نجحت عدوانية عبد الناصر في إجبار عبد المجيد على التخلي عن بعض عنته. فسمح لذات أن تقتاده في جولة تفقدية بين دكاكين الأدوات الصحية، توقفت فيها طويلا أمام طاقم حمام من الرخام الصناعي يتألف من تسع قطع؛ حوض استحمام بالسلم طراز فرساي (سألته: يعني إيه يا عبد المجيد؟ فتمتم غاضبا)، حوض ورد بالعامود، بيديه، كومبينشين، رف لوضع الشامبو والبلسم، فواطة عمود، وراقة، زوايا زخرفية، بالإضافة إلى أربع قطع لفرش الأرض، حوض للزهور، خلاط مياه ودوش على هيئة تليفون. والثمن؟ ضعف راتبه (بالحوافز) لمدة سنة.
أفلحت هذه الجولة في إغلاق ملف المسيرة مؤقتا، لكنها لم تفعل شيئا لمواسير الحمام وحنفياته السيالة، فاضطر عبد المجيد لأن يلتجئ إلى أحد السباكين. حصل على إجازة عارضة، وذهب إلى السباك في الموعد الذي اتفقا عليه، وانتظره إلى أن هل بعد ساعتين بوجه مقلوب، وبالفعل قال: «خليها لبكرة لأنه مليش مزاج.» ثم استجاب لرقة عبد المجيد واستعطافه فسأله: «معاك إيه؟»
لم يفهم عبد المجيد للوهلة الأولى ما يعنيه السباك، ثم أدرك أنه يستفسر عن طراز السيارة التي جاء بها، فاحمر وجهه من الخجل وهو يجيب بأنه ليس معه شيء، الأمر الذي أثار تعجب السباك: «طب وحارجع ازاي؟!»
السباك الذي دخل شقة عبد المجيد بالفعل أثار فيه الروع عدة مرات؛ عندما ركع ببنطلون من القطيفة الثمينة على أرضية الحمام ليفحص ماسورة المرحاض، وعندما خاض بحذاء من طراز «كوتشي» في المياه القذرة المندفعة من البالوعة، وعندما أعلن تكلفة الإصلاحات المطلوبة والتي تضمنت، بتشجيع من ذات، إزالة البلاط والقيشاني، الذي لم يعد يستخدم، حسب قول السباك، ولا حتى في المباول العمومية، واستبدالهما بالسيراميك الخلاب، والمرة الأخيرة عندما رفض باستعلاء الجنيهات الخمسة التي عرضها عليه عبد المجيد مقابل جهده في الفحص والتقدير، وأعلن من مقعد ارتمى عليه ببنطلون القطيفة المبتل أنه لا يقبل أقل مما يتقاضى الطبيب عند فحص المريض ووصف العلاج.
ظهر مهندس الديكور في اليوم التالي مباشرة أمام شقة ذات، مؤكدا فعالية شبكة التليباثي المحلية، عارضا خدماته في أدب جم، مقترحا القيام بعملية محدودة للغاية تتمثل في استبدال ماسورة المرحاض والحنفيات، إلى أن يفتح الله على عبد المجيد أو ذات أو الاثنين معا. وفي نفس الليلة انضم إلى زوار ذات السريين، وظل يتردد عليها إلى أن انتهت العملية المحدودة، فاختفى ليظهر من جديد عندما اشتكى الحاج فهمي الذي يسكن تحتها مباشرة من رشح سقف حمامه بالمياه. وبالرغم من الشواهد الواضحة، نجح مهندس الديكور في إقناع الضحيتين - عبد المجيد والحاج فهمي - بأن الأمر يتعلق بالعهد القديم؛ أي قبل أن يقوم بإصلاحاته المحدودة. والحل؟ أن يقوم، هو نفسه، بعملية جديدة محدودة، يتم فيها تعرية السقف ليجف، ثم إعادة دهانه، على نفقة عبد المجيد، بالطبع.
الاعتراض الوحيد على هذا الحل جاء من جانب ذات، التي انتابتها الشكوك (رغم الزيارات الليلية وربما بسببها) في كفاءة مواسير الباشمهندس، فتهورت وأبدت رأيها في أن الطريق إلى سقف حمام الحاج فهمي يبدأ من أرضية حمامها. أزاح عبد المجيد اعتراضها كعادته، وتشبثت هي بوجهة نظرها؛ ذلك أن ذات تغيرت ولم تعد تلك المستمعة المبهورة المأخوذة، وبفضل تمرينات البث لم تعد الكلمات تتعثر على لسانها، وتمتطي حروفها ظهر بعضها البعض، الأمر الذي أثار غضب عبد المجيد فاتهمها بأنها لا تفهم شيئا، «أوف كورس»، ثم خاصمها لمدة أسبوع، أنجز الباشمهندس خلاله عمليته المحدودة، وتأملت هي في عمق مسيرة الهدف والبناء، فتوصلت إلى قناعة جديدة بشأن المستقبل.
تتميز المرأة المصرية، كأغلب النساء في كل زمان ومكان، بقدرتها على تدبير احتياجاتها بنفسها، كما يشهد على ذلك شارع الهرم. لكن هذا الطريق ذي الشهرة العالمية (في بلاد القمامة الثمينة على الأقل) كان مغلقا في وجه ذات لاعتبارات عديدة، يتعلق بعضها بالاقتصاد وقوانينه (مثل قانون العرض والطلب)، ويتصل البعض الآخر بالخوف الغريزي الذي أثارته تجربة مدام سهير، ساكنة الشقة المفروشة؛ ذلك أن موظف الزراعة غضب لتردد الإخوة الخليجيين على مدام سهير، فأقدم على خطوتين متزامنتين؛ جمع براز القطط المتناثر على السلم ودهن به باب شقتها، وقام بتركيب جهاز بث وتلق (إنتركوم) إلى جوار باب شقته.
لم تكن ثمة علاقة بين الأمرين، كل ما في الأمر أن موعد رش القطن كان قد حل. لكن العلاقة نشأت بعد ذلك؛ فقد دأب الإخوة الكويتيون والسعوديون، ذوو الخبرة الواسعة بأرقى العواصم العالمية، على التوقف أمام شقة موظف الزراعة، وطرق بابها، ظنا منهم أنهم أمام مكتب الاستقبال (رسبشن) الخاص بالمؤسسة التي يقصدونها، مما دفعه إلى القيام بخطوتين متزامنتين جديدتين؛ إلغاء خط الإنتركوم، وإبلاغ الشرطة.
لم تسفر الخطوة الأخيرة ، بالطبع، عن شيء ذي بال، لكنها كانت كافية لتبديد ما يكون قد خالج ذات من آمال وأوهام، وتوجيهها إلى مجالات الاعتماد على النفس الأخرى من قبيل توزيع قمصان النوم المهربة من بورسعيد، والاتجار في المواد التموينية. لكن عائد هذه المجالات لم يكن مجزيا بالدرجة المرجوة؛ بسبب تعدد حلقات سلاسلها، الأمر الذي دفع ذات إلى الترحيب بمشروع الحلة عندما عرضته عليها جارتها سميحة.
كانت سميحة شابة صغيرة لم تكمل بعد ربيعها العشرين، كما يقول الأدباء، شاحبة الوجه من جراء سوء التغذية في الطفولة، حديثة عهد بالزواج وبسكنى العمارة. فزوجها، وجدي الشنقيطي، الذي يكبرها بعشرين ربيعا أخرى، كان مهندس بناء في مدينة ميت غمر، ومتزوجا من قريبة له متخصصة في إنجاب البنات، فقرر أن يتزوج ابنة ملاحظ البناء؛ لتتخصص في إنجاب الأولاد، وجاء بها إلى القاهرة حيث حصل على وظيفة بمجلس حي مصر الجديدة، وعلى الشقة المجاورة لذات بعد أن دفع فيها كل مدخراته؛ ولهذا خلت من كافة أنواع الأجهزة، مما حال بينه والتقاط البث التليباثي، فعجز عن الالتحاق بمسيرة الهدم والبناء.
অজানা পৃষ্ঠা