وكنت أطبع من كل كتاب ألف نسخة، ولما تراكمت النسخ في مكتبتي على رفوف المكتبة أو في الصناديق، تعرفت على أحد الناشرين صاحب «دار الكتاب المصري الحديث» حيث عرضت عليه إذا كان من الممكن أن يأخذ هذه الكتب لتوزيعها ورد ثمنها لي بعد ذلك؛ لأنني طبعتها على نفقتي الخاصة، وكان ثمنها ما يزيد عن سبعين ألف جنيه. ووعدته بأن يأخذ نصف المبلغ في حال لو نجح في توزيع الكتب أي خمسين في المائة من ثمنها. مع أن الموزع عادة لا يأخذ أكثر من ثلاثين بالمائة أو ثلاثة وثلاثين في المائة على الأكثر. ففرح الرجل وأتى بصناديق، وأخذ معظم النسخ باستثناء القليل من كل كتاب أحتفظ بها للذكرى. وكل مرة أسأله عما حدث يقول «ما زالوا في عهدتي، لم أوزع منهم شيئا.» وعندما غضبت منه في إحدى المرات أعطاني شيكا مقبول الدفع بأربعة آلاف جنيه، مع أن المطلوب كان حوالي ثلاثين ألفا من الجنيهات. وجاءني مرة أخرى بعد سنوات قائلا: «إن الكتب لم توزع!» وإنه سيأتي في مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية ليوزعها هناك، ولكنه لم يأت. والآن انقطعت الصلة بيننا تماما ولم أحصل منه على شيء.
أما «دار رؤية» وكان صاحبها يتظاهر بأنه صديقي، فأخذ مني بعض النسخ القليلة، وكان يريد أن يوزعها، ولم يرد لي شيء من دخلها. وبعد عدة سنوات طلب مني نسخا أخرى لتوزيعها وكان قد طبع لي كتاب «حوار من المشرق والمغرب» و«التراث والتجديد». زارني في المنزل مع إحدى الصديقات الكويتيات كي تضمنه، وأعطاني مقدما أربعة آلاف جنيه. ولم أستلم باقي المبلغ بعدها حتى الآن.
أما في بيروت فقد طبعت لي «دار الطليعة» ترجمتي لكتاب اسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة». وبعد عدة سنوات انخفض سعر الدولار في بيروت فقالوا لي: «إن الكتاب يباع بالليرة اللبنانية وحولناها لك إلى دولارات أمريكية.» وأعطاني مائة دولار فقط.
وطبع لي «مركز الكتاب للطباعة والنشر» «مقدمة في علم الاستغراب»، وتم عرضه في معرض الكتاب، ووعدني أنه في العام القادم سيعطيني حقوقي، ثم توفي. ولا أعرف نجله الذي كان يشرف على الدار لأسترد حقوقي منه؛ فلم أستلم منه شيئا.
أما «دار مايا» التي يشرف عليها ناشر ليبي في بيروت، فقد طبع لي ثلاثة كتب: «محمد إقبال، فيلسوف الذاتية»، و«من النص إلى الواقع» (جزءان)، و«من الفناء إلى البقاء» (جزءان). أعطاني جزءا من حقوقي في الكتاب الأول طبقا للمبيعات العامة. وعندما رأى الطبعة المصرية للكتاب «من النص إلى الواقع» عام 2004م حجز على جميع حقوقي، لأنني أخللت بشروط العقد وطبعت الكتاب مرة ثانية بالقاهرة دون الرجوع إليه؛ فمن ثم لا أستحق أي عائد أو حقوق منه، مع أن الاتفاق الشفاهي كان من حقي طباعة طبعتين؛ الأولى فخمة غالية الثمن في بيروت، والثانية متواضعة رخيصة الثمن في مصر والوطن العربي مثل السودان والجزائر وموريتانيا واليمن.
وكانت طباعته لكتاب «من النص إلى الواقع» عام 2005م. فهو الذي قام بطبعه ببيروت بعد الطبعة المصرية عام 2004م وليس قبلها. وكنت قد اتفقت مع الناشر المصري أنه لا مانع من أن تكون هناك طبعة أخرى لنشر الكتاب في أي مكان دفعا بالثقافة العربية وليس طلبا للكسب.
فمعركتي مع الناشرين هي أن الناشر يرى أن الكتاب بضاعة يتاجر بها. وأنا أرى الكتاب رسالة يقوم بها المؤلف بصرف النظر عن حسابات المكسب والخسارة. وكنت قد طبعت «الحكومة الإسلامية»، و«جهاد النفس أو الجهاد الأكبر للخميني»، و«مجلة اليسار الإسلامي» على نفقتي الخاصة، طبعت مائة نسخة من كل كتاب ولم أعرف كيف أوزعها. ووجدت بائع الجرائد يجلس على مدخل مقهى ريش بالقرب من ميدان طلعت حرب. فأعطيت له خمس نسخ من كل إصدار، ومرة وأنا هناك لم أجد النسخ معروضة فسألته عن ثمنها؛ فنهرني وقال لا يوجد؛ فعرفت أنه لا فرق بين الناشرين أصحاب الدور الكبيرة وبين بائع الجرائد الصغير على ناصية الطريق. وكان مدبولي الأب يقول لي: «يا دكتور لماذا تحزن من الناشر؟ أنت تريد طبع كتاب لنشر أفكارك، ونحن نقوم لك بذلك. ونحن نريد أن نبني عمارة، وأنت تساعدنا في ذلك. فأنت لا تنافسني في بناء العمارة، ولا نحن ننافسك في نشر الرسالة.»
ثم نشرت لي «دار الشروق الدولية» كتابين، الأول «جذور التسلط وآفاق الحرية»، والثاني «من منهاتن إلى بغداد». وقد كنت استوحيت عنوان الكتاب من مقال لمحمد أركون. وبدا لي أن صاحب الدار كان صادقا أمينا. وفي مرة كنت على موعد معه في الدار، انتظرته، ولكنه لم يحضر. فاتصلت به كي أعرف إذا ما كان سيأتي لمقابلتي أم لا؟ فعندما رد على اتصالي عرفت أنه كان يتناول طعام الغداء مع اثنين من التجار الإندونيسيين، فلم يستطع الحضور ولم يعتذر. وبعد ذلك عرفت أنه حول دار النشر إلى متجر لتجارة السجاد مع إندونيسيا. وأرسل لي حقوقي لا أذكر كم كانت، وباقي أعداد النسخ التي كانت لديه. فحزنت لأن الدافع لدور النشر هو المكسب، فلما أتاه المكسب الأكبر ترك تجارة الكتاب إلى تجارة السجاد.
وتعرفت على سائق تاكسي أجرة كان يجمع بعض المهندسين في مكان عمل نجلي المهندس ليوصلهم من وإلى مكان عملهم. وبعد أن قل عمله بالشركة لبيعها لم يجد عملا لدى المهندسين هؤلاء والذين كان يوصلهم يوميا. طلبت منه كمساعدة له أن يوصلني للجامعة مرة أو مرتين أسبوعيا. وذات يوم طلب سلفة مبلغ ستة آلاف جنيه، وأنا ضعيف أمام المحتاجين. فوافقت وأعطيته المبلغ. واتفقت معه أن يردها على ستة أقساط شهريا، كل شهر ألف جنيه. التزم ورد لي قيمة ثلاثة أقساط، وفي الشهر الرابع طلب تأجيل القسط ثم طلب تأجيلا آخر وآخر. وعندما لم يستطع تدبير باقي المبلغ طلب مني ألا أدفع قيمة مواصلتي للجامعة، وأن أركب بها معه إلى أن تنتهي الأقساط. لم يناسبني هذا الحل لأنني لم أكن أذهب للجامعة في تلك الفترة كثيرا، ولم أكن أخرج من المنزل كثيرا. لم أستخدم التاكسي، ولم يرد لي باقي المبلغ. فتوقفت عن التعامل معه، ولم أرغب في أن يستمر في العمل لدي. فصرفته، وضحيت بباقي الأقساط.
وفى يوم أتى سباك ليصلح شيئا في الحمام، وبعد أن أتم عمله غادر. ولما كان الحمام جزءا من حجرة النوم، وكانت عادة زوجتي أن تترك درج الكومودينو الخاص بها في غرفة النوم نصف مفتوح تضع فيه مصاريف اليوم، ولما رأى السباك هذا الدرج نصف المفتوح وهو خارج وبه أوراق مالية سهل عليه أن يمد يده ويأخذها. وكان المبلغ في حدود الثمانمائة جنيه. ولما اكتشفت زوجتي هذه السرقة ونحن لا نعرف السباك أسقط في أيدينا، ولم نعرف ماذا نفعل؟ فنحن لا نعرف له اسما ولا عنوانا ولا رقم هاتفه. وأدركنا أن العيب فينا، وعلى رأي المثل: «المال السايب يعلم السرقة».
অজানা পৃষ্ঠা