الأفعال الطيبة تجعل الإنسان في مثواه الأخير في راحة واطمئنان، وكأنه أدى الشعائر كلها منذ الصبا وحتى الممات. والعلم جهاد، والتعلم مقاومة للأعداء «العلماء ورثة الأنبياء.» العالم قبل أن يكشف عنه الحجاب فهو في ظلام، ولا يهم العالم في أي أرض يموت
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت .
والتفكير في أين يبقى الجسد؟ مع الأهل والأصدقاء؟ وإذا امتلأ المكان الأول فهل يجوز للزوجة الحبيبة والأبناء الأعزاء الحصول على أرض جديدة لمثوى الأبناء والأحفاد؟ أم أن الأرض تتسع لكل من أتاها ليستقر فيها، ولا ترفض أحدا، فلم يبق من الجسد إلا العظم، ولا يعرف الإنسان بأي أرض يموت؟
وعندما يحين المثوى الأخير لا يستطيع الإنسان أن يعود إلى الوراء من جديد ليحسن أفعاله، وينقي ضميره، وتصدق نياته؛ فالزمان يتقدم ولا يتأخر، والندم لا يجدي لأنه استرجاع للماضي الذي ولى. والندم لا يفيد لأنه تحسر على ما مضى، وحزن على ما فات. يود الإنسان أن يعود ليفعل صالحا، وقد كان العمر متسعا أمامه، ولكن الزمن لا يعود إلى الوراء. والنهاية لا تكون بداية، والبداية الثانية لا تكون إلا في الحياة بعد التوبة، والاستغفار لا يفيد، فلقد تم الفعل وانتهى؛ فالمولود لا يعود إلى رحم أمه. والرحمة الإلهية مشروطة بفعل التوبة في الحياة، وليس كما يقول عمر الخيام: «... إن لم أكن أخلصت في طاعتك ... فإنني أطمع في رحمتك».
فالفعل السيئ في الدنيا لا تتبعه رحمة في الآخرة، ولا يعني أن الله يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك، أن الشرك هو مجرد حكم عددي بأن الله واحد لا شريك له؛ فالتوحيد في الدنيا بين القول والعمل، بين الظاهر والباطن، بين الفكر والوجدان، حتى لا يكون الإنسان منافقا، يقول ما لا يفعل، ويفكر في شيء لا يشعر به؛ فالتوحيد هو وحدة القول والعمل، والفكر والوجدان، فخالد بن الوليد شعر وهو في المثوى الأخير أنه لا يوجد في جسده موضع ليس به ضربة سيف أو طعنة رمح، وهو يموت كما تموت النعاج. فالفعل الموحد هو أساس التوحيد، والتوحيد باللسان ليس توحيدا بالأفعال؛ فالتوحيد شهادة على العصر وليس هروبا خارج الأوطان.
ويعني المثوى الأخير الفعل الممتد من المولد حتى الممات، وهو شريط الذكريات الذي يمر في ذهن الإنسان في اللحظة الأخيرة، يرى مسار حياته، ولا يندم عليها، فإذا ندم توقف الشريط، فلم تعد هناك جدوى لرؤياه نظرا للحظات المأساة فيها.
يهتم الإنسان بتراثه قبل المثوى الأخير. وليس التراث هو المال والذهب والفضة والأرض والمصنع، بل هو ما يتركه في ذهن وفكر أقرانه، وفي سجل التاريخ، يصنعون له سيرة أخرى مدونة، كما يدون التاريخ تراثه في الأذهان والعقول وفي القلوب وفي الأنفس، نار جديدة تشتعل في قلوب الأجيال القادمة، حتى وإن احترقت مؤلفاته تبقى. «الذكريات» حركة في التاريخ وجزء من لهيب الوطن، تحرق من يعتدي عليه، وتدفئ من يبرد بسبب هجرة الأوطان.
و«الذكريات» حياة لمن يحياها، ونور لمن لم يحجب نوره.
و«الذكريات» حقيقة الخلود لصاحبها في الأرض قبل السماء، تحرك الناس، وتشعل القلوب إذا ماتت النفوس، وتحمل الوجدان.
لا تحتاج «الذكريات» إلى نصب تذكاري حجري أو معدني ثابت كتمثال الشرك، بل تحتاج إلى قراءة مستمرة لأقوال، ومشاهدات لأفعال. «الذكريات» طينة حية وليست حجرا ميتا، تحفظ في القلوب، وتتحول إلى أمثلة شعبية، وأغنيات بلدية مثل مذكرات أحمد عرابي.
অজানা পৃষ্ঠা