وكان والدي يصاحبني معه في الحفلات الموسيقية التي تدعى لها الفرقة الموسيقية بأكملها، وذلك كان في الحفلة الختامية لمدرسة الجيزويت الثانوية في أول شارع رمسيس من ناحية محطة مصر. لم أكن أفهم شيئا من خطب الترحيب والكلمات الرسمية للناظر والمدرسين والطلبة الأوائل. وما إن ترتفع الآلات النحاسية والتي كانت تمثل جوهر الفرقة بموسيقاها، ويرتفع معها والدي ب «الترمبون» وأسمع الأصوات الموسيقية وهي تصدح بأنغام الفرح بتخرج الطلاب في الفرقة النهائية حتى تنفرج أساريري وأرى الأضواء تنعكس على آلات النفخ النحاسية فيزداد فرحي بالموسيقى، وتتألق مواهبي الموسيقية، وأقول في نفسي ليتني أكبر، وأصبح موسيقيا مثل هؤلاء الموسيقيين! وبينما أنا أتأمل هذا الفرح أجد طبقا من الطعام المزخرف بالألوان قد وضع على فخذي من جرسون المدرسة مقدما إياه لي قبل الموسيقيين وهو يبتسم لهذا الصبي الذي لم يتجاوز عشر سنوات بصحبة الموسيقيين رغبة في سماع الموسيقى. وأشار إلي والدي وهو يعزف أن آكل؛ لأن الموسيقيين سيأكلون في فترة الاستراحة، فقد كنت في حيرة بين هذا الطعام الذي لم أر في جماله كما رأيت قبل اليوم، والاستماع إلى الموسيقى الفرحة التي أدخلت في قلبي السرور، وتمنيات المستقبل.
وظللت أفعل ذلك حتى الثانوية العامة. ودخلت مسابقة التوجيهية في الفلسفة، وكانت التوجيهية يومئذ إما علوم، وإما أدبي رياضة، وإما أدبي فلسفة. وكنت الأول على القطر المصري كله في مادة الفلسفة. ووضع اسمي على لوحة الشرف بجوار حجرة الناظر، وكانت الجائزة عشرين جنيها. ودعا ناظر المدرسة يومها الملك فاروق لحضور حفل توزيع الجوائز، وحضر الملك وأعطاني محفظة جلدية. فقدمتها لوالدي هدية حيث كان حاضرا للحفل، وقسمت العشرين جنيها أربعة أقسام: خمسة جنيهات لإصلاح أسناني، وخمسة لشقيقاتي البنات، وخمسة اشتريت بها ساعة، وكانت أول ساعة أشتريها وأرتديها، وخمسة اشتريت بها الكمان. وبدأت أعزف عليه في فرقة المدرسة. ثم دخلت معهد شفيق للموسيقى، والذي كان قريبا من سور قصر عابدين بباب الخلق.
وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية، وبعد اكتشاف موهبة الرسم؛ رسم الشخصيات الشعرية والموسيقية، بدأت في رسم الخرائط؛ خرائط القارات الخمس وتكبيرها، وكنت أنظر للعلاقة بين البر والبحر، وأتأمل تداخل المياه في الأرض فتكون الأنهار والبحيرات، وكنت أتأمل موقع مصر بين القارات الثلاث؛ أفريقيا وآسيا وأوروبا. ولم تكن أمريكا اللاتينية قد برزت بعد إلى الوجود الثقافي كما هو الحال الآن، وكنت أندهش لاتساع قارة آسيا مقارنة بقارة أوروبا وصغرها جغرافيا مع أنها أنشط وأقوى حضاريا. وكنت أنظر إلى أفريقيا الممتدة جنوبا وأندهش من خط الاستواء الذي يقسم القارة لشمال وجنوب.
وكان زوج شقيقتي الكبرى يعمل بمصلحة المساحة، فكنت أذهب لهناك. كانت المصلحة قريبة من الجامعة، أستعين بخطاط المساحة للكتابة بالخط الثلث العريض اسم القارة على ورقة ألصقها على أسفل الخريطة التي قمت برسمها، وكأن سياحتي حول العالم فيما بعد بدأت بالسياحة على الورق وفي الخيال.
وتقدمت بطلب للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، والذي كان يسمى حينئذ معهد فؤاد، وكان المعهد يتطلب الحضور يوميا ليس فقط لتعلم العزف، ولكن لدراسة العلوم الموسيقية الأخرى مثل: الصولفيج، وتاريخ الموسيقى إلى آخر المواد التي تدرس في المعهد. وكنت طالبا في كلية الآداب في قسم الفلسفة، فكيف أحضر وأوفق بين دراسة المعهد والكلية، وكيف أجمع بينهما؟ وبالرغم من أن أبي كان موسيقيا يعزف «الترمبون»، وكان علي إسماعيل قريب والدتي موسيقيا أيضا يعزف الكلارنيت في النوادي الليلية بعد أن ترك الجيش، فكان والدي يقول لي: «أتريد أن تصبح مثل علي إسماعيل عازفا للراقصات في الملاهي الليلية؟» فلم يشجعني على مواصلة دراسة الموسيقى، ولم يتبق لي إلا أن أواصل دراستي في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكنت الأول على الدفعة في كلية الآداب قسم الفلسفة طوال الأربع سنوات مدة دراستي الجامعية، وكنت أتوق لأن أصبح معيدا بالقسم ثم أستاذا بالكلية.
وتكررت لحظات الاختيار بين الموسيقى والفلسفة عندما وصلت إلى باريس، وسجلت بجامعة السوربون ومعهد الكونسرفتوار، كنت أحضر محاضرات الفلسفة صباحا في السوربون، وبعد الظهر أحضر دروس الموسيقى في الكونسرفتوار، وفي المساء أقرأ نصوص الفلسفة في نصفه الأول، وأعزف على الكمان الذي أحضرته معي من القاهرة في النصف الثاني. وظللت على ذلك سنتين، آكل مرة واحدة في اليوم بسعر مخفض في مطاعم الجامعة نظرا لقلة مواردي. وبعد أن علمت المشرفة الاجتماعية بمركز خدمات الطلاب حالتي، ومرة لم أستطع صعود السلم الصغير في المنزل الجامعي، وكنت أشعر بالإرهاق؛ فذهبت للعيادة الطبية التابعة للمدينة الجامعة، وكشفوا على صدري بالأشعة، فوجدوا بداية تجلط في الرئة اليمنى، وأخبرني الطبيب وقال لي لا بد أن أمكث في العيادة عدة أيام لاستكمال الفحوصات الطبية؛ ففعلت، ثم جاء الطبيب بطبيبة ما زالت أذكر اسمها «بون فونت» وسألتني كيف أعيش؟ فقلت: في الصباح في السوربون وبعد الظهر في الكونسرفتوار، وفي المساء أقرأ في النصف الأول وأعزف في النصف الثاني. وآكل مرة واحدة في اليوم.
ولم أكن أنا فقط الذي يشتري فيها الطالب دفاتر المطعم بأجور مخفضة. أستعمل واحدة ظهرا، وأبيع الثانية في المساء بسعر كامل، وإهانتي من أحد الطلاب الفرنسيين بقوله إنني تاجر جيد، ولكن كان مدير المطعم الفرنسي يفعل ذلك أيضا وهو ليس فقيرا؛ كان يأخذ تذكرة المطعم بالسعر الكامل وهو سبعة فرنكات ونصف، ويشبك التذكرة في عمود معدني رفيع يخرق التذكرة، ولا يقطعها، ثم يأخذ هذه التذاكر إلى المنزل قبل تسليمها إلى الجامعة ويرش مكان الخرم بالماء ثم يكويها فتعود صالحة للاستعمال مرة ثانية، ويبيعها للطلاب الفقراء مثلي بأجر مخفض؛ لأنه لم يدفع فيها شيئا، ويبيعها الطلاب الفقراء على باب الدخول للمطعم بثمن مخفض ويعطى الثمن لمدير المطعم بعد أن يضع عليها نسبته، ولم يتهمه أحد من الأجانب أو الفرنسيين بأنه تاجر جيد.
وكان مطعم كلية الطب مجاورا لمكتبة مدرسة اللغات الشرقية الحية التي كنت أقرأ فيها أحيانا، وكنت أتناول وجبة الغداء فيه، وبعد الغداء وقبل أن يغادر الطلاب المطعم وبعد غلق شبابيك الخدمة، وكان يوم أحد، يتبارى الطلاب والطالبات في رفع سلطانية الشوربة إلى أعلى وإسقاطها على الأرض، فإذا وقفت على قعرها ولم تنكسر صفق الطلبة وضحكوا إعجابا بالمباراة، أما إذا سقطت على جانبها فإنها سرعان ما تنكسر ويهلل الطلاب بالفشل وعدم المهارة، وكانت عاملات النظافة تنتظر لكي تلم قطع البلاستيك المتناثرة من أثر انكسار سلطانيات الشوربة، ويضحكن على الطلبة، ولا يهددن بنداء المدير بهذا التخريب القصدي كما نفعل في بلادنا، وكانت الطالبات يسقطنها بين أفخاذهن لضبط اتجاه الوقعة من القعر إلى الأرض، وكنت أهتم برؤية الفخذين أكثر من اهتمامي برؤية السلطانية وهي تقع سليمة أو منكسرة.
وفى فترة الغداء يخرج الطلبة والطالبات من المكتبة الوطنية يتناولون الغداء في أحد المطاعم الجامعية القريبة، ثم يذهب الجميع إلى المقاهي المتناثرة حول المكتبة. يشربون القهوة قبل العودة للدراسة أو القراءة في المكتبة، وكنت أرى من خلال زجاج واجهة المقهى، ومن الرصيف الطالب يحتضن الطالبة ولا ينظر أحد إليهما إلا أنا، فدخلت مرة أحد المقاهي كي أشرب القهوة، وكنت بمفردي، فجاءتني طالبة كانت تجلس بجواري، وحدثتني وقالت: «هاللو!» فكنت أخجل وأدعوها إلى فنجان من القهوة، فكانت تقترب مني أكثر وأكثر كما هو الحال في فيلم الخطايا. وكانت العادة أن يتقابلا في المساء بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق المكتبة عند السادسة مساء. وكانت العادة أن أدعوها إلى العشاء في أي مقهى مجاور ونتحادث، ويشعر كل منا برغبة في الآخر، وكنت إذا دعوتها إلى شرب القهوة في الظهر فكيف لي أن أدعوها إلى العشاء مساء وأنا لا أملك من المال شيئا يذكر؟ فلم أذهب إلى المقهى في المساء وغادرت المكتبة مسرعا إلى الغرفة التي أسكن فيها على السطح وعيناي تدمعان؛ إما لفقري أو لطيبتي.
وكان الطلبة الأفارقة يتظاهرون بالمرض كي يأخذوا التذاكر المخفضة لدخول مطعم المرضى الذي لا توجد به عاملات للخدمة، بل يذهب الطلبة إلى المنصة ويخدمون أنفسهم بأنفسهم، ويشربون اللبن بدلا من الماء، ولا يتكلمون مع أحد، بل يستمرون في تناول الطعام حتى ساعة غلق المطعم، وكانوا يأكلون بنفس الطريقة التي يأكلون بها في أفريقيا، فضخمت وبدنت و«كرشت». وكان مدير المطعم لكثرة ترددنا عليه لا ينظر إلى بطاقاتنا وتذاكر الدخول ولا تذاكر الطعام، ويرحب بنا منحنيا مادا ذراعه إلى الأمام.
অজানা পৃষ্ঠা