ولما كان العلم، هو كمال الإنسان، كان كل إنسان، محبا للعلم بالطبع، ويشتهيه ويفرح إذا نسب إلى العلم، ولو قليلا، ولو يعلم أن الذي وصفه بالعلم، كاذب. ويحزن إذا دفع عن ربتة العلم، ويلتذ الإنسان بالعلم، لذاته ولكماله، لا لمعنى آخر، وراء الكمال. ولا يخفى على أهل العلم: أنه لا لذة فوق لذته، لأنها لذة روحانية، وهي اللذة الخالصة من جميع الشوائب المكدرات. وأما اللذة الجسمانية، فهي، عند التحقيق، دفع ألم. إذ لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع، دفع ألم امتلاء أوعية المني به، بخلاف اللذة الروحانية، فإنها ألذ وأشهى ولهذا كان بعض العلماء يقول، عند ما تنحل له مشكلات العلوم: أين الملوك، وأبناء الملوك، من هذه اللذة ومن المعلوم أن اللذات، بالإضافة إلى الإنسان، من حيث اختصاصه بها، ومشاركته لغيره، ثلاثة أنواع، عقلية وجسمانية مشتركة مع بعض الحيوانات، وجسمانية مشتركة مع جميع الحيوانات. أما العقلية: فالعلم بحقائق الأشياء، إذ ليس يستلذ بها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن، وإنما يستلذ بها القلب لاختصاصه بصفة، يعبر عنها بالعقل، وهذه اللذة، أقل اللذات وجودا، وهي أشرف اللذات. أما قلتها، فلأن العلم لا يستلذ به إلا عالم. وما أقل أهل العلم والحكمة، وما أكثر المتسمين باسمهم، والمرتسمين برسمهم. وأما شرفها، فلأنها لازمة لا تزول أبدا، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا تمل والطعام يشبع منه فيمل وشهوة النكاح، يفرغ منها، فتستثقل والعلم والحكمة، لا يتصور قط أن تمل وتستثقل والمال يسرق أو يحرق، والولاية يعزل عنها والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ، ولا أيدي السلاطين بالعزل، فيكون صاحبه في روح الأمن أبدا، وأما قصور أكثر الخلق، عن إدراك لذة العلم، فلفساد أمزجتهم، ومرض قلوبهم، لاشتغالهم باتباع الشهوات، واستيلائها على عقولهم فإن القلب، إذا كان صحيحا لا يستلذ إلا بالعلم، فإذا كان مريضا بسوء العادات استلذ بغيره، كما يستلذ بعض الناس أكل الطين وكالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مرا
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
وإما لقصور فطنتهم، إذ لم تخلق لهم الصفة، التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة الطيور السمان، ولا لذة العسل، ولا يطلب إلا اللبن.
الثانية: لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات، كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء... وذلك موجود في الأسد، والنمر، وبعض الحيوانات.
الثالثة: لذة يشارك الإنسان فيها جميع الحيوانات، كلذة البطن والفرج، وهذه أكثر اللذات وجودا وهي أخسها، ولذلك اشترك فيها كل ما دب وتحرك، حتى الديدان والحشرات.
ولأجل اللذة، والكمال الذي في العلم. صار للإنسان ميل طبيعي إلى العلم، غالبا، لكن من الناس من ساعده فهمه ومنهم من لم يساعده. وأما عدم الميل إلى العلم، فلأمر عارض كفساد الطبع، أو بعد المكان عن الاعتدال. والمقصود من هذا معرفة فضيلة العلم ونفاسته، وما لم تفهم الفضيلة في نفسها، لم يكمن أن يعلم وجودها، صفة للعلم، أو لغيره من الخصال فلقد غلط من طمع أن يعلم، أن فلانا حكيم، وهو لم يعرف معنى الحكمة وحقيقتها، فالفضيلة، مأخوذة من الفضل، وهو الزيادة، فإذا تشارك شيئان في صفة، واختص أحدهما بمزيد يقال: فضله، وله الفضل عليه، مهما كانت زيادة فيما هو كمال ذلك الشيء، كما يقال: إن الفرس، أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر و الفر وشدة العدو، وحسن الصورة، فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة على ظهره لم يقل: إنه أفضل لأن السلعة زيادة في الجسم، ونقصان في المعنى وليست من الكمال. والحيوان، مطلوب لمعناه، وصفاته لا لجسمه، فإذا فهمتم هذا لم يخف عليكم: أن العلم فضيلة، إن أخذتموه بالإضافة إلى جميع الحيوانات. أو أخذتموه بغير إضافة فإنه فضيلة وكمال، على الإطلاق، وبه شرف العلماء والحكماء، وهو المرغوب فيه، المطلوب لذاته، لا لغيره.
وغير خاف عليكم، أن الشيء المرغوب فيه، ينقسم إلى ما يطلب ويرغب فيه لغيره. وإلى ما يطلب ويرغب فيه لذاته، وإلى ما يطلب ويرغب فيه لذاته ولغيره جميعا والذي يطلب لذاته، أشرف وأفضل والمطلوب لغيره، الدراهم والدنانير فإنهما حجران، لا منفعة لهما، ولولا أن الله، سهل قضاء الحوائج بهما. لكانا والحجر بمنزلة واحدة لأنهما لا يدفعان جوعا، ولا بردا، ولا حرا، بأنفسهما.
وأما الذي يطلب لذاته، فالعلم. فإنه لذيذ في ذاته، وأما الذي يطلب لذاته ولغيره، فكسلامة البدن، فإن سلامة الرجل، مثلا، مطلوبة، من حيث أنها سلامة البدن عن الألم، ومطلوبة للمشي بها، والتوصل إلى الحاجات. ومن دلائل شرف العلم ولوازمه. احترام العالم. في الطباع، حتى إن أغبياء الناس وأجلافهم. يصادفون طباعهم. مجبولة على توقير شيوخهم. لاختصاصهم بعلم زائد، مستفاد من التجارب. والبهائم بطباعها توقر الإنسان لشعورها بتميز الإنسان. بكمال مجاوز لدرجاتها.
পৃষ্ঠা ৪