belief, Shamans, Trance and the Afterlife, London, 2010.
Williams, M. 'Tales from the dead. Remembering the bog bodies in the Iron Age of North-Western Europe’. In: Williams, H. (ed) Archaeologies of Remembrance: Death & Memory in Past Societies. New York, 2003.
Winkelman, M., Shamanism and Cognitive Evolution, in: Cambridge Archaeological Journal, 2002.
Woolly, l., UR of the Chaldees, London, 1954.
Woynar, M., Chichen-Itza in Mexico: battlefield or seed of the future? Finding a balance between collective spirits, Mexico, 2008.
Wreschner, E. E., Red Ochre and Human Evolution: A Case for Discussion. Current Anthropology 21 (5), 1980.
Wright, G. R, H, The Severed Head in Earliest Neolithic Times, JPR, 1988, p. 55.
Zettler, R. L., “The royal cemetery of UR” in: Minerva, vol. 10, no. 2, 1999.
Zmolek. P., Human Sacrifice, The Degeneration of a Ritual, in: National Catholic Reporter, 2002.
قائمة المواقع الإلكترونية
http://guardians.net/hawass/press_release_Abydos_05-05.htm2005 .
http://popular-archaeology.com/ .
http://wn.com/Tibetan_Odyssey__Sky_Burial_Site_73 .
http://www.abualsoof.com/inp/view.asp?ID=116 .
http://www.narmer.pl/abydos/qaab_en.htm .
http://www.thekeep.org/~kunoichi/kunoichi/themestream/ARC3RFC.html .
http://xoomer.virgilio.it/francescoraf/hesyra/labels/xxaha2.htm .
http://xoomer.virgilio.it/francescoraf/hesyra/labels/xxdjer2.htm .
http://yafeau.net/vb/showthread.php?t=38181 .
https://ar.wikipedia.org/wiki , 13 Mars, 2018.
https://bahrainforums.com/vb/showthread.php?t=888181 .
https://doi.org/10.12759/hsr.37.2012.3.276-302 .
https://www.pinterest.com/pin/344806915191204887/ .
অজানা পৃষ্ঠা