وآخر يبغي الشهرة، يتخلى عن تخصصه، ويتنقل بين الأدب والموسيقى والشعر، ويستشهد بهيجل وبيتهوفن وجوته، يقنع الناس بأنه واسع الثقافة، ومبدع الفلسفة، ويترك تخصصه الأول دون أن يبدع فيه شيئا. كنت قد حاولت إرسال اثنين منهم إلى الخارج لمزيد من العلم، فذهب واحد وهو يتكلم في علم لا يعرفه الأساتذة الأجانب، وعاد بعلم لا يعرفه الأساتذة المصريون، فرفع نفسه فوق الحضارتين الغربية والإسلامية وما زال يتفاخر بذلك.
ولم يستطع الثاني المغادرة إلى ألمانيا لأنه لا يعرف التعامل مع الحاسب الآلي «الكمبيوتر» ورسب في هذه المادة مرتين، لم يعرف كيف يصوغ جملة اسمية بها مبتدأ وخبر، أو فعلية بها فعل وفاعل. وكانت الجملة عنده يبلغ طولها صفحة بأكملها، لا يعرف كيفية التنقيط والتقطيع لها بالفاصلة والنقطة، يقرأ كثيرا، ويفكر قليلا على غير ما كان يقرأ قليلا ويفكر كثيرا على أفكار أستاذه.
وقد أرسلت آخر إلى ألمانيا كي يحضر حلقات بحث في فلسفة الدين. وبعد شهرين أراد الرجوع لأنه لا يفهم شيئا، ليس فقط لأنه لا يعرف اللغة ولكنه أيضا لأنه لا يفهم موضوع البحث. وأكمل العام الدراسي دون أن ينتج شيئا، يكفيه التعرف على زميلاته في السكن الجامعي.
لم يكتب أحد منهم مقالا فلسفيا في تخصصه أو في الفلسفة العامة، بعد أن قارب أحدهما سن المعاش. وظلا مدرسين دون ترقية إلى أساتذة مساعدين، لم يتصل هؤلاء الوصوليون بي ولا مرة بعد الحصول على شهاداتهم العليا؛ فمهمتي بالنسبة إليهم قد انتهت، ويلتصقون بأستاذ آخر وبدائرة أخرى لعلهم ينالون منهم أكثر مما نالوا مني.
لم أندم على شيء فقد قمت بواجبي تجاه العلم والوطن، ويبدو أن هذا النوع من المعيدين هو الذي يقدمه العصر. فلماذا أبكي على الجامعة وحدها، والوطن أحق بالبكاء عليه؟
ولما أقمت الجمعية الفلسفية المصرية لتنشيط الفكر الفلسفي في مصر، بعيدا عن الجامعات، لم يشارك واحد منهم في نشاط الجمعية، سواء بحضور الندوة الشهرية، أو المشاركة في المؤتمر السنوي، أو ينشر كتابا علميا خارج الكتاب المقرر.
وأخيرا انعزل البعض، وانكمش على نفسه، واكتفى بوظيفته التي يعيش منها؛ فالعزلة أحب إليهم من المشاركة. العزلة بها أمان حتى ولو كان زائفا، والمشاركة مغامرة غير محسوبة العواقب.
ويكون أحد الأساتذة جماعة حوله من تلاميذه، ومن يستطيعون تحقيق مصالحهم الشخصية من خلاله؛ فتحولت الجماعة العلمية الكبيرة إلى مجموعات أو «شلل» صغيرة، يتعاونون معا في الخير والشر، وإن كان في الشر أكثر. وتكبر هذه الجماعات الصغيرة أو تصغر بناء على تحقيق المصالح أو عدم تحقيقها، ويظل الباب مفتوحا لمن يشاء الانضمام، فتتفتت الجماعة العلمية الكبيرة كما تتفتت الأوطان إلى أجزاء بالحروب الأهلية، وكما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ومن لا يستطيع الدخول في مثل هذه المجموعات الصغيرة علنا فإنه يدخل سرا، ويشترك في التآمر المفضوح، وإن ظهرت البراءة على الوجه؛ فقد حدث أن تآمرت مجموعة صغيرة أو «شلة» على اختطاف الجمعية الفلسفية المصرية من مؤسسها. وفي اجتماع الجمعية العمومية أحضرت هذه «الشلة» أكبر عدد من المعيدين وطلاب الدراسات العليا وانضموا إلى الجمعية قبل الانتخاب بساعة واحدة. واختاروا بطبيعة الحال لرئاسة الجمعية ونائبها وأعضاء مجلس إدارتها من تآمر عليها علنا أو سرا. وانطلقت «الزغاريد» لنجاح هذا التآمر الجديد، وإخراج العضو المؤسس وأعضاء مجلس إدارتها منها. واختاروا رئيسا ونائبا ومجلس إدارة جددا ممن اتفقوا عليهم سلفا. ولما رأت وزارة الشئون الاجتماعية والمشرف على الجمعية أن كل من صوتوا في انتخاباتها الأخيرة، أصواتهم باطلة؛ لأن الذي له حق التصويت هو من مر على عضويته سنتان على الأقل. فرجعت الجمعية إلى رئيسها ومجلس إدارتها الأول، وخرج المتآمرون.
أليست ترشيح الجماعة العلمية لأحد أعضاء «الشلل» ومنها شلة الغيرة والحقد والحسد والكراهية والعدوان، ويأخذ الترشيح بالإجماع ثم لا يأخذ في مجلس الكلية إلا صوتا واحدا جريمة خلقية؟ ولو أن أحدا من هذه «الشلل» جلس وكتب شيئا ينفع الفكر والوطن لكان خيرا له من التآمر والغيرة والحسد والحقد والكراهية والعدوان. إن محاولة أستاذ تجميع أكبر قدر ممكن من المعيدين والطلاب للدراسة معه، وإعطاءهم الدرجات العلمية في موضوعات متكررة، واستخدام الجيل الجديد لصالح الجيل القديم عندما ينتشرون في الجامعات الإقليمية يسبحون بحمده ويفرضون كتبه في طبعاتها العاشرة؛ هي جريمة كبيرة وانخفاض بمستوى التعليم جيلا وراء جيل، ورغبة في المنفعة وجمع المال، دون أن يرثه أحد لأنه لا ذرية له.
إن تكوين «شلل» صغيرة داخل الجماعات العلمية الكبيرة، تحقيقا لمنفعة، أو تطلعا إلى سلطة، لهو قضاء على الجماعات العلمية نفسها، وعدم إيجاد بديل عنها في «الشلة التسلطية» التي تكبر يوما وراء يوم، بديلا عن الجماعة العلمية الكبيرة؛ وتصبح «الشلة التسلطية» وسيلة للوصول إلى المناصب الإدارية لرئيسها بعد أن أظهر شعبيته ومدى انتشاره وولاء الجماعة العلمية الكبيرة. ويبقى التمركز حول الذات جريمة كبرى في الجماعة العلمية الكبيرة التي تقوم على البرهان وليس على الادعاء، والانتقال بين الشرق والغرب لبيان أنه يعرف الثقافتين، وحين يكتب لا يوجد موضوع محدد أو منهج ملائم أو الوصول إلى نتيجة بعد افتراض علمي يكون البحث تحقيقا له. ويزداد صراخا في المناقشات العلمية لإقناع السامعين برأيه. ويستعمل أكبر قدر ممكن من المصطلحات المعربة ليبين أنه من أصحاب الثقافتين، كما يستعمل بعض المفاهيم الغربية الحديثة ليبين أنه يعرف الحداثة. في حين أن الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية تمران بمرحلتين مختلفتين، الأولى في بداية عصر النهضة، والثانية في نهاية العصر الحديث. ويدعي أنه من أنصار علم «الاستغراب» الذي يقوم على التمييز بين الحضارتين، وتحويل الحضارة الغربية إلى موضوع للدراسة بدلا من أن تكون دائما ذاتا دارسة، وتحويل الحضارة الإسلامية إلى ذات دارسة بدلا من أن تكون دائما موضوعا للدراسة، فهو يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول. ومن علامات الربط بين الغيرة والحسد والكراهية والعدوان انتخبتني لجنة الفلسفة بالمركز الأعلى للثقافة الذي كان يسمى سابقا المركز الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية مقررا للجنة. وكان أحد أعضائها قد صرح بأنه لن يرشح نفسه طالما أني سأرشح نفسي، ولما تغيرت طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجلس، وتغير الأمين العام له تم استبعادي من أمانة اللجنة وعين آخر أصغر مني سنا. ولما كان مريضا فلم يكن يحضر إلا نادرا وحضر من هو أصغر منه سنا بالنيابة، فحزنت لهذا العدوان وقاطعت المجلس حتى الآن، والذي كانت قراراته ينقصها الاحترام والتقدير. ولما مر رئيس المجلس الجديد ليفتش على اللجان وأمنائها قال للأمين إن حمامات المجلس ليست نظيفة، وكأنه يقارن بين نظافة الحمام وعدم نظافة أعمال اللجان. وكنت قد قدمت مشروعا مكونا من عدة أجزاء؛ أولا: دور أقسام الفلسفة في مصر، ثانيا: رسالة أقسام الفلسفة في مصر، ثالثا: دور لجان الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، رابعا: رسالة الفلسفة في مصر، وخامسا: رسالة الفلسفة في الوطن العربي. وربما خشي المجلس من هذا المشروع الذي قد يتعرض إلى الأوضاع السياسية في مصر والوطن العربي والربط بين الفلسفة والمجتمع، أو يخرج الفلسفة من القاعات الجامعية إلى الشوارع والميادين العامة فيتحقق ما قاله الفلاسفة مثل أورتيجا إيجاسيه «ثورة الجماهير» أو ما قاله لينين في «الفلسفة والثورة» و«الدولة والثورة». ودخلت الفلسفة من جديد محجوزة بين الجدران الأربعة لقاعات الدراسة.
অজানা পৃষ্ঠা