كان مفيد في عجلة من أمره؛ فهو لا يطيق هذه الفترة من الانتظار التي أرغمه عليها الدكتور عبد الوهاب العجلان رئيس مجلس إدارة الشركة الهندسية الفنية، وكم قفز مفيد من كرسيه يريد أن يعود إلى الموعد الآخر الذي ينتظره في مكتبه، ولكنه يذكر المبلغ الذي سيجنيه من لقائه بالدكتور عبد الوهاب فيعود إلى كرسيه في إذعان مكره وهدوء محتاج، وتمر الدقائق وتتكرر القفزات ويتكرر التذكر فيتكرر الإذعان ثم الهدوء. نعم إن الموعد الذي ينتظره في مكتبه ذو ربح هو الآخر ولكن أين الربح الفردي من ربح الشركات؟ وأي الشركات؟ الشركة الهندسية الفنية؟ لا، لا سبيل إلى القيام ولا إلى الغضب ولا سبيل أيضا إلى الخروج، عجيب أمر الناس، ها أنا ذا في مكتب مفتح الأبواب وليس بيني وبين الخروج إلا أن أخطو فإذا أنا خارج الغرفة فأتخلص من هذا الضيق الذي أحسه في الانتظار، وأذهب إلى حيث أريد وأثأر لكرامتي التي أحس دقائق الانتظار وكأنها خناجر تتوالى عليها فتنزف كرامتي وتنزف، ولكني هل بقي من كرامتي دماء؟ لكن انتظرنا، ولكم نزفت الكرامة، لئن بقي من دماء الكرامة بعدما فقدت شيء فقد كانت كرامتي إذن ذات ذخيرة من الدماء عظيمة المقدار، ترى هل بقي من الكرامة شيء؟ ويلي! لكم أظلم نفسي وأحمل كرامتي فوق ما تحتمل، لقد أكلها العمل، نحتها ذرة ذرة وقطرة قطرة فهي هباء من الهباء أو هي كما يقول هواة الأدب أثر من بعد عين، وإلا فما لي ما زلت جالسا إلى الكرسي، والأبواب مفتحة أمامي، ما لي لا أخطو خطوتي إلى الخارج، إنه لا يقيد الإنسان إلا نفسه، إنما الحرية مقدار ما أحس به أنا في نفسي من حرية نفسي، لن يستطيع أحد ولا شيء أن يمنع الحرية عن نفسي، وإنما أنا، أنا وحدي الذي أكبل نفسي بالأغلال، وهيهات لكل حريات العالم أن تحرر نفسا أراد لها صاحبها أن تكبل بالقيود، أضاع السوق كرامتي وحريتي وأكل كل شيء في حياتي، ها أنا ذا أبدو مثل حر وأنا أشد عبودية من العبيد، وإلا فما بقائي وقد تأخر الرجل، تأخر، أنا أعرف أن أصول الصنعة تجعله يتأخر، يريدني أن أشعر بأهميته، ويريد أن أشعر بحاجتي إليه وعدم حاجته إلي، لقد درت في السوق وعرفت أسراره، أما كان الأجدر بالدكتور عبد الوهاب أن يدرك أن هذه الصغائر لن تكون ذات أثر في الصفقة؟
ألم يعلم الدكتور عبد الوهاب أي رجل أنا؟ ولكن يبدو أن صفة الأدب التي غلبت علي أول اشتغالي بالسوق لا تريد أن تفارقني، إن كل من يعاملني لا ينسى أنني كنت أعمل بالأدب؛ أي إنني كنت فنانا، فأنا إذن في عرفهم سارح في دنيا من الخيالات والأوهام، ما كان أعذبها، لقد أقفلت ما بين نفسي وبين الأدب منذ الشهور الأولى التي نزلت فيها إلى دنيا الأعمال، تلك حسنة أثبتها لنفسي ولا أنساها، كيف أقول للناس كونوا شرفاء، أحبوا إخوانكم، الهناءة في رضا النفس، اسعدوا، عيشوا، تمتعوا، أحسوا بالجمال، أقول وأقول، وأنا، أنا نفسي أتغاضى عن الشرف، و...
وقبل أن يكمل دخل الحجرة رجل وحياه وجلس، وأمعن مفيد فيه النظر، شخص أصلع الرأس واسع العينين، تبرز منهما الحدقة بروزا يشعر الناظر إليه أنه يبحث عن شيء لا يدريه ولكنه لا يزال يبحث عنه. وأحس الرجل بعيني مفيد الفاحصة فعاجله قائلا: الأستاذ مفيد؟
ودهش مفيد شيئا ما، ولكن ما أسرع ما تغلب على دهشته فقد علمه السوق أن يتغلب على كل الملامح التي تلدها المشاعر على وجهه وقال: نعم، يا أفندم، أنا هو. - لعل حضرتك مندهش لأني عرفتك؟ - لا أبدا. - طبعا أنت رجل شهير، وأديب معروف. وقال مفيد في نفسه، وهذه مصيبة أخرى في السوق، دائما يستعملون الأدب في التأثير علي، لم يبق لي من الأدب إلا أن يتملقني به من يريد أن يسلبني شيئا، كم هو مجرم هذا السوق، يقطع صلتي بالأدب ولا يكتفي بهذا بل يتخذ منه سلاحا لنهبي، مجرم هذا السوق، مجرم، وصحا مفيد على الرجل يقول له في ود: لماذا لم تعد تكتب؟ أنا من عشاق أدبك.
وفي شعور بالمرارة العميقة قال مفيد: حضرتك تريد مقابلة الدكتور عبد الوهاب؟ - وأخذ الرجل وقال في تردد يوشك أن يكون لعثمة: نعم، نعم.
وقال مفيد في لهجة لا تتسم بالود: ولكني على موعد معه. - الواقع أنني لم أجد السكرتير. - أليس بالخارج؟ - لا. - اسمح لي إذن أبحث عنه ليحدد لك موعدا.
وهم مفيد أن يقف ولكن الرجل عاجله: ولكني أريد أن أجلس معك وأتعرف بك. - ولكني الآن على موعد مع الدكتور عبد الوهاب. - وما البأس، نتحدث حتى يجيء، فأنا منذ زمن بعيد من المعجبين ... - أتعتقد أننا يمكن أن نتكلم في الأدب الآن؟! - ولم لا؟ - اسمع يا سيدي، لقد مرت علي بالسوق سنوات عديدة، فأرجو أن يدخل هذا في اعتبارك عند حديثنا في الأدب.
ونظر الرجل نظرة باهتة إلى مفيد وتراجعت حدقتاه قليلا إلى محجريهما، ثم تغلب على نفسه في هدوء وكأنما لم يحس بما يخفيه كلام مفيد، وقال في نفس اللهجة التي كان يتكلم بها عن الأدب: الصفقة التي تريد فيها الدكتور عبد الوهاب.
أهي لحسابك الخاص أم لحساب شركة أخرى؟ وأحس مفيد أن الحديث أصبح يتفق وجو الحجرة التي يجلسان بها، فقال في مداورة: بماذا تراك تجيب لو كنت في مكاني؟
وعادت النظرة الباهتة وأعقبها الهدوء ولكنه لم يملك نفسه أن قال: يظهر أنني لم أكن أقدرك حق قدرك يا مفيد بك. - كلنا معرضون للخطأ. - ما هو الربح الذي تنتظره منها؟ - نفس الربح الذي تنتظره أنت على الأقل. - فما رأيك لو أخذت نصفه الآن وتنازلت لي عنها؟ - هذا يتوقف على مقدار تقديرك للربح والدعاية التي أحصل عليها عند نجاحي في هذه المهمة، وغير هذا مما لا يخفى على ذكائك، وأرجو أن يدخل ... وانتهت المساومة بمفيد يضع في جيبه شيكا بمبلغ خمسة آلاف جنيه ويخرج مسرعا دون أن يقابل الدكتور عبد الوهاب.
অজানা পৃষ্ঠা