الإخوان وأمثالهم يعلمون أن الدولة الدينية زمن الراشدين قد صادرت حرية الناس في البلاد التي احتلتها وأخذتهم عبيدا، ويعلمون أن الديمقراطية اليوم تقوم على حقوق الإنسان وأولها الحرية. هم يعلمون أن الدولة الدينية الأولى ألغت ثقافات البلاد التي فتحتها مع لغتها ومسحتها مع تاريخها مسحا، ويعلمون أن هذا - اليوم - جريمة من أكبر الجرائم التي حدثت في التاريخ. هم يعلمون أن الدولة الدينية الأولى قد سبت نساء البلاد المفتوحة واستباحت الأعراض في ميدان القتال واستولت على كل ما طالته يدها فيئا وغنائم، ويعلمون أن هذا - اليوم - هو جرائم حرب عظمى حسب مواثيق جنيف؛ لذلك يقومون بحرفتهم التي يجيدونها وهي لعبة الثلاث ورقات، تلعب فيها الورقتان الظاهرتان؛ واحدة دور الدولة الإسلامية المنشودة، وواحدة دور الدولة الديمقراطية الغربية، بينما السنيورة المخفية هي الدولة الدينية بكل مآسيها عبر تاريخها الأسود من قرن الخروب.
لماذا يخرج علينا الإخوان وأشباههم يطالبون بإقامة دولة إسلامية ديمقراطية اليوم؟ لماذا لا يقبلونها ديمقراطية غربية علمانية كما هي، أسهل وأصوب وأكثر نجاحا بعد تجريب طويل؟
نظرة خاطفة على التاريخ، سنرى الخلافة وقد تم تداولها بين عدة أسر عربية، تنتقل في آخر زمانها إلى الأتراك العثمانيين.
وكما هو حال كل الإمبراطوريات التي لا تتطور ولا تواكب الزمن، فإنها تشيخ ثم تذبل فتموت، هكذا حكاية التاريخ المتكررة. ورغم حكاية التاريخ وما يجب أن نستخلصه منها من عبر وعظات، فإن بعض المسلمين يطالبون اليوم بعودة تلك الخلافة الميتة، ليس بإحيائها إنما بوراثتها، إنه ميراث ضائع فلماذا لا يكونون أصحابه؟ إن مطلبهم هو ميراث الخلافة بكل نظمها التي هي الاستبداد عينه وذاته.
إن من يطلب الديمقراطية حقا يطلبها لأنها تحقق، أول ما تحقق، حريات المواطنين بكل أشكالها، وليس لخلطها بما يسمى «وضعنا الخاص» بين الأمم، ليخرج بما يسميه دولة إسلامية ديمقراطية للاستيلاء على إرث وكنز عظيم يتصورونه تصورا، ويرون أنه كنز لا صاحب له؛ لذلك قاموا يطالبون بإحياء الخلافة وإعادتها لورثتها، واستعادة الكنز بإعادة هذه الشعوب موالي وعبيدا وأهل ذمة وأنباطا وعلوجا، يدفعون الخراج والجزية وهم صاغرون إلى أصحابها الشرعيين بفكرة تناسب المتغيرات، بإعلان أن دولتهم المرتقبة ستكون دولة إسلامية لكن السلطان فيها للشعب أو للأمة.
الخدعة في أنهم يلقون الكلام هكذا كما لو كان كل شيء مرتبا لدولتهم كما هي في أدبياتهم. الخدعة أن كل هذه الأدبيات تعود إلى زمن النبوة والراشدين في كل خطوة وفي كل كلمة؛ إلى زمن الدولة الدينية التي تخلوا عنها (كده وكده)؛ لذلك لا يحددون لنا ببيان علني واضح شكل دولتهم المنشودة، ولا من سيحكمها، هل سيكون ملكا كمعاوية؟ أم خليفة كعمر؟ أم رئيس جمهورية كالبشير أو أحمدي نجاد؟ ثم لم يحددوا لنا الأرض التي ستقوم عليها هذه الدولة، هل ستقوم عاصمتها محل الدولة الأولى في المدينة المنورة؟ أم سيكون هناك عديد من الدول التي تأخذ بالنظام الإسلامي الديمقراطي المنشود وتقيم كل منها لنفسها خليفة؟ وهل سيكون على هذه الدول الإسلامية الجديدة واجب الجهاد ضد باقي الدول المسلمة التي لم تأخذ بهذا النظام الجديد؟ أم سيجاهدون ضد بعضهم البعض؟ ماذا سيكون وضع لبنان مثلا؟ أو العراق؟ أو مصر؟ وهل سيتحول مجلس التعاون الخليجي إلى مجلس تعاون الخلفاء الخليجين؟ وماذا لو رفضت بعض الدول المسلمة النموذج الإسلامي وقررت أخذ النموذج الديني الأول من الراشدين مباشرة دون لف أو دوران، فهل سيكون هناك صراع جديد على غرار صراع علي ومعاوية؟ وهل ستأخذ الفتاوى دور اختراع الحديث في مناصرة أصحاب تلك الدولة أو مناصرة تلك؟ ثم لماذا يظهر هؤلاء اليوم ليختاروا لنا نظام الدولة التي نريد؟ وهل تحولهم عن نظام الدولة الدينية الراشدة اعتراف من جانبهم بظلم تلك الدولة وتجبرها على خلق الله، وأنها سلبت الشعوب المفتوحة أقواتها وهتكت أعرضها؟ هل يعني هذا اعترافا؟ إذا كان ذلك كذلك فليكن اعترافا معلنا واضحا مصحوبا باعتذار يليق بما حدث من مجازر في ذلك التاريخ المفزع، وأن يردده المشايخ، خاصة مشايخ السعودية، آناء الليل وأطراف النهار، ولا يكفرون عما فعل أسلافهم فينا. •••
يفترض أن الدولة الدينية الإسلامية الأولى، التي ظهرت برفقة دين جديد، أن تكون هي نفسها نموذجا جديدا يرافق الدين الجديد، فيكون الدين الجديد قد أنتج دولة جديدة تختلف عما حولها من جاهلية وقبلية وهمجية؛ أي لا بد للدين الجديد الأرقى أن يكون قد أتى بالدولة الأرقى، وعند المسلم يجب أن تكون هذه الدولة هي الأرقى منذ فجر الإنسانية وحتى نهاية الأزمان وفناء الدهور.
لكن هذه الدولة النموذج ليس عندها ولا عند أصحابها إجابة شافية على أسئلة؛ هي من البديهيات مثل: كيف كان شكل هذه الدولة؟ كيف كان حال شعبها؟ وما هو المستوى الثقافي لهذا الشعب؟ وكيف كان حال الفكر الديني عند هذا الشعب؟ وماذا كانت فروعه وعلومه ومقدار هذه العلوم؟ ثم ماذا قدمت للإنسانية من جديد على مستوى الدولة ونظامها والعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ ماذا أضافت لديمقراطية أثينا مثلا، أو لقوانين روما مثلا آخر؟
لقد كانت الفتوحات الإسلامية من وجهة نظر العراقيين والشوام والمصريين وغيرهم، عمليات غزو عربي استيطاني وإحلالي لبلادهم، وذلك أثناء دولة الخلافة الراشدة، فكيف كانت الدولة زمن هذه الخلافة؟ وما بعد الراشدة أمويين أو عباسيين؟
إن الدول في ذلك الزمان كانت تدور وتعمل بآلياتها في البلاد المفتوحة على ذات النظم والقواعد والفلسفات والمؤسسات والهيئات التي وجدها العرب الفاتحون قائمة فيها ، فقط تغير المستعمر، ذهب الروم والفرس، وجاء العرب.
অজানা পৃষ্ঠা