وبمناسبة زيارة جان بول سارتر إلى مصر بعد هزيمة 1967م كي يعرف أين الحقيقة في الصراع العربي الإسرائيلي، ترجمت «تعالي الأنا موجود». وطبعته في دار الثقافة الحديثة، وكنت قد رأيته في باريس وهو يلقي محاضرة عامة في قاعة «موبيرمو تيواليتيه» التي استغرقت ثلاث ساعات، وكان معي كتاب مارتن لوثر الذي يضم نداءاته التسع والتسعين. ذهبت إليه بعد المحاضرة عند المنصة، وقلت له: «هل تسمح أن توقع لي على هذا الكتاب؟» فظن أنه أحد كتبه ولما وجده لمارتن لوثر قال لي: «وهل تقرأ مارتن لوثر؟»، قلت له «نعم!» فاستغرب، وظهر الاستغراب على وجهه، وتعلمت أننا ننتمي لحضارتين مختلفتين: الأولى الغربية وهي في مرحلتها الأخيرة، والثانية الإسلامية وهي ما زالت في بدايتها الثانية، «عصر الإصلاح الديني»، هو في نهاية حضارة، وأنا في بدايتها.
وبعد عودتي من أمريكا عام 1975م ترجمت كتاب «تربية الجنس البشري» للفيلسوف الألماني «ليسنج» وقد أعجبت بهذا الكتاب الصغير المقسم لفقرات صغيرة مرقمة أشد العجب وأنا أقرؤه في باريس، وصممت أن أترجمه إلى اللغة العربية بعد العودة. وهو كتاب في فلسفة التاريخ، يقسم تطور البشرية إلى ثلاث مراحل: الأولى الطفولة وهي اليهودية التي تقوم على الثواب والعقاب، والثانية: الصبا أو المراهقة وهي المسيحية التي تقوم على المحبة والتسامح والسلام، والثالثة: مرحلة الرجولة والتي تعتمد على العقل وحرية الإرادة، وهي فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر في فرنسا وألمانيا. وفسرت المرحلة الثالثة بأنها مرحلة الإسلام أي قبل التنوير باثني عشر قرنا؛ فالإسلام دين يعتمد على العقل وعلى حرية الاختيار والمسئولية الشخصية. ومهدت للكتاب بمقدمة طويلة في فلسفات التاريخ عند هردر، وفيكو، وتورجو، وكوندرسيه، وهيجل، وروسو. وذلك ليكون نصا رئيسيا في فلسفة التاريخ، ويفيد السنة الرابعة، ونشرته أيضا في دار الثقافة الجديدة.
وكتبت عدة مقالات في جريدة الجمهورية كل أسبوع في برواز خاص بي. وجمعتها مع عدة مقالات أخرى في «الدين والثورة في مصر 1952-1981» في ثمانية أجزاء، وهو كتاب شعبي كما يوحي بذلك عنوانه، مكتوب للعامة ؛ الجزء الأول: الدين والتحرر الوطني، والجزء الثاني: الدين والتحرر الثقافي، والجزء الثالث: الدين والتنمية القومية، والجزء الرابع: الدين والوحدة القومية، والجزء الخامس: الحركات الإسلامية المعاصرة، والجزء السادس: الأصولية الإسلامية، والجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني، والجزء الثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية. نشرتها عند مكتبة مدبولي بميدان طلعت حرب.
وبين فصلي من الجامعة في قرارات سبتمبر 1981م وعودتي إليها بقرار من مجلس الدولة في أبريل 1982م قررت الاستراحة قليلا حتى أتفرغ لإنجاز مشروع «التراث والتجديد».
وكان الجزء الأول عن علم أصول الدين، أو علم الكلام باسم «من العقيدة إلى الثورة» يقع في خمسة أجزاء: الجزء الأول: المقدمات النظرية. والجزء الثاني: التوحيد. والجزء الثالث: العدل. والجزء الرابع: الأخرويات. والجزء الخامس: النبوة والإمامة.
وكنت أطبعهم على ورق الجرائد الأصفر الخفيف الوزن، الرخيص الثمن حتى يكون الكتاب على مستوى دخل القراء الفقراء، وكنت أتنازل عن حقوقي المادية كمؤلف، بل كنت أشتري الورق من تجار الورق في منطقة العتبة ثم يرجع لي الناشر ثمنه من مبيعات الكتاب، والذي بدأت الكتابة فيه وأنا في طريقي للمغرب، واستغرق خمس سنوات لإتمامه. ثم بدأت بعده تأليف كتاب «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة في تسعة أجزاء. واستعملت منهج تحليل المضمون في كل النصوص الفلسفية القديمة؛ لكي أعرف مدى صحة أن علوم الحكمة هي شروح للفلسفة اليونانية وبالتالي لم يبدع المسلمون شيئا، كما يقول بعض المستشرقين وأتباعهم من العرب، أم أن بها إبداعا أصيلا وإن أتى في وقت متأخر؟
فكان الجزء الأول: عن الترجمة عن اليونانية وكيف كانت تتم تعريبا أولا ثم نقلا ثانيا؛ التعريب مثل قاطيغورياس، والنقل هي المقولات. والثاني: التعليق، أي التعليق على الكلمة وليس فقط ترجمتها. والثالث: الشروح، وكان شرحا للكلمة بعبارة طويلة. وتعتبر هذه الأجزاء الثلاثة الأولى أقرب إلى النقل. وبعد ذلك بدأ «التأليف» في الجزء الرابع، عندما يكون الوافد أكثر من الموروث، وفي الجزء الخامس: التأليف أيضا ولكن عندما يكون الموروث أكثر من الوافد. وفي الجزء السادس: عندما يتساوى الوافد والموروث . وتعتبر هذه الأجزاء المتوسطة بين النقل والإبداع، ثم يأتي «الإبداع» عندما يختفي الوارث والموروث كلية. ويعتمد الإبداع على العقل الخالص وهي «المرحلة السادسة». ثم الجزء السابع والثامن والتاسع؛ الجزء السابع: في العلوم الرياضية والطبيعية التي يختفي فيها الوافد والموروث معا. والجزء الثامن: في الموضوعات الإسلامية الخالصة وليست فقط المنطق والطبيعيات والإلهيات. وهي العلوم الوافدة. والجزء التاسع والأخير: في علوم تعتمد على العقل البديهي أو التجربة الطبيعية أو العلوم الإنسانية. وذلك مثل، مقدمة ابن خلدون التي تؤسس علما جديدا وهو علم التاريخ الاجتماعي، أو علم الاجتماع التاريخي.
ثم بدأت إعادة بناء علم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع» في جزأين، ويقوم بإعادة التفكير في علم أصول اللغة القديم منذ «الرسالة» للشافعي حتى «الموافقات» للشاطبي، وما بعده بقليل. وهو أفضل علم أبدعه القدماء وليس له أصول لا يونانية رومانية ولا مسيحية ويهودية. به ثلاث قضايا: الأولى، مصادر الأحكام ومن أين تأتي الأحكام الشرعية؟ وهي أربعة مصادر: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاجتهاد. فهذا الترتيب القديم يعطي الأولوية للنص على الواقع. فإذا كانت لدي مشكلة مثل صعوبة المواصلات في القاهرة فكيف أجد لها حكما؟ هل أذهب إلى الكتاب؟ فإن لم أجد فإلى السنة؟ فإن لم أجد فإلى الإجماع؟ هل أجمع المحافظون أو مديرو المرور مثلا؟ هل أسألهم كيف يحلون مشكلة المواصلات في القاهرة؟ هل بعمل كباري؟ أو بناء تجمعات جديدة حول القاهرة، أو عاصمة إدارية جديدة لنقل الحكومة إليها؟ أم أجتهد، رأيي كما تفعل المدن الكبرى مثل طوكيو والمكسيك؟ وذلك يتم عند قياس مساحات الشوارع والطرقات، ومعرفة عدد السيارات الخاصة، والناقلات العامة كي أعرف مقدار ما تتحمله الشوارع والطرقات من عدد السيارات، فإذا زاد العدد عن قدرة الطرق على استيعابها تنشأ الأزمة؛ فالحل يأتي من تحليل الواقع وليس من فهم النص، وبالتالي ينقلب الترتيب القديم وتصبح مصادر الأحكام من الاجتهاد أولا، فإن استعصى علينا أجمع أهل الخبرة العالمية الذين حلوا قضية الازدحام في المدن الكبرى، فإن لم أجد حلا عندهم أستطيع أن أقرأ النصوص عن تخطيط المدن القديمة وكيف كانت عربات الكارو التي تجرها الأحصنة تسير جنبا إلى جنب مع الناس. فالأولوية للواقع على النص.
والقضية الثانية: هي قضية اللغة؛ فالنص لغة أو قول أو خطاب متشابه. فيه حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين، عام وخاص، فإذا اعتمدت على النص اللغوي احترت أي الجانبين آخذ؟ الحقيقة أم المجاز؟ الظاهر أما المؤول؟ إلى آخر الاشتباه في اللغة.
كما أن في اللغة لحن الخطاب، وفحوى الخطاب،
অজানা পৃষ্ঠা