والمصنفون، على فرق. ومنهم: من له - في العلم - ملكة تامة، ودراية كاملة، وفهم ثاقب. فتصنيف هذه الفرقة، عن قوة بصيرة، ونفاذ فكر، وسداد رأي. ومنهم: من له ذهن ثاقب، وعبارة سهلة، طالع الكتب، فاستخرج دررها، وأحسن نظمها. وهذه، ينتفع به المبتدئون والمتوسطون. ومنهم، من صنف وجمع، ليفيد نفسه، لا لإفادة غيره. وهذه، لا حجر عليه. و ويلزم كل مصنف - إذا تمم ما صنعه - أن لا يخرجه للناس ، ولا يطرحه من يده، إلا بعد تهذيبه، وتنقيحه، وإعادة مطالعته. فإنه قد قيل: الإنسان في سعة، وفي سلامة، من أفواه جنسه،، ما لم يصنف كتابا، أو يقل شعرا. ويقال: من ألف، فقد استشرف أي مد عنقه للمدح أو الذم، فإن أحسن، فقد استعطف، أي عطفت عليه القلوب، وإن أساء، فقد استقذف أي عرض نفسه للقذف والشتم. والعلم، إذا أراد تصنيف كتاب، بغير لغته، وبغير خطه، الذي نشأ عليهما، وسبقت ملكتهما إليه، ربما كان ذلك عسيرا، في غاية الصعوبة. إني لأتعجب - وما تقضى عجبي - من علماء فرنسا، وقدرتهم على هذا. فإن الله خصهم بمزيد ذكاء وفطنة. لأن مباحث العلوم، إنما هي في المعاني. ولا بد، في اقتناص المعاني، من الألفاظ، من معرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها. وإذا كانت الملكة في الدلالة، راسخة، بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن، من الألفاظ، زال الحجاب، بين المعانية والفهم. ولم يبق، إلا معاناة ما في المعاني من المباحث. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة. فثبت أن اللغة، ملكة في اللسان، والخط، صناعة، ملكتها في اليد. فإذا تقدمت في اللسان، ملكة العجمة، السابقة. وفي اليد، ملكة غير الخط العربي، صار مقصرا في اللغة والخط العربيين. لأن الملكة، إذا تقدمت في صناعة، قل أن يجد صاحبها ملكة، في صناعة أخرى، إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة، لم تستحكم، كما في الأصاغر، من أبناء العرب والعجم. وكان علماء الملة الإسلامية، في صدر الإسلام، غير مشتغلين بالتصنيف، جارين على طريقة العرب الأول، للاستغناء بالحفظ. وكانا يقولون: إذا كتبنا، اعتمدنا على الكتابة، وتركنا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض، فيتلف علمهم بتلف الكتاب. ويقولن أيضا: الكتاب، يمكن أن يزداد، وينقص منه، ويغير. والذي يحفظ، لا يمكن تغييره.
ويحكى في هذا المعنى، حكاية وقعت في زمن المأمون العباسي. وذلك أنه جاءه يهودي يوما، على أنه يشتكي، من مظلمة ظلمها. فلما تكلم اليهودي، تعجب المأمون من فصاحته وبلاغته، وقوة قلبه، وظرافته، ولطافته. فعرض عليه الإسلام، فامتنع. ثم بعد سنتين جاء مسلما إلى المأمون!!فسأله عن سبب إسلامه؟! فقال له: إني لما ذهبت من عندك، قلت في نفسي: أختبر الأديان. فعمدت إلى التوراة، فكتبت منه عدة نسخ. فقدمت بعض الكلمات، وأخرت البعض، وأسقطت البعض... وذهبت بالنسخ، إلى مجمع أحبار اليهود، فتساقطوا على النسخ، واشتروها. ثم عمدت إلى الإنجيل، وعملت به، ما عملت بالتوراة وذهبت بالنسخ إلى مجمع القسيسين، فتساقطوا على النسخ واشتروها. ثم عمدت إلى القرآن. وفعلت به، ما فعلت بالتوراة والإنجيل، وذهبت بالنسخ إلى مجمع العلماء، فصار كل من يتصفح النسخ، وينظر فيها، يقول: هذا ما هو القرآن، ويرميها. فعملت: أن الكتب المنزلة - كلها - تقبل التبديل والتغيير، إلا القرآن، لكونه محفوظا في صدور أهله، فأسلمت لهذا السبب.
পৃষ্ঠা ২৭