ولم تعد تدفعها النخوة والحماسة إلى الارتقاء إلى ما كانت عليه من السيادة والرفعة، وسرت النخوة في عروق مملكة صيدا؛ فهمت بدفع نير سلطة الآشوريين عن عنقها، وكان ملك الآشوريين حينئذ آسرحدون رقي منصة الملك سنة 680ق.م، وكان ملك صيدا عبد ملكوت؛ فلما أحس آسرحدون بما نواه ملك صيدا زحف إلى صيدا بجنوده، فحاصر المدينة بحرا وافتتحها عنوة، ففر عبد ملكوت وبعض قومه بسفنهم يعللون أنفسهم بالعود إلى صيدا بعد جلاء الآشوريين عنها؛ فتبعهم آسرحدون بسفن فينيقية، وأدرك الملك فقتله ودمر المدينة وجلا بعض أهلها إلى آشور، كما يتبين ذلك مما كتب على صفيحة من صفائح آسرحدون؛ وهو: «غزوت مدينة صيدون على ساحل البحر، وأهلكت سكانها، ودمرت أسوارها ومبانيها، وألقيت أنقاضها في البحر، وفر عبد ملكوت ملكها ليختفي من وجه سلطتي، فقبضته إلي وجعلت يدي على خزائنه من ذهب وفضة وحجارة كريمة، وجلوت إلى آشور عددا كبيرا من الرجال والنساء، وأخذت بقرا وغنما وركائب ودواب للحمل، وأقمت سكان ساحل سورية في أنحاء قاصية، وبنيت في وسط بلاد الحثيين مدينة سميتها دراسرحدون
14
ووطنت فيها القوم الذين قهرتهم في الجبال التي في جهة جبال مشرق الشمس، وأقمت عليهم أحد عمالي حاكما.»
وعدد في أثر آخر الملوك الذين أخضعهم، فكان في جملتهم: بعل ملك صور، وملكي أصاف ملك جبيل، وماتان بعل ملك أرواد. وصورة آسرحدون بادية على صخر عند نهر الكلب.
وفي أواسط القرن السابع خلعت صور سلطة الآشوريين وملكهم حينئذ آشور بانيبال، واشترك معها في العصيان بعض مدن فينيقية، فحاصر آشور بانيبال العصاة وقهرهم، ولبث حصار صور مدة سنين حتى اضطر أهلها أن يشربوا ماء البحر لنفاد مائهم، وقد كتب في إحدى صفائحه: «قد ذللت بعلا (ملك صور)، وجعلت نير سلطتي على عنقه، واتخذت بناته وأخوات أخيه إماء لي، ومثل لدي يا ملك ابنه خاضعا لي بتقادم لم يسبق إلي مثلها، ودفع إلي بنته وبنات إخوته رهينة فعفوت عنه وجعلته ملكا على البلاد.» أما ويكينلو ملك أرواد فانفرد بالمدافعة، ولكنه غلب أخيرا؛ فانتحر فرارا من وصمة العار بوقوعه بيد الآشوريين، فأسر آشور بانيبال أبناءه وهم ثمانية فقتل سبعة منهم واستحيى أكبرهم إذ بعل، وجعله على عرش أرواد، فلبثت بعد ذلك فينيقية طائعة لآشور بانيبال سائر مدة ملكه. ثم وقع بعد ذلك ما وقع من المحاربات بين الآشوريين والكلدان؛ مما أدى إلى خراب نينوى واستقرار الشوكة لبنوبلاسر الكلداني، وانقراض الدولة الآشورية، واقتسام ملك بابل وملك مادي لها، وكان ملك مادي حينئذ شيكسر حليف نبوبلاسر، غير أن نبوبلاسر لما رأى أن ملك مصر نكو قد بلغ بغزواته كركميش وخشي امتداد سلطته إلى ما بين النهرين، كما فعل سلفاؤه الملوك المصريون، ورأى من نفسه ضعفا عن إدارة الشئون بنفسه ضم إليه في الملك ابنه نبوكدونصر، واسمه عند العرب بختنصر، مستعينا به على مقاومة نكو ملك المصريين.
وفي سنة 606ق.م اجتاز بختنصر فينيقية يقفو أثر المصريين الذين انقلبوا على أعقابهم خاسرين، فاستسلمت المدن الفينيقية للكلدانيين، ثم اجتاز بختنصر سورية لإخضاع ملك يهوذا مرتين مرة في سنة 602 ومرة 599ق.م، وفي المرتين لم نر في الكتاب ولا في التواريخ ولا في الآثار ما يدل على أنه تصدى للفينيقيين، فإنهم فيما يظهر كانوا مستسلمين له. ثم حدث بعد ذلك أن عاد بختنصر إلى سورية سنة 590ق.م، وقد أحس بخروج المدن الفينيقية عن طاعته لمحالفتهم ملك مصر وبعض ملوك أخر من أهل جيرتهم، فحصرت جنوده صور وملكها إيتو بعل مدة ثلاث عشرة سنة، فاضطر الصوريون بعد مقاومة شديدة ظهرت فيها بسالتهم وشدة بأسهم أن يخرجوا من المدينة البرية إلى الجزيرة متحصنين فيها، فخربت الجنود البابلية المدينة وتركتها قاعا صفصفا. وفي سنة 574ق.م عاد بختنصر من بابل، وكان قد ذهب إليها فتولى بنفسه أمر محاصرة الجزيرة بعد أن كلت جنوده عن افتتاحها، وشدد عليها فافتتحت، وفي افتتاحها قولان؛ أحدهما: أن بختنصر فتحها عنوة، والآخر: أن إيتوبعل سئمت نفسه الحصار لطول مدته، ورأى ما أفضى به ذلك إليه من الإضرار بشعبه لانقطاعه عن الاسترزاق بالتجارة فاستسلم من تلقاء نفسه؛ تخلصا من تلك الحالة، فأتى بختنصر بإيتوبعل وبكثير من الأعيان الصوريين الذين أسرهم إلى بابل، وأقام في مكانه ملكا اسمه بعل، وكانت تلك الضربة هي القاضية على صور وعلى مجدها وتجارتها، ولم تقم لها من بعدها قائمة، وصارت قرطاجنة في مكانها من السيادة ودانت بقية المدن الفينيقية لبختنصر.
أما حفرع ملك مصر الذي تحالف معه الفينيقيون فلم يدرك السواحل الفينيقية بأسطوله إلا بعد أن كانت صور قد افتتحت واستقر الأمر للكلدان على سائر المدن الفينيقية، فأراد أن يستميل الفينيقيين إليه ويخرجهم عن طاعة الكلدانيين؛ فالتوى عليه القصد إذ جهر الفينيقيون بمعاداته وجهزوا أسطولا يقاوم الأسطول المصري، فوقعت بين الأسطولين موقعة في أنحاء قبرص شديدة، فانتصر المصريون وتعقبوا الفينيقيين حتى مدنهم؛ فافتتحوا صيدا
15
عنوة ونهبوها وأخضعوا أرواد وجبيل،
16
অজানা পৃষ্ঠা