الكتاب: الذريعة إلى مكارم الشريعة
المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: ٥٠٢هـ)
تحقيق: د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي
دار النشر: دار السلام - القاهرة
عام النشر: ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 58
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نسأل اللَّه تعالى أن يجعل لنا بجوده الذي هو سبب الوجود - نورًا يهدينا إلى الإقبال عليه، ويميل بنا إلى الإصغاء إليه، ويدلنا على حسن معاملته، والقوة على النفاذ في طاعته، وأن يجعلنا من جملة من ضمن أن يحرسهم من غائلة الشيطان، حيث قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وجعلهم الشيطان مثنوية اليمين حيث قال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) .
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب ﵀: كنت قد أشرت فيما أمليته من كتاب " تحقيق البيان في تأويل القرآن " إلى الفرق بين أحكام الشريعة ومكارمها، فإن المكارم المطلقة هي اسم لما لا يتحاشى من وصف الباري جل ثناؤه بها أو
بأكثرها) نحو الحكمة، والجود، والحلم، والعلم، والعفو، وإن كان وصفه تعالى بذلك على حد أشرف مما يوصف به البشر، وإن الأحكام تتناول ذلك وتتناول) العبادات.
وإنه باكتساب المكرمة يستحق الإنسان أن يوصف بكونه خليفة اللَّه المعني
بقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وبقوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) .
1 / 59
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.
وأشرت أن خلافة الله ﷿ لا تصح إلا بطهارة النفس، كما أن أشرف العبادات لا تصح إلا بطهارة الجسم.
وقد استخرت اللَّه الآن، وعملت في ذلك كتابًا ليكون ذريعة إلى مكارم الشريعة، وبينت كيف يصل الإنسان إلى منزلة العبودية التي جعلها الله تعالى شرفًا للأتقياء،
وكيف يترقى عنها إذا وصلها إلى منزلة الخلافة التي جعلها اللَّه تعالى شرفا للصديقين والشهداء.
فبالجمع بين أحكام الشرع ومكارمه علمًا، وإبرازهما عملًا يكتسب العلا،
ويتم التقوى، ويبلغ إلى جنة المأوى.
ورغبني أيها الأخ الفاضل - وفقك اللَّه وأرشدك، وأعاذك من شر نفسك - في تصنيفه ما رأيت من تشوقك أن تزين ما وليه اللَّه من حسن خَلْقك وخُلُقك بما تتولاه من تحسين أدبك، وإكمال مروءتك، فما أجدر رواك الصبيح أن تحصِّل وراءه الرأي الصحيح.
حتى تصادف أُترجًّا يطيب معًا ... حملًا ونَورًا فطاب العود والورق
فما أقبح المرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبح نفسه جنة يعمرها بوم، وصرمة يحرسها ذئب، كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: أما البيت فحسنٌ وأما ساكنه فرديءٌ، وأن يكون باعتباره بكثرة ماله وحسن أثاثه ثورًا عليه حلى، فقد سمَّى بعضُ الحكماء الأغنياءَ الأغبياءَ تيوسًا صوفها درر، وحمرًا جلالها حبر، ودخل حكيم على رجل فرأى دارًا مستجدة، وفرشًا مبسوطة، ورأى صاحبها خلوًا من الفضيلة
1 / 60
فبزق في وجهه، فقال له: ما هذا السفه أيها الحكيم، فقال: بل هذه حكمة، إن البزاق ليرمي إلى أخس مكان في الدار، ولم أر في دارك أخس منك، فنبه بذلك على دناءة الجهل، وأن قبحه لا يزول بادخار القَنيَّات.
فكن أيها الأخ عالمًا، وبعلمك عاملًا، تكن من أولياء اللَّه الذين (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، واحذر الشيطان أن يسبيك، ويغريك بأعراض
الدنيا وزخارفها، فيجعلك من أوليائه ويخوفك بوساوسه، كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) .
واعلم أنه قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنسانًا، أو إنسانًا وقد أمكنه أن يكون ملكًا، وأن يرضى بقنية معارة، وحياة مستردة، وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياةً مؤبدة:
فلم ير في عيوب الناس شيء كنقص القادرين على التمام
وإن أردت أن تعرف بقاء العلماء الأتقياء فاعتبر ما قال أمير المؤمنين ﵁: " مات خزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة ".
1 / 61
وإن أردت أن تشاهدهم في الجنة يتنعمون فاستعد حال حارثة حيث قال للنبي ﷺ: أصبحت مؤمنًا حقا.
فقال رسول اللَّه ﷺ: " لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك، فقال في جملة جوابه: وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون، فصدقه ﷺ فقال له: " عرفت فالزم ".
ولا يخدعنك عن طلب ذلك وإدراكه (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩)،
فقد وصفهم اللَّه تعالى بالصمم والعمى إذ قال: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) .
ثم ذمهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)،
ثم فرق بينهم وبين من ضادهم فقال: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤) .
فأخبر اللَّه تعالى أنهم لا يسمعون ولا يبصرون لفقدان سمع القلب وبصره اللذين بهما تنال حقائق المسموعات والمبصرات.
وهذا الكتاب يشتمل على سبعة فصول وأبواب.
1 / 62
ذكر الفصول وأنواعها:
الفصل الأول: في أحوال الإنسان وقواه وفضيلته وأخلاقه:
(وتحته مباحث): مثل
أهل الدنيا وما رشحوا له - ماهية الإنسان وكيفية تركيبه - في قوى الإنسان - تعاون القوى الروحانية وكيفية إدراكها - بيان فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات - ما به يفضل الإنسان - كون منزلة الإنسان بين البهيمة والملَك - ما لأجله أوجد الإنسان -
السياسة التي بها يستحق خلافة اللَّه تعالى ﷿ الفرق بين مكارم الشريعة وبين العبادة وعمارة الأرض - كون طهارة النفس شرطًا في صحة خلافة اللَّه تعالى وكمال عبادته -
فيما يفزع إليه في طهارة النفس - بيان منازعة الهوى والعقل - الفرق بين ما يسومه الهوى وما يسومه العقل - فى ذكر الخاطر الذي يعرض من جهة العقل والهوى -
حصول الخلق المحمودة بطهارة النفس - الفرق بين الطبع والسجية والخلق والعادة والهوى - إمكان تغيير الخلق - صعوبة إصلاح القوة الشهوية وما في هذه القوة من النفعة والمضرة، ازدياد الإنسان في الفضائل والرذائل بتعاطيها - الفرق يين ما يحمد ويذم من التخلق - سبب اختلاف الناس فىِ أخلاقهم - وجوب اكتساب الفضيلة المحمودة - أنواع نعم اللَّه تعالى الموهوبة والمكسوبة - حاجة بعض هذه الفضائل إلى بعض - الفضائل المضيفة بالإنسان - الفضائل الجسمانية - ما يتولد من الفضائل النفسية - الفضائل التوفيقية - ما في تلازم الفضائل النفسية بعضها بعضًا -
البواعث على فعل الخير وتحري الفضائل - الموانع من تحري الفضِائل - الارتقاء في درجات الفضائل والانحدار عنها إلى أقصى الرذائل - بيان عادة الله في تهذيب الذين ترددوا في الرذائل حتى فسدت أخلاقهم - أصناف الناس.
1 / 63
الفصل الثاني: في العلم والعقل والنطق وما يتعلق بها وما يضادها
(وتحته):
فضيلة العقل - أنواع العقل - المكتسب من العقل الدنيوي والأخروي - منازل العقل واختلاف أساميها بحسبها - جلالة العقل وشرف العلم - الفرق بين العلم والعقل وبين العلم
والمعرفة والدراية والحكمة - توابع العقل - ثمرة العقل من معرفة اللَّه تعالى الضرورية والمكتسبة وغاية ما يبلغه الإنسان من ذلك - وجوب بعثة الأنبياء ﵈ وقلة الاستغناء عنهم - ما يعرف به صحة النبوة - كون العقل والرسل هادين الخلق إلى الحق - تعذر إدراك العلوم النبوية على من لم يتدرب في العلوم العقلية - الإيمان والإسلام والتقوى والبر - في الإيمان - في أنواع الجهل - في معنى قول النبي ﷺ: " الإيمان بضع وسبعون بابًا " - كون العلم مركوزا في نفوس الناس - حصر أنواع المعلومات - ما يعرف به فضيلة العلوم - استحسان معرفة أنواع العلوم - معاداة بعض الناس لبعض العلوم -الحث على تناول البلغة من كل علم والاقتصار عليه - أحوال الناس في استفادة العلم وإفادته - ما يجب على المتعلم أن يتحراه مع المعلم - ما يجب أن يتحراه المعلم مع المتعلمين منه - وجوب منع الجهلة عن حقائق العلوم والاقتصار بهم على قدر أفهامهم -
وجوب ضبط المتصدين للعلم ومضرة إهمال ذلك - ذكر من يصلح لوعظ العامة - الحال التي يجب أن يكون عليها الواعظ - صعوبة المعيار الذي تعرف به حقائق العلوم - كراهية الجدال للعوام وذمه على كل حال - ما يجب أن يعامل به الجَدل المماحك -
الوجوه التي تقع فيها الشبهة والخلاف - بيان اختلاف الناس في الأديان والمذاهب - النطق والصمت - الصدق ومدحه والكذب وذمه - ما يحسن ويقبح من الصدق
والكذب - أنواع الكذب والسبب الداعي إليه - الذكر الحسن من المدح والثناء - الشكر - الغيبة والنميمة - الكلام المستقبح - المزاح والضحك - الحلف.
1 / 64
الفصل الثالث: فيما يتعلق بالقوى الشهوية
(وتحته):
الحياء - كبر الهمة - الوفاء والغدر - المشاورة - النصح - كتمان السر - التواضع والكبر - الفخر - العجب -
أنواع اللذات وتفاصيلها - ما يحسن تناوله من المطعم والمشرب وما يقبح -
ما يحسن تعاطيه من المنكح وما يقبح - ذكر العفة - القناعة والزهد - الورع.
الفصل الرابع: فيما يتعلق بالقوى الغضبية: ما ينبع من القوى الغضبية
الحميَّة - أنواع الصبر ومدحه - الشجاعة - أنواع الفزع والفرق بين ما يحمد منها وما يذم -
مداواة الغم وإزالة الخوف - أحوال الناس في محبة الموت والاحتيال لقلة المبالاة به - السرور والفرح - العذر والتوبة - الحلم والعفو - ثوران الغضب وفضل كظمه - الغيرة والجُوار - الغبطة والمنافسة والحسد.
الفصل الخامس: في العدل والظلم والمحبة والبغض
(وتحته):
ذكر العدالة وفضيلتها - أنواع العدالة وما يستعمل ذلك فيه - ما يحسن ترك العدالة فيه - ذكر الظلم - الأسباب التي يحصل منها الأضرار - ذكر المكر والخديعة والكيد والحيلة -
ماهية المحبة وأنواعها - فضيلة المحبة - فضيلة الصداقة - ذكر المحبب في الناس - الحث على مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار - فضيلة التفرد عن الناس ورذيلته - العداوة والغدر.
الفصل السادس: فيما يتعلق بالصناعات والمكاسب والإنفاق والجود والبخل
(تحته):
حاجة الناس في اجتماعهم إلى التظاهر - تسخير اللَّه لهمم الناس للصناعات المختلفة وعناية كل أحد بما يتحراه - كون الفقر وخوفه سبب نظام أمر الناس. مناسبة الأبدان للصناعات - وجوب التكسب - مدح السعي وذم الكسل - تقاسيم الصناعات وفضيلة بعضها على بعض - في أن أصول الصناعات مأخوذة عن وحي - في بيان الناض المتعامل به وبيان حكمة اللَّه تعالى فيه - مدح المال وذمه - ذكر المال والأدب
في اقتنائه والوجوه التي منها يحصل - سبب إخفاق العاقل وإنجاح الجاهل - تحقيق كون المال في أيدي الناس - تفاوت أحوال المتناولين للأعراض الدنيوية - في بيان ما ورد من
1 / 65
الآيات المتفاوتة الظاهر في شأن الدنيا - أحوال الناس في مراعاة أمور الدنيا والآخرة -
بيان حال من يجوز له الاستكثار من أعراض الدنيا ومن لا يجوز له ذلك -
ما ينال أرباب الدنيا من العقوبات الدنيوية - ذكر الإنفاق الممدوح والإنفاق المذموم - حقيقة السخاء والجود والشح والبخل - فضيلة الجود وذم البخل - أنواع الجود والمجود به.
الفصل السابع: في ذكر الأفعال:
(وتحته):
أنواع الأفعال - الفرق بين الفعل والعمل والصنع - أنواع الصناعات - الأفعال الإرادية وغير الإرادية - ما يستحق به من الأفعال اللوم وما لا يستحق به ذلك - الأسباب التي يمكن نسبة الفعل إليها.
1 / 66
الفصلُ الأول في أحوال الإنسان وقواه وفضيلته وأخلاقه
1 / 67
مثل أهل الدنيا وما رشحوا له
الإنسان في هذه الدار كما قال أمير المؤمنين عليٌّ ﵀: الناس سفر، والدنيا دار ممر لا دار مقر، وبطن أمه مبدأ سفره، والآخرة مقصده، وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطاه، يسار به سير السفينة براكبها، كما قيل: شعر.
رأيت أخا الدنيا وإن كان خافضًا ... أخا سفر يُسرى به وهْوَ لا يدري
وقد دعي إلى دار السلام كما قال تعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)،
وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)،
وتوجه به إليها نحو أشرف الزهرات وألذ الثمرات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)،
بل إلى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) .
لكن لما كان الطريق إليها مضلة مظلمة قد استولى عليها أشرار ظلمة، جعل اللَّه تعالى لنا من العقل الذي ركبه فينا وكتابه الذي أنزله علينا نورًا هاديًا، ومن عبادته التي أمرنا بها حصنا واقيا
فقال في وصف نوره: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ)
، فجعل المصباح مثلًا للعقل، والمشكاة مثلًا لصدر المؤمن، والزجاجة لقلبه،
والشجرة المباركة وهي الزيتونة للدين، وجعلها لا شرقية ولا غربية، تنبيها أنها مصونة عن التفريط والإفراط، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)
، والزيت للقرآن، وبين أن القرآن يمد العقل مدَّ الزيت المصباح، وإنه يكاد
يكفي لوضوحه وإن لم يعاضده العقل، ثم قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، أي
1 / 69
نور القرآن ونور العقل، وبين أنه يخص بذلك من يشاء. وقال في وصف ما جعله اللَّه لنا من الحصن: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، أي المتحصنين بعبادتي فمن لم يقم برعاية نوره وحماية حصنه عمه في دجاه، وتمكن من استغوائه
عداه. كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)، فمن لم يتزود من دنياه زاده كما أمر اللَّه تعالى بقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، جاءت رحلته فيُسْترجع منه ما أعير من جسده، وذات يده ليتحسر حين لا يغنيه تحسره، ويقول: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا)، ويقول: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، فحينئذ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، وأيضًا فإن الإنسان من وجه في دنياه حارث، وعمله حرثه، ودنياه محرثته، ووقت موته وقت حصاده، والآخرة بيدره، ولا يحصد إلا ما زرعه، ولا يكيل إلا ما حصده، ولهذا قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)،
وكما أن في البيدر مكاييل وموازين وأمناء وحفاظا ومشاهدين، وكتابًا، كذلك في الآخرة مثل ذلك، كما قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)
1 / 70
وقال: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)
وقال: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) .
وكما أن في البيدر تذرية وتمييزًا بين النقاوة والحطام كذلك في الآخرة تمييز بين الحسنى والآثام، كما قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧)
وقال في أعمال الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)
وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٨)
وقال: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)
فمن عمل لآخرته بورك في كيله ووزنه، وحصل له منه زاد الأبد كما قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩)
ومن عمل للدنيا خاب سعيه، وبطل عمله كما قال اللَّه تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف بل كالدفلي والحنظل في الربيع يرى غض الأوراق حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلًا، وإذا أحضر مجتناه البيدر لم يفد نائلًا، ومثل أعمال الآخرة
كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء فإذا جاء وقت القطاف والاجتناء أفادتك زادًا، وادخرت منها عدة وعتادًا. وإلى نحوها أشار تعالى بقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦)
1 / 71
ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر خبيثة الباطن نهى اللَّه تعالى عن الاغترار بها
فقال: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) .
واللَّه تعالى يؤيد بفضله من يشاء وهو الباري.
ماهية الإنسان وكيفية تركيبه
الإنسان مركب من جسم مدرك بالبصر، ونفس مدركة بالبصيرة، وإليهما أشار تعالى بقوله: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢)
فالإشارة بالروح إلى النفس، وإضافته تعالى الروح إليه تشريفًا لها، وعنى بها النفس المذكورة في قوله تعالى: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)، ووجود النفس في
الإنسان لا يحتاج إلى أن يدل عليه لوضوح أمره، بل ينبه الجاحد لها والغافل عنها بأنها هي التي بحصولها في الجسم تحصل الحياة والحركة والحس والعلم والرأي والتمييز،
ويكون الجسم متصرفًا بها وحاملًا ومستحسنًا ومستطابا ومحببا، وبفقدها عدم هذه الأشياء فيصير جيفة يحتاج إلى عدة تحمله، وهي محل الأعراض الروحانية كالجسم
1 / 72
في كونه محلَا للأعراض الجسمانية، وقد حث اللَّه تعالى على التدبر في النفس والتفكر فيها، وجعل معرفتها مقرونة بمعرفته تعالى في قوله: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)
وقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .
وكان يقال في الأم السالفة: من أنكر الباري رجم لكونه جاحدًا، ومن أنكر النفس رجم لكونه جاهلًا، وقيل: كان في كتب اللَّه المنزلة: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك، وقال ﷺ: " أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه "، بل قد قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)، تنبيهًا لهم أنهم لما نسوه تعالى دلَّ
نسيانهم إيَّاه على نسيانهم لها.
وقالت الحكماء: قد ركب اللَّه الإنسان تركيبًا محسوسًا معقولًا، على هيئة العالم وأوجده شبه كل ما هو موجود في العالم حتى قيل: الإنسان هو عالم صغير ومختصر للعالم الكبير؛ وذلك ليدل به على معرفة العالم، فيتوصل بهما إلى معرفة صانعهما، فغاية معرفة الإنسان لبارئه تعالى أن يعرف العالم، فيعلم أنه موجَد، وأن له موجِدًا ليس مثله، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا.
في قوى الانسان:
قد جعل اللَّهْ للإنسان خمس قوى، يدل على وجودها فيه ما يظهر من تأثيراتها:
قوة الغذاء: وبها النشأة والتريية والولادة.
1 / 73
وقوة الحس: وبها الإحساس واللذة والألم.
وقوة التخيل: وبها تصور أعيان الأشياء بعد غيبوبتها عن الحس.
وقوة النزوع: وبها يكون الطلب للموافق والهرب من المخالف، والرضا والغضب والإيثار والكراهة.
وقوة التفكر: وبها يكون النطق والعقل والحكمة والروية والتدبير والمهنة والرأي والمشورة.
فأما القوى المدركة منها فخمس: الحواس الخمس، والخيال، والفكر، والعقل، والحفظ.
فأما الحواس فلكل واحد منها إدراك مخصوص:
فللمسِّ عشر إدراكات: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، واللين والخشونة، والصلابة، والرخاوة، والثقل والخفة.
وللذوق سبع: الحلاوة، والمرارة، والملوحة، والحمو ضة، والحرافة، والعفوصة، والتفاهة.
وللشم اثنان: الطيب، والنتن.
وللسمع اثنان: الصوت البسيط، والكلام المركب منه.
وللبصر أحد عشر إدرا كًا: النور، والظلمة، واللون، والجسم، وسطحه، وشكله ووضعه، وأبعاده، وحركاته، وسكناته، وأعداده.
فأدون هذه الإدراكات اللمس ثم الذوق ثم الشم، فالنفس لا تكاد تستعين بها إلا فيما يعود نفعها إلى صلاح الجسم.
1 / 74
وأرفع الإدراكات العقل ثم الفكر ثم التخيل ثم الحس، إلا أن العقل والفكر يدركان الأشياء الروحانية.
فأما السمع والبصر فمتوسطان، لأنهما يخدمان النفس والجسم، وخدمتهما للنفس أكثر، ويدركان الأشياء الجسمانية.
والتخيل متوسط بين العقل والفكر وبين السمع والبصر، فيأخذ تارة من
السمع والبصر ويسلم إلى العقل والفكر وذلك في حال اليقظة، ويأخذ تارة من العقل والفكر ويسلمه إلى السمع والبصر وذلك في حال النوم.
ولما كان مبدأ تأثير هذه القوى من الدماغ قيل: مسكن الفكرة وسط الدماغ، ومسكن الخيال مقدَّمُه، ومسكن الحفظ والذكر مؤخَّره. ولما كان قوام الدماغ، بل قوام الجسم كله من القلب الذي منه منشأ الحرارة الغريزية صار في كلام الناس يعبَّر عن هذه القوى تارة بالدماغ فيقال: لفلان دماغ إذا قويت منه هذه القوى المدركة، وفلان خالي الدماغ إذا ضعفت فيه هذه القوى. ويعبر عنها تارة بالقلب والثاني أكثر، وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) .
ولما كان أكثر إدراك الحقائق بهذه القوى المدركة، وكانت الفكرة خادمة للعقل، والتخيل خادفا للعقل والفكر تارة، وللسمع والبصر تارة خص اللَّه بالذكر القلب - وهو أحد الطرفين - والسمع والبصر وهو الطرف الآخر؛ ولذلك عظم اللَّه المنَّة على الإنسان
1 / 75
بإعطائه إيَّاه هذه الثلاثة، وحمد من استعملها، وذم من أهملها فقال (سبحانه): (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)،
وقال في ذم من لا ينتفع بها: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩)
وقال: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)
أي لا يفهمون.
المعنى أنهم لا يسمعون الأصوات أو لا ييصرون الذوات، وجعلهم بكمًا من حيث إنهم لا يوردون معنى مستنبطًا بالفكر مدركًا بالعقل.
واعلم أن السمع والبصر كالأخوين يخدم كل واحد منهما صاحبه في إدراكه، فقد ينوب السمع عن البصر في إبلاغ القلب بما يأخذه عن اللفظ فيدرك في ساعة ما لا يدركه البصر في برهة، وينوب البصر عن السمع في إبلاغ القلب بمطالعة الكتب ما لا يدركه السمع في مدة سيما إذا كان المخاطب ناقص العبارة، أو غير متثبت في الكلام، أو دق المعنى وغمض عن الإفهام.
تعاون القوى الروحانية وحيفية إدراكها
القوى الروحانية متعاونات في إدراكهن لرسوم المعلومات، فإن الخيال يتصور عن المحسوس فتبقى فيه صورته الروحانية فينتقش بها كما تنقش الشمع بصورة الختم، ثم يأخذها الفكر، فيميز بعضها عن بعض بنور العقل، فيبحث عن خواصها ومنافعها، ومضارها، ثم يؤديه إلى القوة الحافظة، فإن أراد إبرازه قولًا سلط عليه القوة الناطقة
فيعبر عنه باللسان، وإن أراد إبرازه فعلًا سلط عليه القوة العاملة فتوجده الجوارح.
وقد ضرب بعض الحكماء مثلًا لهذه القوى يقرب منه تصور تأثيراتها فقال: إن
القوة الفكرة ومسكنها وسط الدماغ بمنزلة الملك يسكن وسط المملكة، والخيالية ومسكنها مقدم الدماغ جارية مجرى صاحب بريده، والحافظة ومسكنها مؤخر الدماغ جارية مجرى خازنه، والقوة الناطقة جارية مجرى ترجمانه، والعاملة جارية مجرى
1 / 76
كاتبه، والحواس جارية مجرى جواسيسه وأصحاب الأخبار الصادقي اللَّهجات فيما يرفعونه من الأخبار، فيلتقط كل واحد الخبر من الصقع الذي وكل به فيرفعه إلى صاحب البريد، وصاحب البريد يسقط منه ما يراه حشوًا، ويرفع الباقي صافيًا إلى حضرة الملك فيميزه ويعرف منافعه ومضاره، ويسلمه إلى خازنه إلى وقت الحاجة فحينئذ يتقدم بإخراجه.
قالوا: وكما أن للملك أفعالًا يستعين فيها بغيره، وأفعالًا ينفرد هو فيها بنفسه، والأفعال التي يتولاها بنفسه أشرف مما يفوضها إلى غيره، فكذلك للقوة المفكرة أفعال تفوضها إلى غيرها، وأفعال تختص هي بها، وهي الرؤية والفكر والاعتبار والتصور والقياس والفراسة، فهذه الأشياء تدبير الأمور، فبالفكر استخراج الغوامض، وبالاعتبار تحصيل التجربة، وبالقياس استنباط المجهول بتوسط المعلوم، وبالفراسة الاطلاع على الأسرار.
ونحو هذا المثل مما روي أن كعب الأحبار قال: " دخلت على أم المؤمنين عائشة ﵂
فقلت: الإنسان عيناه هاد، وأذناه قمع، ولسانه ترجمان، ويداه جناحان، ورجلاه بريد، والقلب ملك، فإذا طاب القلب طاب جنوده، فقالت: هكذا سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول.
1 / 77
بيان فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات
للإنسان فضل على الحيوانات كلها في نفسه وجسمه:
أما فضله في نفسه فبالقوة المفكرة التي بها العقل والعلم والحكمة والتمييز والرأي، فإن البهائم وإن كانت كلها تحس وبعضها يتخيل فليس لها فكر ولا رويَّة ولا استنباط المجهول بالمعلوم، ولا تعرف علل الأشياء وأسبابها.
وليس في قوتها تعلم الصناعات الفكرية، وإنما يتعلم بعضها بعض الصناعات المتخيلة وأقواها في ذلك الفيل والقرد.
وأما فضله في جسمه فباليد العاملة، واللسان الناطق، وانتصاب القامة الدالة على استيلائه على كل ما أوجد في هذا العالم، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)
وبقوله: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)
ولم يعن الصورة التخطيطية فقط، بل عناها والصورة المعقولة، ولتشريفه
تعالى إياه بذلك قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠) .
ومن زعم أن الإنسان خلق خلقة ناقصة عن الوحشيات من حيث إنه لم يكف
الملبس كما كفيته، ولم يعط سلاحًا في ذاته كما أعطي كثير منها، فنظره ناقص؛ إذ قد أعطي الإنسان بدل ذلك التمييز الذي يمكنه أن يتخذ به كل ملبس وكل سلاح حسب ما يريده، فيتناوله متى أراد، ويضعه متى أحب.
ثم لو أعطي الإنسان بعض الأسلحة التي أعطيتها الوحشيات لم يمكنه أن يستعمل غيره كالوحشيات، وأيضًا فلو أعطي ذلك لكان من الحق أن لا يعطى التمييز؛ لأنه حينئذ كان يستغني عنه فتبطل فائدته، وفعل الله تعالى منزه عن ذلك.
فإن قيل: وكيف قال تعالى: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)،
فاستضعفه
1 / 78