ولما بلغ أهل أوروبا ما أحدق بإخوانهم الصليبيين من الخطر استنهضوا الهمم لبعث جديد، فكان ذلك سنة 1149، وكان البعث من رجال الفرنسيس والإنكليز وقادتهم من الروم، فهاجم فريقا منهم قوم من الأتراك في الطريق، وقتلوا عددا كبيرا، وحل بالباقين الذين ساروا في الساحل كل نوع من المصائب والرزايا، ولم يبلغوا القدس إلا بعد عناء طويل، ولم يجدهم بلوغهم إياها نفعا كبيرا؛ لأنه كان قد نبغ في ذلك الحين بطل اشتهر بالبسالة والإقدام، وهو صلاح الدين بن أيوب الكردي، وكان قد استولى على مصر وبسط سلطته على ما بين القاهرة وحلب من البلاد، مستخلصا عدة من المدن من أيدي الصليبيين، ولكنه لم يخرجهم منها معاهدا إياهم على الهدنة؛ فاتفق أن واحدا من فرسان الصليبيين جاز حد العهد، واغتنم السانحة بمرور والدة صلاح الدين بحاشيتها، فعرض لها في الطريق، وسلب منها الجواهر والحلي، وقتل بعضا من بطانتها؛ فهاج ذلك غضب ابنها، فزحف بجيش جرار وحارب الإفرنج عند طبرية وكسرهم، وأسر ملكهم (كاي اللوسياني ) وكثيرا من الوجوه والأعيان، واستولى على يافا وصيدا وعكة، ثم على بيت المقدس، وكان ذلك سنة 1187.
ولما كانت سنة 1189 تألف في أوروبا بعث ثالث من جنود كثيرة، وقادة هذا البعث كانت من أعاظم القادة في أوروبا في تلك الأيام؛ فكان فردريك برباروس قيصر ألمانيا، وفيليب أوغوست الثاني ملك فرنسا، وريشارد كوردوليون ملك إنكلترة، وقد غرق فردريك وهو يقطع نهرا صغيرا عند قونية من آسيا الصغرى، فوقع الفشل في قومه؛ فارتد منهم من ارتد إلى وطنه، وسار الباقون مع ابنه فردريك دوسوابيا، فتعاون هذا مع ملك فرنسة وملك إنكلترة على حصار عكة حتى أخذوها، ووقع نزاع بين ملوك الإفرنج أدى إلى تفريق الكلمة والعجز عن الاستيلاء على أورشليم، فعاد ملك فرنسة إلى بلاده وعاهد ريشارد الإسلام على أن يتجاوزوا للصليبيين عما بين صور ويافا من الثغور، وأن تبقى الأماكن المقدسة في بيت المقدس وغيره مصونة لا تمس بأذى البتة. وفي سنة 1203 جهز بعث رابع ولكنه لم يتعد تخوم القسطنطينية، وكان من نتائج أعماله أن آل أمر الصليبيين إلى الانحطاط والوهن. ثم في سنة 1228، بلغ فردريك الثاني ملك ألمانيا فلسطين وسورية، وكان ناصر الدين بن سيف الدولة يقاتل صاحب دمشق، فعاهد ناصر الدين فردريك على أن يكون بيت المقدس وغيره في يد النصارى، وأن النصارى والمسلمين يقومون فيه بأمر عبادتهم بلا ممانعة ولا اعتراض، ولكن فردريك كان قد غشيه حرم البابا، فلبس بيد نفسه تاج الملك على بيت المقدس بدون احتفال في الكنيسة؛ فأنكر ذلك عليه النصارى وقسيسوهم وكرهوه من أجل الحرم، فلما رأى نفسه من المغضوب عليهم من أبناء دينه عاد إلى بلاده.
ونبغ في ذلك الحين جنكز خان، وسطا على الأعراب والتتر والأعاجم، فدوخ البلاد وأقلق العباد؛ ففر من وجهه كثيرون، وكان في جملتهم قبائل خوارزم، فغشوا سورية بالمضرة والأذى، وفتحوا بيت المقدس وسلبوا ما فيه من ذخائر النصارى واستحقروها. وحدثت معركة شديدة بينهم وبين الإفرنج عند غزة، فلم يبق بيد النصارى إلا عكة وبعض الثغور، ولما ذاع ذلك في أوروبا ثارت النخوة في نفس لويس التاسع ملك فرنسا فأتى بحرا إلى مصر، ولكنه أسر هناك مع كثير من رجاله؛ فافتدى نفسه وافتدى كبار قومه، ثم سار بالباقين إلى فلسطين ومنها عاد إلى أوروبا.
ولما استأثر المماليك بالسلطة على الدولة الكردية زحف الملك الظاهر بيبرس البندقداري بجيش جرار على فلسطين، وكان أمر الإفرنج قد وهن فيها، فاستولى على المدن وفتك بالنصارى فتكا ذريعا وأسر منهم، ووقعت أنطاكية في قبضة يده، ثم أتى الملك الناصر محمد بن قلاوون في جيش كبير من مماليك مصر يبلغ عددهم نحوا من مائتي ألف مقاتل، وشدد على الإفرنج في مرج بن عامر فكسرهم، ودانت سورية بجملتها للإسلام.
إننا قد أثبتنا ما تقدم من أعمال الصليبيين وغيرهم من الأقوام في أراضي سورية إثباتا مجملا، مراعاة للانتساق التاريخي من تسلسل الحوادث وارتباطها، فإن القبائل العربية التي عمرت القسم الجنوبي من لبنان قد عززها خلفاء الإسلام وعمالهم لمقاومة الصليبيين ومحاربتهم وحماية الثغور منهم، وكذلك عززوا من كان في شمالي لبنان من تركمان وأكراد. قال المغفور له صاحب الدر المنظوم في صفحة 245: «وسنة 1299 تولى التتر دمشق وغزة والقدس وبلاد الكرك وجميع البلاد الشامية، وكان ملكهم قازان بن راغون بن أبغا بن هولاكو المسيحي صاحب المغول، ثم ارتحلوا عنها إلى بلدانهم، فرجع إلى ولايتها الملك الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون، الذي تولى الملك سنة 1293 بعد أخيه الملك الأشرف المذكور، وسنة 1302 ترك الإفرنج رواد، وهي السنة التي فيها حارب مقدمو الموارنة جيوش الإسلام عند جبيل وما يليها لما بلغهم قدومهم إليها وانهزام يوحنا أميرها ليلا مع أهلها بحرا في السفن - كما قال ابن القلاعي في تاريخه - وقتلوا حمدان قائد جيوشهم وهزموهم وغنموا أمتعتهم، وكان حينئذ عدد المقدمين ثلاثين مقدما، وعسكرهم أربعة وثلاثين ألفا على عهد الناصر محمد بن قلاوون الذي في زمانه حاصر جمال الدين أقوش الأفرم
39
نائب دمشق بلاد كسروان سنة 1307 بخمسين ألفا، وفتحها من جهتها الشمالية فدعيت فتوحا، وأخربها وهدم كنائسها وأديارها وجعلها قاعا صفصفا، وأحل التركمان بأمرائهم بيت عساف في سواحلها محافظة عليها من الإفرنج الذين كانوا حينا فحينا يأتون بحرا ويغزون ثغور بر الشام، وأيضا فإن السلطان سليما وضع الأكراد في الكورة سنة 1558.
يتبين مما مر أن القسم الشمالي من لبنان كان في صدر حكم الرومان أسبق إلى العمران من القسم الجنوبي الذي لم يكن العمران فيه إلا بعد قدوم بعض القبائل العربية إليه ممن تقدم ذكرهم وغيرهم ممن لم يذكروا، وقد انضم إلى هاته القبائل بعض الجماعات من أصول مختلفة، كما سيتبين ذلك عند الكلام على أصول اللبنانيين قبيلة قبيلة وبيتا بيتا.
إن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذجح بن سعد بن لحي بن تميم بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن امرئ القيس المحرق بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن نمارة بن مالك - الملقب بلخم - بن فهم بن أوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيدان بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن عمرو - المسمى قحطان - بن عدي المسلسل من إياد بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع ابن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل. قد ارتفع شأنه بين قبيلته، وولد له ولد فسماه باسم قبيلة أجداده تنوخ.
ولما مات قحطان صارت الإمارة إلى ابنه تنوخ من بعده، وإلى تنوخ هذا نسبة الأمراء التنوخيين القيسيين في لبنان، فتنوخ - فيما رواه صاحب أخبار الأعيان - ولد جمهر
অজানা পৃষ্ঠা