ومما لا شك فيه أن تواريخ المدن كانت تعبيرا عن الرباط الوثيق الذي يربط الإنسان بمكان مولده ومرباه ، ومن ثم الحنين إليه ، وهو ما أشار إليه الجاحظ في رسالته «الحنين إلى الأوطان» وفي غيرها من كتبه. ومن ثم ظهر دائما نوع تعصب ومفاخرة بين أهل المدن ، غالبا ما احتلت المكانة التي كانت تحتلها المفاخرات القبلية في صدر الإسلام. وأكثر ما تظهر مثل هذه المفاخرات في مقدمة تواريخ البلدان حيث يثني المؤلف على منزلة المدينة التي يؤرخ لها ، فالخطيب البغدادي افتتح تاريخه بقول يونس بن عبد الأعلى : «قال لي الشافعي : يا أبا موسى دخلت بغداد؟ قال : قلت : لا. قال : ما رأيت الدنيا» (1)، ثم ذكر فصلا فيه «ذكر أقاليم الأرض السبعة وقسمتها وإن الإقليم الذي فيه بغداد سرتها» (2) وخصص بعد ذلك بابا ذكر فيه «مناقب بغداد وفضلها وذكر المأثور من محاسن أخلاق أهلها» (3).
وأشار أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في مقدمته لتاريخ جرجان إلى أن العصبية لمدينته هي التي دفعته إلى الكتابة عنها ، قال : «أما بعد ، فإني لما رأيت كثيرا من البلدان تعصب أهلها وأظهروا مفاخرها بدخول الصحابة رضياللهعنهم أجمعين بلادهم ، وكون الخلفاء والأمراء وجماعة من العلماء عندهم حتى أرخوا لذلك تواريخ وصنفوا فيها تصانيف على ما بلغهم ، ولم أر أحدا من مشايخنا رحمهم الله صنف في ذكر علماء أهل جرجان تصنيفا أو أرخ لهم تاريخا على توافر علمائها وتظاهر شيوخها وفضلائها ، فأحببت أن أجمع في ذلك مجموعا على قدر جهدي وطاقتي ... إلخ» (4). ثم ذكر بعد ذلك فتح جرجان ، ومن دخلها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ... إلخ.
পৃষ্ঠা ৩০