وقد كان بين الدروز انقسام قديم تناول ما جاورهم من الطوائف، وهو إلى قيسي ويمني، فكان من القيسية الأمراء التنوخية والمعنية، وكان من اليمانية الأمراء آل علم الدين، وكان الأمراء الأرسلانيون أميل إلى اليمانية منهم إلى القيسية، ومثل هذا الانقسام كان في عرب الأندلس، وسبب حروبا كثيرة هناك وأسال جداول من الدماء بين القيسية أو المضرية واليمانية أو القحطانية.
وقد نشأت عن هذا الانشقاق فتن كثيرة في لبنان وأطراف سورية، وانتهى ذلك في واقعة عين دارة، حيث اضطرب حبل اليمانية ورحل قسم منهم من البلاد فتلاشى الانقسام، ولما كان الحكام في ذلك الوقت لا يمكنهم الحكم بغير الانقسام أخذوا يهيئون أسباب انقسام آخر، ولم يزالوا إلى زمن الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد، وكانا في عصرهما حائزين نفوذا تاما، فانقسمت البلاد إلى قسمين، سمي أحدهما بالجنبلاطي والثاني باليزبكي، فالجنبلاطي يرأسه آل جنبلاط واليزبكي يرأسه آل عماد منذ ذلك الوقت.
ومن العشائر المعدودة في رؤساء اليزبكية آل تلحوق وآل عبد الملك، وبقي هذا الانشقاق مشتدا والحكام في لبنان يقاومون هذا الحزب بذلك الحزب، حتى إذا اشتدت شوكة هذا رجعوا إلى مصالحة ذاك وعكسوا القضية حتى فشا انقسام آخر بين عامة الدروز وهو الصمدي والشقراوي؛ وذلك أنه يوجد عشيرتان في قرية عماطور يقال للواحدة منها: بنو عبد الصمد، وللثانية: بنو أبي شقرا. وهما متكافئتان في القوة وفي أكثر الأحوال، وقد حصلت بينهما فتن ومشاغبات، ولا تزال المناظرة بينهما، فانقسم الأهالي بهذا السبب إلى قسمين شقراوي وحمدي، وتغلب هذا الانقسام على اليزبكي والجنبلاطي، ولكن عاد الانقسامان إلى واحد تقريبا؛ لأن أكثر الحزب الصمدي هم يزبكية وأكثر الحزب الشقراوي هم جنبلاطية.
ولم تنحصر هذه الفرق في الدروز وحدهم، بل تتناول من جاورهم من المسلمين والنصارى، فتجد هذا الميل في كل محل من جنوبي لبنان وأواسطه، وفي وادي التيم شيء منه، أما دروز حوران وصفد فلا يعلمون هذا الانقسام.
وللدروز محافظة عظيمة على الأنساب والدرجات؛ فتجدهم طبقات، كل طبقة لا تزوج الطبقة التي دونها، ولم ينحصر هذا في مشايخهم بل تراه في عامتهم. فقد يمضي مئات من السنين على عائلتين متساكنتين في محل واحد ولا تزوج إحداهما الأخرى، والسبب في ذلك كون إحداهما أشرف أصلا من الأخرى، وإذا خالف أحد أفراد تلك العائلة مشرب أهله وأنكح من ليس من طبقتهم تبرءوا منه ولم يعتبروه واحدا منهم، كذلك التقدم في الاجتماعات والمشي والتوقيع. وكتابة الأسماء في الدفاتر السلطانية له قواعد عندهم مرعية أكثر من غيرهم لا يتسامحون فيها، فتجد كل فيئة عارفة حقها لا تعتدي على من فوقها، ولا تدع من تحتها يعتدي عليها، والتقدم بعد الأمراء هو للمشايخ الجنبلاطيين، ثم إلى المشايخ العماديين، ثم للنكديين، ثم للتلاحقة، ثم للملكية، ثم لبني العيد - وهؤلاء هم أصحاب المقاطعات. ثم يبتدئ المشايخ الذين ليسوا بأصحاب عهدة أي إقطاع وهم طبقات أيضا، وينتهي ذلك إلى العامة، وقد ألغيت امتيازات أصحاب الإقطاعات بحسب نظام لبنان، وقد صار الحكم للقانون، وأما في حوران فلا عبرة بالأنساب في الغالب، والدروز هناك تقريبا كلهم أكفاء؛ فتجد ابن الأطرش من أعظم مشايخهم يتزوج من العامة ويزوجهم، والسبب فيه عدم قدمية عيال الدروز في حوران وأن مركز مشايخهم الاجتماعي إنما حصل من عهد قريب بالتغلب والقوة. وأشهر عشائر الدروز في حوران: بنو الأطرش، ثم بنو عامر، ثم بنو أبي عساف، ثم بنو هنيدة، ثم بنو نصار، ثم بنو عزام ... إلخ.
أما ديانة الدروز فقد اختلفت فيها الأقوال، والراجح أنها طريقة من طرق أهل الشيعة، والدروز يعترفون أنهم خرجوا من الشيعة، ويقال: من الشيعة السبعلية؛ أي: أصحاب الأئمة السبعة. ولا شك أن هذا المذهب فرع من التشيع؛ لأنه ما ظهر إلا في أيام الخلفاء الفاطميين في مصر، وأن روحه هو التعظيم لآل البيت النبوي، وعلى الخصوص فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وقال بعضهم إنها طريقة احتوت على بعض آراء فلسفية وأصول حكمية امتزجت بعقائد إسلامية، وبالإجمال فهذه الفرقة متشعبة من الدرجة الإسلامية التي تعددت أغصانها وكثرت فروعها، وقد نال الدرزية في بداية ظهورها اضطهاد كبير، وتعقب الحكام أبناء دعوتها في كل مكان. والظاهر أن ذلك الاضطهاد في ذلك الوقت اضطر أبناءها إلى الاعتصام بالجبال واتخاذها مساكن لها، وكان هو السبب في كتمان مذهبها حتى صار الكتمان عند أبنائها قاعدة دينية، ويقال لهم: بنو معروف، وهم يقرون بالشهادتين ويقولون: نحن مسلمون. ويكرهون عبادة الأصنام كراهة شديدة، ونسبة عبادة العجل إليهم خطأ فاحش؛ فإنهم يؤمنون بأن الله إله واحد لا بداية له ولا نهاية، ويؤمنون باليوم الأخير وبالقدر خيره وشره، وأن الله تعالى عدل في أفعاله متصرف في ملكه وملكه، يفعل ما يشاء ويحكم كما يريد، ويعتقدون بأن القرآن الشريف قديم منزل، ولكنهم يخالفون أهل السنة في تفسير بعض آياته. وهم يحثون على العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والمسكين، ويحرضون على نيل المعارف وحسن السلوك والألفة، وللعقال فيهم فضائل بادية. وهم مأمورون باجتناب الكذب والقتل والفسق، والزنا والسرقة والكبرياء، والربا والغش، والغضب والحقد والنميمة، والفساد والخبث والحسد، وشرب الخمر والغيبة، وجميع الشهوات والمحرمات والشبهات، والتجافي عن الهزل والسخرية والهزء وجميع المضحكات، والامتناع عن الحلف بالله صدقا أم كذبا، والسب والقذف والدعاء على الناس بالمضرة. ومن قتل منهم قتيلا في غير حرب شرعية أو ارتكب الزنا فلا يمكن قبوله في المجالس أصلا إلا إذا تأكدت توبته، وتحققت ندامته، وزكت سيرته.
وليس لعاقل أن يخلو بامرأة ولا أن يرد تحيتها ما لم يكن بينهما ثالث، وكل عاقل أتى منكرا عزل عن مجلس العقال وبقي معزولا حتى تحققت توبته وندامته، وإذا مات أحد الجهال لا يجوز للعقال أن يزكوه علنا على المقبرة، ولا أن يستمطروا عليه الرحمة، وإذا مات عاقل مشتبه في تقواه أيضا امتنع العقال المتشددون عن طلب الرحمة له جهارا، وذلك كله فيما يظهر لأجل تحريض الناس على اجتناب المعاصي والتزام السيرة المرضية، وهم يؤمنون بالأنبياء وبالسيد المسيح منفيا عنه الألوهية والصلب. ومن جملة عوائدهم أنهم يوصون بأموالهم وأملاكهم إلى من شاءوا؛ ولذلك منحتهم الدولة العلية أن ينفذوا وصاياهم بقاض نصب لهم وهو الآن في لبنان الشيخ سعيد حمدان، وفي حاصبيا الشيخ حمد قيس، أما الوصية فالمصطلح عليه فيها أن يتلى صكها عند القبر بعد دفن الموصي على مسمع جميع الحضور، وهم في الغالب يوصون للذكور من أولادهم وأعقابهم، أما الإناث فيوصون لهن براتب يدفع إليهن إذا خلون من الزوج؛ ومن أجل ذلك يندر أن تكون امرأة منهم ذات ثروة عظيمة. وشعائرهم في الزواج والطلاق والصلاة على الجنائز والختان كشعائر المسلمين، ولكن جرت العادة عندهم أن لا يردوا طالقا، ولا يجمعوا بين زوجين، وقد أمروا بالصلاة والصيام وحفظ القرآن الشريف، وهذا ملخص ما نعلم من خبرهم. ولما كان الأمراء التنوخيون هم أشهر أمراء هذه الطائفة نبتدئ بذكرهم، فنقول ... (5) الأمراء التنوخيون القيسيون
إن الأمراء التنوخيين القيسيين في جبل لبنان ينسبون إلى تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذجح بن سعد بن لحي
33
بن تميم بن النعمان بن المنذر
অজানা পৃষ্ঠা