بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
প্রকাশক
مكتبة الآداب
সংস্করণের সংখ্যা
السابعة عشر
জনগুলি
ـ[بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة]ـ
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي
الناشر: مكتبة الآداب
الطبعة: السابعة عشر: ١٤٢٦هـ-٢٠٠٥م
عدد الأجزاء: ٤
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
অজানা পৃষ্ঠা
المجلد الأول
باب المقدمات
تقديم: للشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم للشارح المغفور له الشيخ عبد المتعال الصعيدي:
"١٣١٣هـ-١٣٨٣هـ = ١٨٩٤م-١٩٦٦م":
أردت -قبل الشروع في شرح كتاب "الإيضاح لتلخيص المفتاح" لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب القزويني "المتوفى ٧٣٩هـ"، بكتابي "بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح"- أن أضع هذا التقديم؛ لأبين فيه منزلة كتاب الإيضاح بين كتب البلاغة، ولماذا آثرته من بينها بشرحي له؟
والكلام في هذا يرجع بي إلى المدرسة التي ينتمي إليها كتاب الإيضاح من بين مدارس علوم البلاغة، وهي مدرسة الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني "المتوفى ٤٧١هـ" الذي ذهب بالشهرة في هذه العلوم، حتى عدّوه بحق شيخ البلاغة؛ لأنه هو الذي وضع أساسها الصحيح بكتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، وكان يسمي مسائل البلاغة علم البيان، وقد ذكر أن هذا العلم لقي من الضيم ما لقي، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل، فأراد أن يوفيه حقه ويقرر قواعده تقريرا يليق به، فوضع فيه هذين الكتابين.
وهو يسميه علم البيان بالمعنى الذي يشمل علوم البلاغة الثلاثة الآتية: المعاني، والبيان، والبديع؛ لأن البيان هو المنطق الفصيح المُعْرِب عما في الضمير، والعلوم الثلاثة لها تعلّق بالكلام الفصيح تصحيحا وتحسينا، على ما سيأتي من الفرق بينهما في ذلك، وإذا كان عبد القاهر لم يفصح عن هذا الفرق بين مباحثها، فقد أشار إليها بتخصيص كتابه "دلائل الإعجاز" لمباحث نظم الكلام؛ من ذكر وحذف وتقديم وتأخير ونحوها؛ فإنه لا يتعرض لغيرها فيه إلا نادرا، وهذه المباحث هي مباحث
1 / 3
علم المعاني، وبتخصيص كتابه "أسرار البلاغة" لمباحث الدلالة من الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة ونحوها، وهذه المباحث هي مباحث علم البيان بمعناه الذي صار إليه أخيرا، ثم ذكر المحسِّنات التي اختص بها أخيرا علم البديع، وأشار إلى منزلتها من البلاغة من رجوعها إلى التحسين لا غير، فلا تُطلَب فيها على سبيل الوجوب كما يُطلَب ما يتعلق منها بالنظم والدلالة، وقد ذهب إلى أن الحسن لا يمكن أن يكون للّفظ في ذاته من غير نظر إلى المعنى، حتى ما يُتوهم في بدء الفكرة أن الحسن فيه لا يتعدى اللفظ والجرس كالتجنيس؛ لأنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميدا؛ ولهذا استُقبح قول أبي تمام "من الكامل":
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون أمَذْهب أم مُذْهَب!
لأنه لم يزد على أن أسمعك حروفا مكررة؛ تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة.
وكان أسلوب عبد القاهر في كتابيه أسلوبا بليغا ممتازا، يساعد على تربية مَلَكة البلاغة ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أن يسرف في العبارات المترادفة؛ حتى تطغى على تقرير القواعد وعلى ما عُني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية، وهو فيما عُني به من الأمرين الناقد الأديب، والبليغ الممتاز، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يُسبَق إليها، ولم يأت بعده مَنْ سار على هديها حتى لا تقف عند هذا الحد؛ لأن شمس العلم في عصره كانت آخذة في الأفول، كما يقول في ذلك "مخلع البسيط":
كبر على العلم يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حمارا تعش سعيدا ... فالسعد في طالع البهائم
وإذا كان هذا حال عصره، فإن حال ما بعده من العصور كان أسوأ؛ فتقهقر علم البلاغة بعده ولم يتقدم.
ثم جاء أبو يعقوب السكاكي "ت ٦٢٦هـ" بعد عبد القاهر، فلمح ما أشار
1 / 4
إليه الجرجاني فيما سبق من الفروق الثلاثة بين مباحث علم البلاغة؛ فميز بعضها عن بعض تمييزا تاما، وجعل لكل مبحث منها علما خاصا؛ فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة، ثم جاراه في تقرير قواعدها، وزاد عليه زيادات كثيرة في تقريرها، وهذا في قسم البيان من كتابه "مفتاح العلوم"، وقد جرى على ترتيبه لهذه المباحث من أتى بعده من المتأخرين، فكان عمدتهم في هذا الترتيب، ولم يستفيدوا إلا قليلا ممن كتب قبله أو بعده في علم البلاغة، ممن لم يَجْر فيها على منواله، ولم يَنْحُ فيها نحوه.
ولا شك أن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، ولكنه كان ناقدا ولم يكن أديبا؛ لأن أسلوبه في كتابه لم يكن أسلوب البليغ الممتاز مثل عبد القاهر؛ لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه، وكان الأسلوب التقريري الذي لا يُعنَى إلا بتقرير القواعد غالبا عليه، فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد وضعف التأليف، ومثل هذا قد يفيد الناظر فيه علما، ولا يفيده أسلوبا بليغا، بل يفسد فيه مَلَكة البلاغة، وبهذا يكون ضرره أكبر من نفعه.
وقد جاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا أن يحذُوَا في علم البلاغة حذوه؛ أولهما ابن الناظم: بدر الدين بن مالك "المتوفى ٦٨٦هـ" ابن النحوي المشهور، في كتابه "المصباح لتلخيص المفتاح" وثانيهما: الخطيب القزويني "المتوفى ٧٣٩هـ" في كتابيه "تلخيص المفتاح" و"الإيضاح لتلخيص المفتاح"؛ وثانيهما كالشرح للأول. فأما مصباح ابن الناظم فإنه لم يهذِّب كثيرا من مفتاح السكاكي في علم البلاغة؛ لأن ملكة النحو كانت غالبة عليه، وكان هذا سببا في إعراض المتأخرين عن كتابه. وأما تلخيص الخطيب القزويني فإنه هذب كثيرا من مفتاح السكاكي؛ فقدم في مباحثه وأخر، وزاد عليه ما تجب زيادته من كتب البلاغة، وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي، ولكنه جعله أسلوبا تقريريا لا يُعْنَى إلا بجمع القواعد في أوجز لفظ؛ حتى أسرف في الإيجاز إسراف عبد القاهر في الإطناب، وجعل من تلخيصه متنا يحتاج إلى شروح وحواشٍ وتقارير، ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير
1 / 5
المتأخرين وإعجابهم.
فلما فرغ من تلخيصه شعر هو أيضا بحاجته إلى شرح، فوضع كتابه "الإيضاح" كشرح له، يجري على ترتيبه في إطناب يختصره أحيانا من كتابَيْ عبد القاهر، وأحيانا من كتاب السكاكي مع شيء من التهذيب فيه، ومع كثير من النقد الذي يفصِّله أحيانا، ويرمز إليه أحيانا بقوله: "وفيه نظر". وبهذا جاء "الإيضاح" وسطا بين إيجاز التلخيص، وإسهاب عبد القاهر. وكان بهذا هو الكتاب الممتاز على غيره من كتب البلاغة القديمة.
ولكنه على هذا لم يُرزَق من الحظوة عند المتأخرين ما رُزِق التلخيص؛ لأنهم شُغِفوا بالمتون حفظا وشرحا. وقد نظروا إلى التلخيص على أنه متن من المتون، فشغفوا بحفظه وشرحه. وكان من السابقين إلى شرحه سعد الدين التفتازاني "ت ٧٩٢هـ"، من علماء العَجَم؛ فوضع له شرحا مطوّلا سماه "المطول"، وشرحا مختصرا سماه "المختصر". وكان سعد الدين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقته التقريرية، وفي ضعف أسلوبه؛ لضعف سليقته العربية، بل كان هو وأمثاله ممن أتى بعد السكاكي من علماء العجم أضعف منه ذوقا أدبيا، وسليقة عربية؛ فمضوا في الطريقة التقريرية إلى أن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الأدبي، ثم أخذوا ينشرونها هنا وهناك إلى أن غزت علماء العرب، وغزت جميع العلوم من عربية، إلى دينية، إلى غيرها من العلوم. وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون أكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم.
ثم تَهَافتَ المتأخرون من علماء البلاغة على شرحَيْ سعد الدين علي التلخيص، يضعون عليهما الحاشية بعد الحاشية، ويضعون على الحاشية التقرير بعد التقرير، وشُغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية في الأقطار المختلفة، يتعمقون في درسها إلى أقصى حدود التعمق، وينتقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير، في استقصاء غريب، وتفنُّن في الفهم والبحث. ولو أن كل هذا في صميم مسائل البلاغة لهان الخَطْب، ولكن أكثره
1 / 6
في بحوث خارجة عن المسائل، وفي أسلوب ركيك يُفْسِد ملكة البلاغة؛ فإذا كانت فيه فائدة قليلة؛ فإنها تضيع في هذا الخِضَمّ الذي لا فائدة فيه.
وقد تأبَّى كتاب "الإيضاح" وطريقته السابقة على المتأخرين من علماء البلاغة؛ فلم يضعوا عليه من الشروح والحواشي والتقارير مثل ما وضعوا على كتاب التلخيص اللهم إلا شرحا ضعيفا للأقسرائي لا يزال مخطوطا بدار الكتب المصرية، ومن الخير أن يبقى مخطوطا فيها؛ لأنه يذهب مذهب غيره في الطريقة التقريرية، وينأى عن طريقة كتاب الإيضاح السابقة؛ فيكون ضرره فيها أكثر من نفعه.
ولما كان كتاب "التلخيص" كالأصل لكتاب "الإيضاح"؛ كان هذا مما يدعو قارئه إلى أن يرجع في كثير من مسائله إلى ما وُضع على كتاب التلخيص من شروح وحواشٍ وتقارير؛ فإذا رجع إليها غرق في ذلك الخضم من البحوث التي لا طائل تحتها، وضاع به ما يكتسبه من كتاب الإيضاح من ذوق أدبي؛ لأن تلك الشروح والحواشي والتقارير تغطي عليه.
فرأيت أن أنأى بقارئ كتاب الإيضاح عن تلك الشروح والحواشي والتقارير؛ بوضع تعليقات عليه تشتمل على ما يأتي:
١- اختيار ما تلزم إضافته إليه مما هو من صميم مسائل البلاغة من تلك الشروح والحواشي والتقارير. واختيار هذا من ذلك الخضم من المماحكات اللفظية ليس بالأمر السهل؛ لأنه يحتاج إلى فهم صحيح لها، وإلى ذوق أدبي يميز الصالح للاختيار من غيره.
٢- شرح الشواهد النظمية شرحا موجزا ينسبها إلى قائليها، ويفسر غريبها، ويبين ما فيها من فوائد بلاغية، وموضع الشاهد فيها. ويعلم الله كم تعبت في ذلك كله، ولا سيما في نسبتها إلى قائليها.
٣- وضع عناوين في كل باب من أبوابه لموضوعاته المختلفة؛ ليسهل الرجوع
1 / 7
إليها، ووضع تمرينات آخر كل موضوع منها للاختبار فيها، ولفت طالب علوم البلاغة إلى أهم ناحية فيها.
٤- نقد ما يجب نقده من مسائله، ولا سيما المسائل التي ينقلها الخطيب عن السكاكي. وفيها من التكلفات والتعقيدات ما ينأى عن ذوق الأدب والبلاغة.
٥- صياغة التعليقات في أسلوب لا يكون فيه تعقيد ولا تطويل ممل، ولا إيجاز مخل؛ حتى تكون ملائمة لذوق موضوعها من علوم البلاغة.
وقد سميت ما وضعته من هذه التعليقات:
"بُغْيَة الإيضاح لتلخيص المفتاح".
والله أسأل النفع بها، وأن تكون خطوة في هذه العلوم لما بعدها.
عبد المتعال الصعيدي
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة:
الجزء الأول: من أول الإيضاح حتى القصر في علم المعاني
خطبة الإيضاح "مقدمة الخطيب القزويني":
قال الشيخ الإمام العالم العلامة، خطيب الخطباء مفتي المسلمين، جلال الدين أبو عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني، الشافعي، متّع الله المسلمين بمُحَيَّاه، وأحسن عُقْبَاه: الحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين.
أما بعد:
فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها، ترجمته بـ "الإيضاح"، وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته "تلخيص المفتاح"، وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة، وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه "مفتاح العلوم"، وإلى ما خلا عنه "المفتاح" من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني ﵀ في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما؛ فاستخرجت زبدة ذلك كله، وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري، ولم أجده لغيري؛ فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم، وإليه أرغب في أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 9
مقدمة: في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وانحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان ١
الخلاف في تفسير الفصاحة والبلاغة:
للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة٢، لم أجد -فيما بلغني منها-
_________
١ إنما حصر علم البلاغة في علمي المعاني والبيان؛ لأن علم البديع يبحث في المحسنات التي تكون بعد رعاية وجوه البلاغة والفصاحة في الكلام. وقدم الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة على بيان انحصار علم البلاغة في هذه العلوم؛ لأن معرفة انحصاره فيها تتوقف على الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وبهذا كان صنيعه أحسن من السكاكي؛ لأنه ذكر الكلام على الفصاحة والبلاغة في آخر علم البيان.
٢ منها قول أكثم بن صيفي: "البلاغة: الإيجاز"، وقول أرسطو: "البلاغة: حسن الاستعارة"، وقول ابن المقفَّع: "البلاغة: قلة الحصَر، والجراءة على البشَر"، وقول بعضهم: "البلاغة: تصوير الحق في صورة الباطل، وتصوير الباطل في صورة الحق".
فالأول كقول محمد بن عبد الملك الزيات: "الرحمة: خَوَر في الطبيعة، وضعف في المُنَّة".
والثاني كقول الحارث بن حلزة "مجزوء الكامل":
عيشي بجد لا يضر ... ك النوك ما لاقيت جدا
والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا
وأقوال المتقدمين كثيرة في البلاغة، والظاهر أن جمهورهم لم يكن يفرق بينها وبين الفصاحة، وقد نُقل عن أفلاطون أن: "الفصاحة لا تكون إلا لموجود، والبلاغة تكون لموجود ومفروض". ولعله يعني بالموجود اللفظ، وبالمفروض المعنى. وقال العاصي بن عدي: "الشجاعة قلب ركين، والفصاحة لسان رزين". وهو يعني باللسان اللفظ، وبالرزين ما فيه فخامة وجزالة. وقال بعضهم: الفصاحة تمام آلة البيان، وهي عنده مقصورة على اللفظ أيضا؛ لأن الآلة -وهي اللسان- تتعلق باللفظ دون المعنى.
1 / 10
ما يصلح لتعريفهما به١، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلِّم؛ فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين؛ فنقول:
كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين: أحدهما: الكلام، كما في قولك: "قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة"، والثاني: المتكلم٢كما في قولك: "شاعر بليغ أو فصيح، وكاتب فصيح أو بليغ".
والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد؛ فيقال: "كلمة فصيحة"، ولا يقال: "كلمة بليغة".
فصاحة المفرد:
أما فصاحة المفرد: فهي خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي.
_________
١ لأن هذه الأقوال يقصد منها ذكر أوصاف البلاغة والفصاحة، ولا يقصد منها حقيقة الحد والرسم، وقد قصد بعض العلماء بعد هذه الأقوال إلى حقيقة الحد والرسم، فقاربوا ولم يصلوا إليهما، ومنهم أبو هلال العسكري في "الصناعتين"؛ فعرّف البلاغة بأنها: "كل ما تُبْلِغ به المعنى قلب السامع لتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة، ومعرض حَسَن". وذكر أنه اختُلف في الفصاحة؛ فقيل: إنها مأخوذة من قولهم: أفصح عما في لسانه إذا أظهره؛ وعلى هذا ترادف البلاغة. وقيل: إنها تمام آلة البيان؛ فلا يكونان مترادفين؛ لأن الفصاحة تكون حينئذ مقصورة على اللفظ، وكذلك كان السكاكي في "المفتاح" كما سيأتي في كلامه عليهما.
٢ يرى أبو هلال العسكري أن البلاغة من صفة الكلام لا المتكلم؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى بليغا؛ إذ لا يجوز أن يوصف بصفة كان موضوعها الكلام، وأما تسمية المتكلم بليغا فتوسع، وحقيقته أن كلامه بليغ، ثم كثر استعمال ذلك حتى صار كالحقيقة، ويرى أيضا أنه لا يجوز أن يسمى فصيحا؛ لأن الفصاحة تتضمن معنى الآلة وهي اللسان. هذا، وقد اعتمد الخطيب في ذلك التقسيم على ما جاء في "حسن التوسل" لأبي الثناء الحلبي، وكذلك اعتمد عليه في كثير من الموضوعات الآتية في العلوم الثلاثة.
1 / 11
فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقَل على اللسان وعسر النطق بها١؛ كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال: "تركتها ترعى الهُعْخُع"٢، ومنه ما هو دون ذلك؛ كلفظ "مستشزر" في قول امرئ القيس:
غدائره مُسْتَشْزِراتٌ إلى العلا٣
_________
١ ذكر ابن الأثير أن المعول في ذلك على الذوق الصحيح، فما يعده ثقيلا عسر النطق فهو متنافر، سواء أكان ذلك من قرب مخارج الحروف أم من بعدها أم من غيرهما، وذكر ابن سنان الخفاجي أن قرب المخارج يكون سببا في قبح اللفظ، وبعدها يكون سببا في حسنه، وذلك غير صحيح؛ لأن الكلمتين قد تتركبان من حروف واحدة وتكون إحداهما ثقيلة دون الأخرى، وذلك مثل "عَلَم ومَلَع"؛ فالأولى خفيفة على اللسان ولا ينبو عنها الذوق، بخلاف الثانية، مع اتحاد حروفهما. وقد تتألف الكلمة من حروف متقاربة ولا ثقل فيها مثل: "ذقته بفمي" فالباء والفاء والميم أحرف شفوية متقاربة ولا ثقل فيها، ولكن مع هذا لا يمكن إنكار ما لمخارج الحروف وصفاتها وهيئة تأليفها من الأثر في خفة الكلمة وثقلها، وإنما عُوِّل على الذوق دونه؛ لأنه لا يجري على قاعدة معروفة، وقد زعم الزوزني أن في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾ [يس: ٦٠] ثقلا قريبا من التناهي؛ لقرب مخرج الهمزة والعين والهاء، مع أن الكلمة خفيفة في الذوق، وهي سقطة من الزوزني.
٢ قيل: إنه اسم شجر، وقيل: إنه معاياة لا أصل لها. ومثله كل كلمة يُجمع فيها بين العين والحاء أو بين العين والخاء أو بين الجيم والصاد أو بين الجيم والقاف أو بين الدال والزاي ونحو ذلك، مثل: عِقْجُق والظش والشصاصاء ونحوها.
٣ هو من قول حُندج بن حجر الكندي، المعروف بامرئ القيس في معلقته "من الطويل":
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل المداري في مثنى ومرسل
وفرع المرأة: شعرها، والمتن: الظهر، والأثيث: الكثير الشعر، والقنو: العنقود، والمتعثكل: المتراكم، والغدائر: الذوائب، والمستشزرات: المرتفعات، والمداري: الأمشاط جمع: مِدْرَى، والمثنى: المفتول، والمرسل: غير المفتول. وسبب ثقل "مستشزر" توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة.
ومثل مستشزرات "اطْلَخَمّ" في قول أبي تمام "من البسيط":
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت ... عشواء تالية غبسا دهاريسا
وكذلك "سُوَيْدَواتها" في قول المتنبي "من الكامل":
إن الكريم بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويدواتها
وقد نشأ ثقلها من طولها، وهي مفردة أيضا؛ لأنها مركب إضافي.
1 / 12
والغرابة: أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها١؛ فيُحتاج في معرفته إلى أن يُنَقَّب عنها في كتب اللغة المبسوطة؛ كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار، فاجتمع عليه الناس، فقال: "ما لكم تكأكَأْتُم علي تَكَأْكُؤكم على ذي جنة؟! افْرَنْقِعوا عني" أي: اجتمعتم، تنحوا.
أو يُخَرَّج لها وجه بعيد٢ كما في قول العجاج:
_________
١ عدم ظهور المعنى ينشأ عن وحشية الكلمة. ومعنى وحشيتها: كونها غير مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص؛ فلا يعول في ذلك على غيرهم من المحدَثين الذين ظهروا بعد فساد اللغة، ولا يرد على هذا متشابه القرآن ومجمله؛ لأن المراد عدم ظهور المعنى الموضوع له، والمعنى الوضعي في المتشابه والمجمل ظاهر لا خفاء فيه، وإنما الخفاء في مراد الله تعالى منهما.
ومن المتشابه في القرآن قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]، ومنه في الحديث قوله ﷺ: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا". ومنه في الشعر قول أبي تمام "من الكامل":
ولهت فأظلم كل شيء دونها ... وأضاء منها كل شيء مظلم
فالوَله والظلمة والإضاءة ألفاظ ظاهرة المعنى، ولكن البيت بجملته يحتاج فهمه إلى استنباط، ومراده: أنها ولهت فأظلم ما بينه وبينها من جزعه لولهها، وظهر له ما خفي عنه من حبها له.
وإني أرى أن الغرابة وحدها لا تخل بفصاحة الكلمة، وقد بينت هذا في كتابي "البلاغة العالية"، وكذلك أرى أن ابتذالها لا يعيبها ما دامت معاني الكلام جيدة، وهو اما اختاره ابن شرف القيرواني، وعليه بعض نقاد الإنجليز الذين يرون أن الابتذال يكون في الفكرة لا في الكلمة.
٢ إنما يُلجَأ عندهم إلى تخريجها على وجه بعيد إذا وقعت من عربي عارف باللغة؛ لأنه لا يصح حمل كلامه على الخطأ، والحق أن العربي قد يخطئ في لغته، وأن الحمل على الخطأ خير من تكلف ذلك التخريج البعيد.
1 / 13
وفاحما ومَرْسِنا مُسَرَّجا١
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: "مسرجا"؛ حتى اختُلف في تخريجه٢؛ فقيل: هو من قولهم للسيوف سُرَيجية: منسوبة إلى قَيْن يقال له: سريج، يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي. وقيل: من السراج، يريد أنه في البريق كالسراج. وهذا يقرب٣
_________
١ هو لعبد الله بن رؤبة التميمي السعدي، المعروف بالعجاج من قوله "من الرجز":
أيام أبدت واضحا مفلجا ... أغر براقا وطرفا أبرجا
ومقلة وحاجبا مزججا ... وفاحما ومرسنا مسرجا
والفاحم: الشعر الشديد السواد، والمرسن: اسم لمحل الرسن وهو أنف البعير، ثم أُطلق وأريد به الأنف مطلقا على سبيل المجاز المرسل.
وقيل: إن الشاهد لرؤبة بن العجاج.
٢ سبب اختلافهم أن "مسرجا" اسم مفعول من سرّج، وصيغة فعّل تأتي للنسبة إلى مصدرها، كما تقول: "كرّمته" بمعنى نسبته إلى الكرم، ولما كان هذا غير ممكن في "سرّج" تكلفوا له أصلا ينسب إليه؛ وهو السيوف السريجية أو السراج. وهذا إلى أن "مسرجا" في قول العجاج بمعنى شبيه بالسراج أو السيوف السريجية، وهو في أصل وضعه يدل على النسبة إلى أصله، ولا يستفاد منه التشبيه إلا بتكلف.
والحق أن أخذه من السراج لا غرابة فيه من جهة الاشتقاق والتشبيه؛ لأن الاشتقاق من الاسم الجامد قد جاء في كلام العرب، كما في قول ابن المفرع "من الخفيف":
وبرود مدنرات وقز ... وملاء من أعتق الكتان
فالمعنى في ذلك التشبيه، أي: برود وشيها.
٣ إنما كان قول العجاج قريبا من هذا الاستعمال ولم يكن منه؛ لأنه كما جاء في "التاج" استعمال غريب أو مولَّد، والعجاج شاعر إسلامي، فلا يقال في كلمته: إنها مولَّدة.
والحق أن هذا الاستعمال من الغريب لا المولَّد؛ لأن العجاج شاعر إسلامي، ولكن غرابته لا تكون من غرابة التخريج على وجه بعيد، وإنما هي من القسم الأول.
ومن الكلمات الغريبة "الحلقَّدُ" بمعنى السيئ الخُلُق، و"الابتِشَاك" بمعنى الكذب، كما في قول الشاعر "من الوافر":
وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
1 / 14
من قولهم: "سَرِج وجهه" بكسر الراء، أي: حَسُنَ، وسَرَّج الله وجهه، أي: بهّجه وحسّنه.
ومخالفة القياس١ كما في قول الشاعر "من الرجز":
الحمد لله العلي الأجْلَلِ٢
فإن القياس: "الأجَلّ" بالإدغام.
وقيل: هي خلوصه مما ذُكر، ومن الكراهة في السمع: بأن تُمَجّ الكلمة ويُتبرأ من
_________
١ المراد به القياس اللغوي كما سبق، ومخالفته بأن تكون الكلمة على خلاف ما ثبت عن الواضع، وقد حمله بعضهم على القياس الصرفي، وهو خطأ؛ لأن مخالفة القياس الصرفي لا تخل دائما بالفصاحة؛ إذ توجد كلمات كثيرة فصيحة على خلافه، وذلك مثل: آل وماء ويأبى وعَوِرَ يَعْوَرُ. هذا، ويدخل في مخالفة القياس اللغوي ككل ما تنكره اللغة لمأخذ لغوي أو صرفي أو غيرهما. وذلك كالمقراض في قول أبي الشيص "الكامل":
وجناح مقصوص تحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المِقْراض
لأنه لم يسمع في كلامهم إلا مثنى، خلافا لسيبويه. وكالأيِّم في قول أبي عبادة "من الطويل":
يشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم
لأنه وضعها مكان الثيب، مع أن الأيم هي التي لا زوج لها ولو كانت بكرا.
وكحذف النون من "لكنْ" في قول النجاشي "من الطويل":
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... وَلَاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: "ولكن اسقني".
٢ هو لأبي النجم الفضل بن قدامة من قوله في مطلع أرجوزته "من الرجز":
الحمد لله العلي الأجلل ... الواهب الفضل الكريم المجزل
والذي ألجأه إلى فك الإدغام ضرورة الشعر، ولكن ذلك لا يمنع الإخلال بالفصاحة؛ لأن من الضرورات الشعرية ما هو مستقبح، وقد روي مطلعها:
الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يَبخل ولم يُبَخَّل
فلا يكون فيه شاهد لمخالفة القياس، ومنه قول الشاعر "البسيط":
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضَنِنُوا
1 / 15
سماعها كما يُتبرأ من سماع الأصوات المنكرة؛ فإن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذّ النفس سماعه، ومنها ما تكره سماعه.
كلفظ "الجِرِشَّى" في قول أبي الطيب "المتقارب":
كريم الجرشى شريف النسب١ ... أي: كريم النفس، وفيه نظر٢.
ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا٣، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها٤.
فصاحة الكلام:
وأما فصاحة الكلام: فهي خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد، مع فصاحتها٥.
_________
١ هو لأحمد بن الحسين الجعفي الكندي، المعروف بأبي الطيب المتنبي، من قوله في مدح سيف الدولة "من المتقارب":
مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب
وقد أخذ الدسوقي في "حاشيته على المختصر" من قوله: "شريف النسب" أن سيف الدولة من بني العباس، وهو خطأ ظاهر؛ لأن سيف الدولة من تَغْلِب.
٢ وجه النظر أن الكراهة في السمع لا تكون إلا من تنافر حروف الكلمة أو غرابتها، فليست شيئا آخر غيرهما، و"الجرشى" في بيت المتنبي تدخل في الغرابة.
٣ هذا إذا لم يكن لها مرادف.
٤ هذا إذا كان لها مرادف، ولكن هذا يقتضي نفي الفصاحة عن مرادفها، مع أن مراتب الفصاحة متفاوتة، فلا مانع من أن يكون كل منهما فصيحا ولو كان أحدهما أكثر استعمالا، فالأولى الاقتصار على الشق الأول من هذه العلامة.
٥ أي: مع فصاحة الكلمات؛ لأن فصاحة الكلمة شرط من فصاحة الكلام، فلو خلا من الثلاثة واشتمل على كلمة غير فصيحة لم يكن فصيحا، وذلك كقول أبي الطيب "المتقارب":
مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب
1 / 16
فالضعف١: كما في قولنا: "ضرب غلامُه زيدًا"؛ فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور؛ لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة، وقيل: يجوز٢؛ كقول الشاعر "من الطويل":
جزى ربُّهُ عني عديَّ بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات، وقد فعل٣
وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر "جزى" أي: رب الجزاء؛ كما في قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ٤ [المائدة: ٨] أي: العدل.
والتنافر: منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها متتابعة؛ كما في البيت الذي أنشده الجاحظ "من الرجز":
_________
١ ضعف التأليف: هو أن يكون تأليف الكلام على خلاف المشهور من قواعد النحو، وإنما قيد الخلاف بالمشهور من القواعد؛ لأن خلاف المجمع عليها خطأ لا ضعف تأليف.
٢ هذا مقابل قوله: "ممتنع عند الجمهور" فهو قول بعض النحاة أيضا، وليس قولا لبعض علماء البلاغة؛ لأنهم متفقون على أن ذلك ضعف تأليف.
٣ نسبوه لزياد بن معاوية "المعروف بالنابغة الذبياني"، وقيل: إنه لأبي الأسود الدؤلي، وقيل: إنه مولد مصنوع. وجزاء الكلاب: الضرب بالحجارة، وجملة "جزى ربه" دعائية، يعني: أنه يدعو عليه بذلك، وقد حقق الله دعاءه، ولا يخفى ما في هذا من عدم التلاؤم، والأولى أن يعود ضمير "فعل" إلى "عدي"، والمراد ما فعله معه من الإساءة إليه، والحق أن هذا البيت ليس للنابغة، وإنما هو اشتباه بقوله:
جزى الله عبسا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
٤ وهذا قياس مع الفارق؛ لأن الضمير في الآية ظاهر العود إلى "العدل"، أما البيت فضميره ظاهر العود إلى "عدي"، ولا داعي إلى تكلف عوده إلى الجزاء.
ومن ضعف التأليف وقوع ضمير الوصل بعد "إلا" في قول الشاعر "البسيط":
وما علينا إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار
ومنه حذف "أن" مع بقاء عملها، كقول طرفة "الطويل":
ألا أيهذا الزاجري أَحْضَرَ الوغى ... وأَنْ أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي؟!
1 / 17
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر١
ومنه ما دون ذلك، كما في قول أبي تمام "من الطويل":
كريم، متى أمدحْه أمدحْه والوَرَى ... معي وإذا ما لُمته لُمته وحدي٢
فإن في قوله: "أمدحه" ثقلا ما؛ لما بين الحاء والهاء من التنافر٣.
والتعقيد: أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به٤، وله سببان:
أحدهما ما يرجع إلى اللفظ؛ وهو أن يختلّ نظم الكلام٥، ولا يدري السامع
_________
١ هو فيما زعموا لبعض الجن، وكان قد صاح على حرب بن أمية في فلاة، فمات بها، والقفر: الخالي، وهو مرفوع صفة لمكان على القطع، أو خبر المبتدأ وهو قبر، والمعنى: أنه مع مكانه قفر، وفي هذا الوجه تكلف.
٢ هو لحبيب بن أوس الطائي المعروف بـ "أبي تمام"، يمدح به موسى بن إبراهيم الرافقي، والورى: الخلق، ولا يخفى نبوّ الشطر الثاني عن المدح ولا سيما مع "إذا" المفيدة للتحقق، وأُخذ عليه أيضا مقابلة المدح باللوم لا الهجاء، ولعله أراد أن ينزهه عنه.
٣ الحق أنه لا تنافر في ذلك؛ لأنه ثقل محتمل، وقد جاء في قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْهُ﴾ [ق: ٤٠] .
وقيل: إن الذي أوجب التنافر في البيت هو التكرير في قوله: "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء، ومع هذا لا يقال: إن هذا التعليل يُقبَل لو كان يتحدث عن تنافر الحروف، ولكنه يُقبَل بصدد الحديث عن تنافر الكلمات.
ومن تنافر الكلمات قول الشاعر "من السريع":
وازوَرّ من كان له زائرا ... وعافَ عافي العرف عرفانه
٤ أي: لا الموضوع له كما في الغرابة، ولا يدخل في التعقيد المتشابه والمجمل؛ لأن عدم ظهور المراد فيهما ليس لاختلال النظم أو نحوه مما يأتي. وقد اختُلف في دخول اللغز والمعمَّى في التعقيد، فقيل: إنهما منه، وقيل: إنهما من المحسِّنات البديعية إن كانت الدلالة فيهما ظاهرة للفَطِن، وكل منهما قول يدل ظاهره على خلاف المراد، ولكن اللغز يكون على طريق السؤال؛ كقول الحريري في المِيل "ما يُجعل به الكحل في العين" "من الطويل":
وما ناكح أختين سرا وجهرة ... وليس عليه في النكاح سبيل؟
٥ قد يكون اختلاله باجتماع أمور فيه توجب صعوبة الوصول إلى معناه، وإن كانت جائزة يريد أنه لم يكن كثاني اثنين، وقيل: إن "ثانيه" خبر ثانٍ لصار، و"ثان" اسم "يكن"، و"كاثنين" خبره، والأولى جعل "ثانيه" خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو.
1 / 18
كيف يتوصل منه إلى معناه؛ كقول الفرزدق "من الطويل":
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه١
كان حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه؛ فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال: "وما مثله" يعني: إبراهيم الممدوح، "في الناس حي يقاربه"٢ أي: أحد يشبهه في الفضائل، إلا "مملكا" يعني هشاما، "أبو أمه" أي: أبو أم هشام، "أبوه" أي: أبو الممدوح، فالضمير في "أمه" للمملك، وفي "أبوه" للممدوح؛ ففصل بين "أبو أمه" وهو مبتدأ و"أبوه" وهو خبره بـ "حي" وهو أجنبي، وكذا فصل بين "حي" و"يقاربه" وهو نعت "حي" بـ "أبوه" وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد٣.
_________
= في النحو، وهذه الأمور كالتقديم والتأخير والحذف والإضمار ونحو ذلك، وبهذا يكون التعقيد اللفظي غير ضعف التأليف، ولكنهما قد يجتمعان في مثال واحد، كما في بيت الفرزدق، وينفرد ضعف التأليف في مثل: "ضرب غلامه زيدا"، وينفرد التعقيد في مثل: "إلا عمرًا الناسَ ضاربُ زيد" بتقديم المفعول والمستثنى وتأخير المبتدأ، وهذا جائز في النحو، والأصل: "زيد ضارب الناس إلا عمرًا".
١ هو لهمّام بن غالب التميمي المعروف بالفرزدق، وقيل: إن البيت ليس له.
٢ فـ "يقاربه" في البيت بمعنى: يضاهيه ويشبهه، ويجوز أن يكون من قُرب النسب.
٣ حمله بعضهم على وجه لا تعقيد فيه، فجعل الاستثناء من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور قبله، وجعل قوله: "حي" خبرا لقوله: "أبو أمه"، وكذلك قوله: "أبوه" فهو خبر بعد خبر، وجملة ذلك صفة لقوله: "مملكا"، وكذلك جملة "يقاربه" فهي صفة بعد صفة، ويكون المعنى: "إلا مملكا يقاربه أبو أمه حي"، وهو أبو الممدوح، ولا يخفى ما في الإخبار بحي من التهافت.
ومن التعقيد اللفظي قول أبي تمام "من الكامل":
ولقد ثنى الأحشاء من برحائها ... أن صار بابك جار ما زيار
ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار =
1 / 19
فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي: ما سلم نظمه من الخلل؛ فلم يكن فيه ما يخالف الأصل -من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك- إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة -لفظية أو معنوية- كما سيأتي تفصيل ذلك كله، وأمثلته اللائقة به.
والثاني ما يرجع إلى المعنى، وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا١؛ كقول العباس بن الأحنف "من الطويل":
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عينايَ الدموع لتجمدا٢
كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن٣، وأصاب؛ لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه؛ كقولهم: "أبكاني وأضحكني" أي: ساءني وسرني، وكما قال الحماسي "من السريع":
أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي٤
ثم طرد ذلك في نقيضه، فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود؛ لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ٥؛ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها؛ فلا يكون
_________
١ المعنى الأول: هو المعنى الأصلي، والمعنى الذي هو لازمه: هو المعنى المجازي أو الكنائي.
٢ قوله: "وتسكب" بالرفع، ونصبه بالعطف على "بعد" أو على "تقربوا" وهم، والحق أنه لا شيء في عطفه على "تقربوا"، والسين في قوله: "سأطلب" لمجرد التأكيد، ومعنى الشطر الأول: أنه يفارقه رجاء أن يغنم في سفره، فيعود إليه فيطول اجتماعه به.
٣ قيل: إنه لا حاجة إلى الكناية بسكب الدموع عن هذا؛ لأنه يجوز أن يراد به حقيقة.
٤ هو لحطان بن المعلى من شعراء الحماسة، وقد كنى فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته، وبإضحاكه له عن سروره.
٥ أي: في نظر علماء البيان، وإن كان لكلامه وجه من الصحة بأن يكون استعمل جمود العين -وهو يبسها- في خلوها من الدموع وقت الحزن، مجازا مرسلا علاقته الملزومية، ثم استعمله في خلوها من الدموع مطلقا مجازا مرسلا من استعمال المقيد في المطلق، ثم كنى به عن دوام السرور، وفي ذلك من البعد والتعقيد بكثرة الوسائط ما يجعله خطأ في نظر علماء البيان.
1 / 20
كناية عن المسرة؛ وإنما يكون كناية عن البخل، كما قال الشاعر "من الطويل":
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود١
ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل؛ فيقال: "لا زالت عينك جامدة"، كما يقال: "لا أبكى الله عينك" وذلك مما لا يُشك في بطلانه. ومن ذلك قول أهل اللغة: "سنة جماد لا مطر فيها، وناقة جماد لا لبن لها"؛ فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر والناقة لا تسخو بالدر، لا تجعل العين جَمُودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت، وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنّت.
فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي: ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني -الذي هو المراد به- ظاهرا، حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من حاقّ
_________
١ هو لأفلح بن يسار، وقيل: مرزوق بن يسار المعروف بأبي عطاء الخراساني في رثاء ابن هبيرة، وبعده:
عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود
وواسط: مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف، وقد قُتل ابن هبيرة في معركة وقعت فيها، وقد كنى فيه بجمود العين عن بخلها الدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع.
ومن التعقيد المعنوي قول أبي تمام "من الطويل":
من الهيف لو أن الخلاخل صُيِّرت ... لها وُشُحا جالت عليها الخلاخل
أراد وصفها بدقة الخصر، فكنى عنه بأن الخلاخل لو جُعلت لها وشحا لجالت عليها، وهذا لا يدل على مراده، بل يدل على بلوغها غاية القِصَر؛ لأنه أمكن أن تكون الخلاخل وشحا لها، والوشاح يضرب لها من العاتق إلى الكشح.
1 / 21