ولما رأوا أن المفاجئين لهم كثيرون وأنهم قد دهموهم من جميع الأنحاء آثروا الاحتشاد في دور الأمراء والتحرز فيها، وكان عددهم لا يزيد عن اثنين وستين رجلا وعدد الدروز زهاء ثلاثة آلاف ومعهم نزر من النصارى، وأطبقوا على الأمراء والنصارى من كل صوب، فثبت هؤلاء في موقف الدفاع يطلقون الرصاص بنخوة شديدة حتى ردوهم بعد أن أصابوا برصاصهم بعضا منهم، فاضطر الدروز أن ينقلبوا إلى ما وراء الجدران والأشجار متحرزين، ثم جعلوا يحرقون بيوت الموارنة في القرية ومعهم جماعة من النصارى، ثم إن أهل معلقة الدامور قدموا إلى عبيه ومعهم أربعون رجلا من الموارنة العبيهيين كانوا في المعلقة، فلما بلغوا دقون قصد الأربعون بعورتا فأحرقوها بعد أن بددوا شمل من كان بها من الدروز، ثم أتوا دقون فالتقاهم فريق من الدروز؛ فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، فانهزم النصارى بعد أن كان قد قتل منهم ثمانية رجال؛ فمنهم من ذهب إلى صيدا، ومنهم من ذهب إلى بيروت، وأما الحرب في عبيه فلبثت اثنتي عشرة ساعة، ثم ورد على الدروز من أبنائهم بأن نصارى المتن قد كسروا الدروز إلى قرب عاليه، وفي أثناء ذلك وصلت رسل من لدن الوزير وداود باشا فسكنت الحرب، أما عدد القتلى فكان ثمانية رجال من النصارى وثمانية وعشرين من الدروز، وقد نهبت الدروز دير الكبوجية وأحرقوه، وقتلوا واحدا من الآباء الفرنسيين كان مقيما به، وأحرقوا جثته وقتلوا معه شماسه وتلميذه وقسيسا مارونيا كان قد لجأ إلى ذلك الدير.
وبينما كان الدروز في عبيه مقيمين على حصر الأمراء والموارنة أتى قائد عسكر من دير القمر فأمر بإطراح الحرب، فسأله الأمراء أن يكف الدروز عن الحصار؛ فكفهم وأرسل ليستحضر لديه الأمير أسعد والأمير عبد الله، موعزا إليهما بأنهما إن لم يمثلا لديه عاون الدروز عليهما، فخرج الأميران إليه مسلمين فأخذ أسلحة جماعتهما.
وبعد يومين من ذلك أرسل القائد الأمراء وجماعتهم إلى صيدا مخفورين بنفر من عسكره، وما خرجوا من القرية حتى التقوا بالجنرال روز الإنكليزي قادما إليهم من بيروت يتبعه بعض الشيوخ من الدروز، فسألهم أن يسيروا معه إلى بيروت فساروا، وبعد ذلك ببضعة أيام انحدر الأمير موسى اللمعي من قرنايل إلى العربانية في جماعة من الدروز، وأحرق بعض البيوت من هاته القرية إلا أن أهلها من النصارى ثبتوا في موقف الدفاع حتى أتتهم نجدة من نصارى بعبدات، فاشتدت إذ ذلك الحرب بين الفريقين، فانهزمت الدروز إلى صليما؛ حيث تجمعوا وعادوا إلى المحاربة، فانهزموا أيضا ولجئوا إلى قرنايل ليحتموا بها، فلما رآهم النصارى المجتمعون حول هاته القرية من أهل العرقوب وكسروان هجموا على القرية هجمة عنيفة ففر الدروز منها، وقد قتل منهم عدد ليس بقليل، وتعقبهم النصارى حتى العبادية وأحرقوا مساكنهم في صليما والرأس وأرصون وقرنايل، ولما أيقن الدروز أن قوة النصارى في المتن كبيرة ذهبوا إلى المختارة، فقصد بهم الشيخ سعيد جانبلاط قرية سغبين، وحارب النصارى هنالك فانهزموا إلى زحلة بعد أن قتل منهم ثمانية رجال، وأما الدروز فلم يقتل منهم إلا أربعة، فأحرقت الدروز قرية سغبين وعادوا إلى المختارة، ثم ذهب بهم الشيخ سعيد المشار إليه إلى بكاسين وجزين، حيث جرت لهم عدة مواقع مع النصارى، وهنالك انتصروا فيها فهزموهم ونهبوا مساكنهم وأحرقوها، وقتل من النصارى الأمير حسن أسعد وثلاثون رجلا من أصحابه، فلجأت النصارى إلى الجبال فتبعتهم الدروز، وقتلوا منهم مائة رجل، وأما هم فلم يقتل منهم إلا ثلاثون رجلا، وبددوا شملهم، وأحرقوا كنائسهم.
وأما الشيخ ناصيف أبو نكد فأتى في ألفي مقاتل من أهل حوران إلى بانياس لينجد بهم أصحابه من الدروز، ولما بلغ خان حاصبيا لقيه هنالك الأمير سعد الدين الشهابي والي حاصبيا ومعه ولده الأمير أحمد، وفي تلك الليلة أتى جانب من رجال الشيخ حاصبيا ففرت النصارى يقصدون دمشق، وكانوا تسعمائة رجل وعليهم الأمير بشير علي من أمرائهم فدخل الدروز البلدة ونهبوها، وتعقب الشيخ ناصيف الأمير بشير علي، وبينما كان الشيخ في الطريق قدم ثمانون فارسا من الأكراد لمعونته، فاضطرمت نيران الحرب بينهم وبين النصارى فانهزم الأكراد، فبلغ ذلك الشيخ فزحف بعسكره على النصارى؛ فانهزموا إلى قرية القرعون فحوصروا هناك، ولما نفد زادهم وذخيرتهم عند المساء أركنوا إلى الفرار، فتبعهم العسكر وقتل منهم مائتين وخمسة وثلاثين رجلا، وأما العسكر فلم يقتل منه إلا ثمانية رجال. وذهب الشيخ برجاله إلى البقاع، ولم يجرؤ أن يدخل جبل لبنان لخوفه من إلقاء القبض عليه.
ثم إن أهل دير القمر لما أحسوا أن الدروز عازمون على مفاجأة القرية المعروفة بالدبية من قرى إقليم الخروب - وسكانها البستانيون أقرباء البستانيين في دير القمر - التمسوا من داود باشا أن يأذن لهم، إما بأن يذهبوا فيدافعوا عنهم وإما أن يوجه إلى القرية عسكرا يقيها، فأتى نفر من عسكر تلك القرية وباتوا فيها، وفي صبيحة اليوم التالي تركوها وما خرجوا منها حتى أحاطت الدروز بهم من كل صوب، وعدد أهلها البستانيين لا يتجاوز الثمانين مقاتلا ولكنهم شديدو البأس رابطو الجأش مشهورون بالإصابة بالرصاص، حتى إن الواحد منهم يستطيع أن يضع رصاصة موضع ما يريد، فهوجموا وهم في القرية فخرجوا إلى ظاهرها، ولم يكن بينهم وبين المحيطين بهم إلا أقل من مرمى الرصاص، فاضطرمت النيران بين الفريقين اضطراما شديدا، ولكنهم لقلة عددهم اضطروا أخيرا أن يخرجوا إلى مكان خارج القرية لا يبعد عنهم خمس دقائق مكتنف بالصخور ليتحصنوا فيه، وقد أدرك الدروز واحدا منهم في وسط القرية تأخر عن رفاقه الخارجين منها فقتلوه، ولم يقتلوا في تلك الوقعة من أهل القرية غير هذا الرجل، ثم أعيد القتال بأشد مما كان في الوقعة الأولى ولبث حتى الغروب، وهذه الفئة اليسيرة ثابتة في وجوه مئات.
ومن الغريب أنه كان في هذه الفئة شيخ من مشايخ بني نكد الدرزيين، يقال له الشيخ نجم، كان قد خرج عن ذوي قرباه قبل انتشاب الحرب؛ وذلك لعداوة وقعت له معهم، فأتى إلى تلك القرية وأقام بين أهلها، فلما كان ما كان بقي معهم يقاتل قتالا شديدا، ولما خرجوا إلى ظاهر القرية خرج معهم أيضا، وكان دائما يحرك النخوة ويستنهض الهمم، وكانوا حرصين عليه حرصهم على واحد منهم يحذرونه دائما مواقع الإصابة ويقذفون نيرانهم دفاعا عنه، وقد أصيب برصاصة في غير المقاتل جرحه جرحا بليغا. ولما فرغت الذخيرة اضطروا أن يخرجوا من معقلهم، ولم يستطيعوا أن يعودوا إلى القرية؛ لأنها كانت قد أضرمت النيران فيها، وبالجملة فإنهم قاتلوا قتالا كبيرا على فئة قليلة مثلهم أن تقاتل قتالا مثله، حتى إن الذين كانوا يهاجمونهم اعترفوا لهم بشدة البأس وثبات الجأش في مواقف القتال، ثم إن النصارى الذين كانوا في دير القمر من غير أهلها التمسوا من داود باشا أن يخفرهم بعسكر يبلغهم صيدا فصحبهم بنفر، ولما كانوا ما وراء نهر الحمام بالقرب من قرية يقال لها عانوت من إقليم الخروب؛ نكص عنهم الخفراء، فدهمهم أهل هذه القرية من المسلمين، وقتلوا منهم أربعة وثلاثين رجلا، ولم ينج منهم إلا اثنان أحدهما فر إلى صيدا والثاني رجع إلى دير القمر. وانحدرت فئة من النصارى المجتمعين في كفر سلوان إلى المتن فأحرقوا بيتين للدروز، فلما وقعت عين الوزير على الدخان غضب وأمر من لديه من الهوارة بإطلاق المدافع كفا للقتال، وأما النصارى المجتمعون في الرأس فعندما قرع آذانهم صوت البارود سار الأمراء ولد الأمير شديد بجماعة منهم لنجدة أولئك، وخرج بعض من النصارى الذين كانوا في الرأس لمقاتلة الدروز الزاحفين من العبادية إلى نهر الرأس، فانتشبت الحرب بين الفريقين فانهزمت النصارى وتبعتهم الدروز إلى بعبدات، فأحرقوا مساكن النصارى فيها، ثم رجعوا إلى العبادية وأتى الشيخ خطار العماد العرقوب فاشتد الدروز أزرها به، وفر من بقي في مقاطعته من النصارى إلى المتن وزحلة.
وأما الوزير فجمع بعضا من وجوه الدروز والنصارى وأمرهم بالتصالح فامتثلوا أمره، ثم استكتبهم عهدا باتقاء الفتن ففعلوا، وانصرف المقاتلون من الفريقين كل في سبيله، واستقدم الوزير الشيخ ناصيف النكدي إليه لأداء الطاعة، فمثل الشيخ بين يديه، وطيب الوزير نفسه فعاد إلى محله ، وجعل الوزير عسكرا يحجر بين النصارى والدروز، ثم عاد إلى بيروت.
ثم إن خليل باشا عندما بلغ الآستانة أقنع الصدر الأعظم بأن الفتن في لبنان إنما هي ناشئة عن وجود الأمير بشير المعروف بالكبير في الآستانة؛ ففي الحال أمر بنفيه إلى زعفران بول.
وفي أول تشرين الأول من تلك السنة، وهي سنة 1845، قدم من الآستانة شكيب أفندي مأمورا بتنظيم أحوال لبنان، وحل في بيروت فطلب من قناصل الدول أن ينذروا التابعين لهم من الإفرنج وأبناء العرب بأن يخرجوا من الجبل، وإلا فلا يسأل عما يلحق بهم من الضرر من العسكر ففعلوا وخرج المنذرون. وفي أثناء ذلك قدم السرعسكر نميق باشا من دمشق إلى زحلة في أربعة آلاف جندي نظامي، ثم أتى ببعض العسكر إلى حمانا، وكتب إلى شكيب أفندي أن يوافيه إلى المنصورية فالتقيا هنالك وتذاكرا في الأمر، ثم رجعا كل إلى مكانه.
أما الوزير شكيب أفندي فاستقدم إليه ببيروت وجوه لبنان؛ ليتحقق قضية الشيخ حمود الذي كان قد قبض عليه بأمر من الدولة العلية وجعل في سجن بيروت لقتله أحد الآباء الأجانب، فشهد شهود من الدروز ببراءة الشيخ من تهمة القتل؛ فأطلق سبيله، فأرسل القنصل الإفرنسي يخبر السفير بذلك، ثم سار نميق باشا بفريق من عسكره إلى بيت الدين، وأتاها شكيب أفندي ومعه الأمير حيدر اللمعي والأمير أحمد الأرسلاني وبعض من أربا المناصب، وأمرت كل مقاطعة أن تنتخب وكيلا عنها وتوجهه إلى بيت الدين؛ فاجتمع فيها بعض وكلاء، وأما الشيخ خطار العماد والشيخ ناصيف النكدي فقد أوجسا خيفة من الإلحاح في استقدامهما إلى بيت الدين فاختبآ، والشيخ سعيد جنبلاط اعتذر بعدم تمكنه من الحضور، ولجأ أخوه الشيخ نعمان إلى الجنرال روز الإنكليزي محتميا عنده، أما شكيب أفندي فاعتقل أرباب المناصب ببيت الدين، وانتزع منهم سلاحهم وأبعد عنهم خدمتهم، وأرسل إلى المختارة يستحضر الشيخ سعيدا قسرا، فاختبأ الشيخ في الشوف فنهب العسكر داره، ثم أمر شكيب أفندي بوجوه دير القمر أن يحضروا إليه ويدفعوا إليه أسلحة بلدتهم ففعلوا، وأمر الأمير حيدر والأمير أحمد الواليين أن يرسلا فيجمعا الأسلحة من أهل البلاد ففعلا، وسار أيضا لذلك جماعة من العسكر فسلكوا سبيل التضييق والتعنيف وأتوا بعض الشيء من السلب والنهب فكتب القناصل في ذلك إلى السفارات، أما الأمير ملحم حيدر وأولاده فغشيهم الخوف، فأتى الأمير قيس إلى بيروت سرا وتبعه والده والأمير أسعد قعدان وولده الأمير أفندي والأمير عبد الله قاسم، فسير القنصل الفرنسي الأمير قيسا إلى الإسكندرية ثم بقية الأمراء إلى هنالك أيضا، وحلوا في دار القنصل الجنرال بها، وقد اختبأ غالب أرباب المناصب من النصارى ووجوههم.
অজানা পৃষ্ঠা