ثم يضع الأستاذ هويدي شرطا لقبول الديمقراطية التي لن يستقيم لنا حال بغيرها، وهو ما نقله عنه الدكتور معروف في قوله: «إن الديمقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلا للشورى، أو ترجمة معاصرة لها، هي تلك التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا.» ثم قام معروف يعرض نقد الدكتور حيدر إبراهيم لهذا الرأي إذ يقول: «يمثل هويدي هنا قمة التوفيقية أو الانتقائية الجائرة، فقد كان بإمكانه التوقف عند الشورى فقط لطالما هي مقابل الديمقراطية ومن صميم الدين، لكنه يفصل الديمقراطية على مقاس الشورى، على الرغم من اختلاف السياقين التاريخيين للمفهومين، ويحاول أن يختزل الديمقراطية إلى مفهوم ديني بحت بلغة دينية لطمس السياسي في مفهوم الديمقراطية. فالديمقراطية لم تأت لتحديد أحكام شرعية أو فقهية، بل لتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين وتأكيد الحريات وحقوق الإنسان بحسب رؤيتها وتاريخيتها.» ا.ه.
المسألة التي نصر عليها هنا حتى مع د. حيدر، أن الديمقراطية ليست مفهوما عربيا ولا إسلاميا، حتى يكون لهويدي حق التعبير عن مقاصدها وفلسفتها، بل عليه أن يسأل عنها أهلها إذا أراد أن يفهمها، وأن يقدمها للناس كما هي منذ أبدعها الأقدمون من يونان وروم، حتى المحدثين فالمعاصرين حتى آخر مستحدثاتها الحقوقية، عليه أن يسأل أهل الغرب الحر لأنهم الأدرى، وهم المرجعية والمصدر، أو ببساطة أن يطل في المنور المجاور، على دولة إسرائيل وهي تتحدى هذا الكم العظيم الغليظ من أبناء الشورى؛ ليرى النموذج التطبيقي للديمقراطية العلمانية في دولة دينية أساسا، فنموذج التطبيق الذي لم نره عبر تاريخ الشورى إلا شرا مستطيرا ، هو في الديمقراطية معناها ومقصدها وهدفها ونتيجتها في العالم أجمع، عدا منطقة الشر أوسط الكبير، منطقة الشورى!
إن ما أحرزته الديمقراطية تطبيقا وعملا في الواقع على المستوى العالمي هو سبب ما يكتبه الآن فلاسفة التلفيق والقص واللصق المسلمون، كعمالة تقوم بالترميم لبناء تهاوى وصار ركاما منذ أزمان، أهلكته الشيخوخة وقتلته تخمة ما امتص من دماء شعوب المنطقة.
ثم بعد تمام بحث وفهم المفهومين النظري والتاريخي الفلسفي الحقوقي والمفهوم التطبيقي للديمقراطية، عليه أن يذهب ليبحث فيما بين يديه ويعلنه للناس دون أن يشعر بعار يدفعه للترميم واللصق والتجميل، إنه يشعر بالعار عندما يقارن فيكذب ويواري ويلتوي؛ لأن المسلم من بين أصحاب الأديان في العالم هو من يريد دوما أن يقارن دينه بزمانه ومكانه القديم بكل مستحدث، ولو فعل أصحاب الأديان في العالم فعلنا لشعروا جميعا بذات العار، وربما بما هو أسوأ قياسا على بعد كل دين في التاريخ إلى الوراء.
إن ما يجب أن يشغلنا ليس هو ماذا سنطلق على الفعل الديمقراطي إذا كان هذا الفعل هو ما نريده، ما دام الفعل في صالح الناس والوطن. ما يشغلنا ويجب أن يشغلهم هو المضمون والروح والمعنى والأهداف. وإن مقارنة سريعة بين هذا المضمون في الشورى وفي الديمقراطية، سيجعل الشورى القرين الأول للاستبداد عبر أربعة عشر قرنا من الزمان ظلما وانعدام مساواة أو حقوق. إن المقارنة بين مفهومنا المسلم ومفهومهم الكافر عند التطبيق والإنجاز، هي مقارنة ظالمة للإسلام بكل المقاييس، فقد كان له زمنه وظرفه وناسه ونظامه القبلي المختلف بالكلية عن زماننا.
إن المقارنة غير المتحيزة الباحثة عن مصالح الناس وحقوقهم قامت بها أوروبا في عصر النهضة والتنوير، وانتهت إلى أن إبعاد الكنيسة فيه الخير للجميع، وللدين، وللبشر، حاكمين أو محكومين.
تطبيق الشورى وتطبيق الديمقراطية هما محل المفاضلة وليس الألفاظ، ولكنا وقفنا عند الألفاظ وحدها بديلا تعويضيا عما كان يجب أن يحدث في الواقع لنلحق بقطار الحداثة، بدلا عن هذا التخلف المقيت في قاع تراتب البشرية، فقط ليضمن مشايخنا مكانهم الدائم بجوار السلطان المستبد الكريه، لقد التهم مشايخنا وسلاطيننا مستقبلنا. ولا زال السيد هويدي ولقبه الكاتب الإسلامي المستنير يفعل ذات الألاعيب على أهل ملته وناسه. رغم أننا لو أخذنا بالديمقراطية العلمانية لن نذهب إلى مكان أبعد إلى الوراء مما نحن فيه، فنحن الوراء نفسه، نحن في الآخر وليس بعدنا آخر. لن نعود إلى عصر الجاهلية نكتب مقدستنا على جلد الماعز والأحجار والعسيب والأكتاف، بينما قبله بآلاف السنين دونها الفرعون الكافر على أوراق البردي، وبقيت حتى الآن في ورق - لا لوح - محفوظ، وبلا دعم سماوي وبلا رجال دين يدعون لها. فلماذا كل هذا الرعب المسلم من الديمقراطية العلمانية على الإسلام؟
أما «الديمقراطية التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا» فتلك والله لقاصمة الظهر! إذا كان قصد الله من الحلال والحرام هو إذلال الناس، إذن فلا معنى للديمقراطية بالمطلق، وإذا كان يقصد بها مصلحة الناس فإن الديمقراطية هي من أثبت هذه الصلاحية، ولا يكون هنا معنى للحلال والحرام الديني، ما دام المهم المصلحة بالدين أو بالديمقراطية، وما دامت الشورى قد أثبتت أنها قرينة الاستبداد، فلماذا نضع الديمقراطية تحت شرط رجال الدين (لأنهم هم من يعرفون الحلال والحرام). أي ديمقراطية هذه التي يطلبها هويدي؟ إنها حتى لم يسبق أن عرفنا لها أي أساس من سنة ولا قرآن ولا حتى من تجارب إسلامية عبر التاريخ.
ولماذا لا يكون مقصد الله من الحلال والحرام ليس إذلال العبيد فقط، بل المقصود هو حسن الطاعة والعبادة والشكر على النعمة. وإذا كان المقصد هو الإذلال والتسلط فإن هذا التسلط لا يمارسه الله بنفسه إنما يمارسه بشر لم يأذن لهم الله بأن ينوبوا عنه. وإذا كان المقصود عبادة وطاعة فإن الإسلام لم يشرع عباداته منقوصة حتى يأتي هويدي ليرقعها بالديمقراطية، ويدلنا على طاعات لا يعرفها مقدسنا ولم يطلبها منا ربنا. أم أن الأكرم للدين ولنا أن تكون العبادة لله، أما الدولة فهي لنا نتصرف فيها بما نراه مناسبا لزمننا حسب مصالحنا.
هنا بيت القصيد، البحث عن الشورى بديلا للديمقراطية يقوم على اعتقاد أن الإسلام دين ودولة. وبما أن الدولة المتقدمة اليوم تقوم على النظام الديمقراطي، فلتكن الشورى هي النظام الذي تقوم عليه الدولة المسلمة. الدين الوحيد الذي يقول أصحابه إنه دولة في نفس الوقت هو دين المسلمين، بينما لو أراد الله دولة مقدسة لنفسه لأقامها قبل كل الدول التي أقامها البشر مثل الفراعنة والآشوريين والفينيقين، ولأقامها نموذجا يحتذى به في العظمة والقوة يبقى حتى نهاية الدهور، لا مجموعة دول فقيرة متخلفة متصارعة، دولة تفككت ونبيها على سرير المرض بحركات انفصالية سميت ردة، ثم تفككت على يد أصحابها في الفتنة الكبرى، إن دولة الله لا تكون دولة صراع على السلطان وفتن وراء متاع الدنيا، لا تكون دولة تخلف واستعباد وذل للعباد وفتوحات وسرقة نساء وأطفال وهتك أعراض غيرها من الدول. إن دولة الله أكرم من هذا، إن الله لم يرد للإسلام أن يكون دينا ودولة.
অজানা পৃষ্ঠা