تأليف
ثروت أباظة
ذكريات بعيدة
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفف دموعها وتودع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي.
كانت تبيح لي كل مكان في حجرتها، فكلها ملعبي وكل شيء فيها من لعبي، لا يذودني عن شيء فيها أحد، بل كانت تنهر كل من يحاول أن يبعدني عن شيء لها، فكل عزيز عندها رخيص لي، وكل آنية أو علبة أو منضدة قربان مقدم لنزوات طفولتي وعبث يدي، وحين تصل إلى يدي مقتنياتها تصبح بين يدي القدر، لا ينقذها من الكسر أو التلف إلا الحظ وحده، ولم يكن الحظ رفيقا بأشياء جدتي؛ فيا طالما حطمت لها من أشياء ويا طالما أتلفت لها من أدوات، ويا طالما انتهرت جدتي أبي أو أمي إذا حاول واحد منهما أن يعاقبني أو يردعني عن حجرتها.
وقد كنت أجد نفسي أسيرا لأوامر أبوي في أي غرفة أدخلها في البيت؛ فأنا مقيد حينئذ بخوفي أن أحطم شيئا أو ألمس شيئا أو ألهو بشيء، ويظل هذا القيد من الخوف يلازمني حتى أدخل إلى غرفة جدتي فأنا إذن حر طليق أحطم ما أشاء أن أحطم وألهو ما شاء لي اللهو، أحس أنني في هذه الغرفة أقوى من أمي وأبي جميعا، أقف منهما بحصن يعجزان أن ينفذا دونه إلي، وألهو.
شيء واحد لم تبحه لي جدتي ولم أكن أدرى سر حبها له ومنعي عنه، ولم يكن هذا الشيء جديرا بانتباهي، ولا مما يغري الطفل أن يلهو به، إنما هو صندوق قديم لا يبدو من قدمه إلا صنعته التي تدل دلالة واضحة على الزمن الذي صنع فيه، أما هو فقد كان أنيقا دائما؛ فنحاسه الذي يحليه ذو بريق لم يكن يوما خابيا، وخشبه أنيق نظيف لم تستطع السنون أن تعدو على نظافته أو أناقته.
وكنت أرى جدتي في كل يوم تمسك به وتفتحه فينفرج عن كراسة ذات شريط جديد دائما، يعلو الكراسة الكثير من غبار السنين أحال بياض أوراقها إلى غبشة كتلك التي تغشى نظرة الناظرة إلى التاريخ البعيد. وكانت جدتي تقلب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى وتظل رانية إليها بنظرات حسيرة، ولا تنتهي إلى الصفحة الأخيرة حتى تذرف سكبا من الدموع وحينئذ تعيد الكراسة إلى شريطها ثم تودعها في إعزاز صندوقها الأثير.
وهكذا أصبح هذا الصندوق طلبتي الوحيدة، فهو الشيء الوحيد عند جدتي الذي لم أستطع الوصول إليه، فكنت كلما أقبلت عليه أريد أن أمسك به تفزع جدتي قائلة: إلا هذا.
وتسارع إلى الكراسة تقفلها وتحيطها بالشريط في عجل ثم تعيدها إلى الصندوق دون أن تصل إلى مرحلة البكاء، وهكذا كنت أعدو أيضا على هذه الدمعات التي كانت ترتاح لها جدتي فأحرمها منها. وقد كان هذا على إيلامه لها أهون عندها من أن تترك الكراسة أو الصندوق بين يدي ويدي الحظ.
অজানা পৃষ্ঠা