إهداء
دولة الإسلام عند المتأسلمين
اللاعنف والخراب العاجل
إهداء
دولة الإسلام عند المتأسلمين
اللاعنف والخراب العاجل
الدولة الإسلامية والخراب العاجل
الدولة الإسلامية والخراب العاجل
تأليف
سيد القمني
إهداء
إلى شعب مصر ...
من باب: اعرف عدوك.
دولة الإسلام عند المتأسلمين
من المدهشات في بلادنا، والغرائب عندنا كثير، أن تجد مذيعا في إذاعة مصرية، يطرح فكرا هو بالمرة ضد الدولة القائمة، وضد مجتمعها، وضد كل النظام العام للمجتمع. والمذيع المقصود هو الدكتور فوزي خليل الذي يعرف نفسه فيما يكتب وينشر بأنه «من كبار مذيعي إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة»، وبجوار هذا التعريف تعريف آخر يقول إنه حاصل على درجة دكتوراه في العلوم السياسية.
تعالوا نقرأ معا عملا كتبه كباحث يحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية بعنوان «الاجتهاد السياسي، تقاطعات المدني والفقهي».
http://islamonline.net/arabic/mafaheem/index.shtml .
يقدم لنا رأي الشريعة في عملية صنع القرار السياسي «فيكون المطلوب شرعيا هو: الاجتهاد في الحياة العامة لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وفق شروط وضعتها الشريعة، وأوصاف بعينها لا بد أن تتوفر في القائم بصنع القرار الشرعي الجالب للمصلحة والدافع للمفسدة».
كيف يمكن قبول مثل هذا القول من رجل يحمل دكتوراه العلوم السياسية في القرن الواحد والعشرين الميلادي؟ إن الرجل لم يقم بتفعيل أي مما تعلم سنين دراسته كلها بالمطلق وهو يعرفنا برأي الشريعة في عملية صنع القرار السياسي، فلا شيء فيما قال يشير بالمرة إلى سياسة بما هو مفهوم عنها. الرجل يعيش القرن السابع الميلادي وربما حتى العاشر أو الحادي عشر على الأكثر، فيعطينا الدرس لنتعلم كيف نصدر قرارنا السياسي وفق منظومة الشريعة الإسلامية مشروطا بشروط تتوفر في متخذي القرار، الرجل لا يرى ما حوله بالمرة مثل كل رفاقه من المشتغلين علينا بالدين، يتوهم أن للدول أن تتخذ قراراتها السياسية محليا وفق شريعتها، غير عابئ بما حدث حوله من متغيرات عالمية جعلت اتخاذ أي قرار سيكون له تأثيره على بقية العالم، في زمن لم يعد القرار السياسي يتخذ محليا وفق شريعة محلية بشروط تتوفر في صانع القرار؛ لأن صانع القرار الإيراني يعجز عن إصدار قرار علني واضح وصريح بتصنيعه السلاح النووي، والدكتور فوزي خليل وكل جماعته يعجزون عن إعادة مبادئ الشريعة للعمل بها؛ لأنه وكلهم معه يعجزون عجزا فاضحا أمام العالمين من تطبيق وفرض الجزية على غير المسلمين في بلادهم، وعجز آل الشيخ الوهابية في السعودية عن منع القرار السياسي المطلوب دوليا بمنع الرقيق حوالي عام 1963 ميلادية. وعجزت حكومة السودان عن تطبيق حدود الشريعة على مجتمعها، ولم تطبق من الإسلام سوى مظاهر شكلية كالحجاب والنقاب وإطالة اللحى. وحماس الفرع الفلسطيني للإخوان ظلوا يطلبون السلطة لتطبيق شرع الله، وها هي حماس حتى اليوم تعجز عن تطبيق الشريعة، التي زعموا أنهم إنما يريدون الحكم من أجل تطبيقها، ويعجزون جميعا عن إعادة التسري بالجواري بيعا وشراء وسبيا لإقامة قصور الحريم. ودول العالم الإسلامي بحكم انتمائها لعالمها وأممه المتحدة وقوانينه، تعجز جميعا من شرقها إلى غربها عن إعلان إقرار فقه الجهاد الإسلامي كقانون حرب تعمل بموجبه قواتها المسلحة، حتى أصبح «فقه الجهاد والقتل على الظنة، وحروب الإبادة الصفرية ضد الشعوب والقبائل الأخرى وعدد السبايا وطرق قسمتهن بين المؤمنين، وكذلك فقه العبودية برمته من بابه الأول إلى آخر صفحة في بابه الأخير بين دفتي القرآن وكتب السير والأخبار والطبقات والصحاح وكل علوم الدين» أصبح كل هذا من قبيل الروايات التاريخية، ولم يعد بإمكان أي دولة إسلامية أن تصرح به أو تبوح به خارج مدارس التعليم الإسلامي، أو ربما في خطبة عصماء في هذه القناة الخاصة غير المحسوبة على أي حكومة، أو في ذلك المسجد، هذا، علما أن فقه الجهاد كان الفريضة العظمى وكان أعظم مجلب لأعظم مصلحة عامة، كما يريد خليل، حيث كان يزود خزائن الدولة بالمال والقصور والنساء والعبيد. إن الدكتور فوزي وحكوماته ووزاراته وشعبه مرغمون جميعا على القبول بالشرعية الدولية بالقوة الجبرية، فخرج المسلمون على شريعتهم بالإكراه علنا وخضعوا للشرعية الدولية رسميا، والشرعية الدولية هي شرائع لا شأن لنا بها، ولم نتقدم للمساهمة فيها ولو مرة واحدة بمادة من مواد شريعتنا الإسلامية لعدم صلاحيتها لزماننا ، وأن من وضع الشرعية الدولية هم غير المسلمين من أمريكا لإنجلترا لفرنسا للصين لروسيا. وجاء قرار هؤلاء السياسي التشريعي ملزما للعالم أجمع، ولا علاقة له بالمنظور الإسلامي الذي يحدثنا عنه أستاذ العلوم السياسية.
وحتى نصدق الدكتور ونستمر في قراءة ما يطرحه علينا، كان عليه أن يشعرنا أن لاستهلاك الوقت في قراءته فائدة ومصلحة، بأن يشير لنا مثلا إلى عدد مرات رفضنا لقرارات الأمم المتحدة وتنفيذ هذا الرفض وما ترتب على هذا الرفض، منذ أغلقنا مضيق العقبة بوجه السفن الإسرائيلية وهذا حالنا من سيئ إلى أسوأ حتى اليوم.
وقبلها عندما رفضنا قرار التقسيم الدولي لفلسطين فكانت النتيجة هزيمة مروعة لكل الدول العربية، وضياع أراض عربية ضعف ما كان مقررا في التقسيم الدولي.
حتى نستوعب ونعلم بقدرتنا على اتخاد القرار السياسي وفق شريعتنا، هل بالإمكان أن تقوم دول العالم الإسلامي برفض قرارات الأمم المتحدة بقيام إسرائيل في قلب العالم العربي الإسلامي؟ هل بالإمكان رفض الدولة العلمانية التركية وإصدار القرار بتكفيرها، وهي تردد كل يوم أن لا علاقة لها كدولة بدين الإسلام لأنها دولة علمانية، رغم أنها كانت آخر معقل للخلافة الإسلامية منذ بضع عشرات من السنين.
إن الدكتور خليل ورفاقه يكذبون على شعبنا، ويغشون المسلمين بتقديم ما يوعز بأننا أهل قدرة، وأصحاب منعة، لدرجة أن بإمكاننا العودة بالبلاد إلى زمن العبودية والظلمات، ولا يبقى من ترداد تلك الأقوال سوى ترك أثرها الجارح في النفس الإسلامية وإشعار الشعوب الإسلامية بالدونية بين الأمم، ومع التأجيج المستمر في إعلامنا لمشاعر العداء الإسلامي لغير المسلمين، لا يبقى للنفس كي تطمئن سوى أن تقتل وتقتل، لا يبقى بيدنا سوى الإرهاب؛ سلاح الضعيف والمشلول القدرات.
إنهم يغشون شعبنا وهم يتحدثون عن وهم اسمه دولة دينية إسلامية سننتصر بها ونسود العالمين، ويستخرجون لها الأدوات والقرارات والشروط، بينما تاريخ الإسلام كله لم يعرف شيئا اسمه الدولة الدينية أو الإسلامية سوى زمن الرسول وحده، وكانت في ذلك الوقت عبارة عن تجمع قبلي يدين بالولاء لسيد واحد من قبيلة بعينها أصبحت فيما بعد هي السيد المطلق، ولم تكن بالمرة دولة بالمعنى العلمي المفهوم، حتى إن اسم الدولة أو الحكومة بما نفهمه منه اليوم، غاب بالمرة وبالمطلق عن كل التاريخ الإسلامي منذ جاء جبريل باقرأ وحتى اليوم؛ لأن رب الإسلام لو كان يريد دولة لدينه، لخلق لها الجماعة التي تضع ذلك وتدرسه وتطبقه وتضع له مواصفاته وشروطه ومؤسساته التي تشرف على تنفيذه وتحميه، وهو كله الكلام الذي لم يكن معلوما زمن الصحابة ولزمن بعيد بعده، حتى ظهور ابن تيمية وسياسته الشرعية وابن القيم وأعلام الموقعين وحسن البنا والإسلام هو الحل. لو أرادها الله دولة إسلامية لخلق هؤلاء زمن الدعوة ليجلسوا حول الرسول ويشيرون عليه بما يقولونه لنا اليوم، ويعظونه به كما يعظوننا، ولقامت الدولة مواكبة لقيام الدين، ولكانت قد جعلت العالم كله ديار إسلام منذ قرون مضت، وكان الله قادرا أن يخلق الدكتور فوزي خليل زمن الدعوة مع فريق من الإخوان والأزاهرة ليعلموا الصحابة معنى الدولة وشروطها، بدلا من أن يظل الإسلام والنبي والصحابة غير عارفين بها ولا بطريقة اتخاذ القرار السياسي حسب الشريعة، ويظل إسلامنا طوال تلك القرون ينتظر الدكتور فوزي خليل ليكتشف الدولة وشروطها في الشريعة الإسلامية، لكن بعد أكثر من أربعة عشر قرنا، ولكان وجود فلاسفة الدولة الإسلامية مع نظريتهم في المساواة والعدل والحريات والحقوق زمن النبي، كفيلا بقيام هذه الدولة المتحصنة بالشريعة ولما ظهر في تاريخنا الحجاج بن يوسف الثقفي، ولا يزيد بن معاوية، ولا هتك المسلمون أعراض بنات مدينة رسول الله، ولما أبادوا آل بيت الرسول، ولما حدثت الفتنة الكبرى لأنها كانت ستكون دولة حاكمة ذات مرجعية قانونية واحدة للجميع، تطبق على الجميع لا أن يدعي كل فريق أنه الإسلام الصحيح ليقتل الفريق الآخر.
الدكتور خليل بموضوعه هذا يعلن أنه في موقف المعارضة، والمعارضة الإسلامية والمتشددة تحديدا، ولكن بما أنه موظف في جهاز حكومي وإداري كبير، فإنه لا يذهب لإظهار دوافعه الحقيقية من أجل استيلاء جماعته ومن هم مثله على السلطة، إنما هو يقدم دافع ظاهري هو مصلحة الناس، فيقدم للناس «جلب المصلحة ودفع المفسدة»، يقدم لهم صالحهم كهدف أساسي يسعى إليه وكواجهة يختبئ وراءها بمشروعه الحقيقي، وقد تمرس هذا التيار الإسلامي بفن التخفي والتنكر، وبإشراك الناس نظريا في مشروعه، فيقدمون للناس حلولا يبدو الناس مشاركين فيها وطرفا من أطرافها، وعبر شعار هو الإسلام هو الحل، يمكن تقسيم المصلحة والمفسدة، فيستفيد أهل الدين كراسي الحكم، ويستفيد الناس حل مشاكلهم، مصحوبا ذلك الحل بالرضى الإلهي مما يعني أنه مضمون النجاح مائة بالمائة. وإن لم يتم حل المشاكل ولو واحد بالمائة، فيكفي الله خير ضامن لأجرهم في الآخرة. والحكاية كلها وهم في وهم؛ فلا الله أعلن عن ضمانه هذا المشروع للناس، ولا هو أعطى توكيلا للإخوان نيابة عنه في الأرض، ولا توجد مشاركة حقيقية للناس، ومن ثم لن يبقى من كل ما قيل سوى زيادة المفسدة والمزيد من ضياع المصلحة.
والناس أو المسلمون عند هؤلاء هم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فقط، وإن أراد المسلم مكاسب حقيقية ملموسة فعلية عينية، أن يلتحق بعصابتهم للمشاركة في الثورة على الظلم الحكومي القائم، والتمرد عليه لاستعادة عدلنا الإسلامي المفقود، ويتم ذلك بالتشويه الإعلامي المستمر لسمعة الحكومة بحسبانها أس كل فساد، بل وأنها النموذج لأسوا فساد ممكن؛ لأنه نوع خاص من الفساد، إنه النوع الذي أدى إلى سوء علاقة الرب برعيته، وأبرز الأدلة على ذلك هو امتناع السماء عن الاستجابة لدعاء الرعية على الحكومة؛ لأنه كان يكفي في أصل الشريعة أن ندعو عليها دعوة رجل واحد بدعاء المظلومين، آناء الليل وأطراف النهار لتسقط شذر مذر، لكننا ندعو وهي لا تسقط، إذن ثمة خلل في علاقتنا بربنا حتى إنه لم يعد يستجيب لدعائنا وبكائنا وتضرعنا إليه، ولا يبقى من حل سوى إزاحة الحكومات الكافرة، هنا سيعلم الله أننا قد أصلحنا ما بأنفسنا وقومنا الخلل ومحقنا الكفر، ومن ثم يصالحنا ويستجيب لدعواتنا في تدمير إسرائيل وإزالة أمريكا، عندما نصل بأهل الإسلام إلى السلطة ليطبقوا علينا شرع الله كعلامة خضوع كامل له كخطوة أولى على الطريق الصحيح.
لقد علم المشتغلون علينا بالدين أنه لا بد من إشراك الناس في مشروعهم ولو وهما، بجعل الناس أصحاب المصلحة التي سيحلها لهم المتأسلمون عندما يحكموننا عن طريق الرب، وليس عن مشاريع واضحة معلنة تحيطنا علما بها كبديل صالح لما تراه فاسدا، وحتى هذه اللحظة لم نقرأ برنامجا علميا واضحا لحل مشاكل الوطن تقدم به أي فريق من تلك الفرق المتأسلمة.
ولمزيد من التجييش يقدمون الأدلة للمسلمين على كفر الحكومة، بالبنوك الربوية، ووجود الخمارات في البلاد، والصلح مع إسرائيل، والفن الخليع الهابط، وهو ما يجعل الحكومة الحالية عائقا أمام تعاون الرب معنا واستجابته لدعواتنا.
هؤلاء عندما يفعلون ذلك هم صادقون مع تاريخهم؛ فقد كان تداول السلطة عند أسلافهم يتم بدعاية تقوم بها المعارضة مع دعوة لإشراك الناس في ثورتهم، ثم الانقلاب من بعدها على الناس، معاوية فعلها مع علي ومع المسلمين من بعد، أبو العباس السفاح أعلن عدم شرعية الأمويين حسب المواصفات القياسية الإسلامية الشرعية، وإنه إنما قام يطالب بحقوق الله وهي حكم الهاشميين وبني العباس تحديدا من آل البيت، وبهم سيقيم دولة البر والتقوى والعدل والإحسان والدين، فأقام دولة القتل والذبح والطغيان.
إدخال الدين في موضوع الدولة والحكومة، يسوغ لكل أن يرى ما يراه من تفسير لمقصود الشرع، ولإثبات خروج الحكومة على الشرع، وهو ما أدى إلى سوء العلاقة بالله، والحل بالعودة للشرع.
كلهم بلا استثناء لا يريدون تغيير الحكومات القائمة لأنها أدت إلى تخلف شعوبها، ولا لأنها أهملت الزراعة، أو لأنها فرطت في حقوق عامة للمواطنين كالمسكن والعلاج والعمل، أو أنها قصرت في حفظ الأمن والمرور وسيادة القانون، أو أنها قصرت في مواجهة الكوارث، فكل هذا لا يخطر لهم؛ لأنهم لا يرون الحكم أبعد من كونه نزاعا على ميراث، ولمن يئول هذا الميراث؟ نفس النزاع كان هو المؤسس لحكم الراشدين وفتنهم العديدة، كان نزاعا حول من هو الصاحب الشرعي للميراث، والرعية والأوطان هي التركة. في كل انقلاب قامت به فرقة للاستيلاء على الحكم لتنزيل الشريعة وصالح الدين والديان، لم تخفض الجباية عن الناس بل ضاعفتها، ولم تقلل من الضرائب بل اعتصرت الناس اعتصارا، ولم تلغ العبودية بل زادت من عدد العبيد. كان التغيير المطلوب وما زال هو إجابة على السؤال: من يحق له امتلاك الأرضين بما فوقها من رعية؟ بإرضاء رب الدين بتفعيل شريعته، وهي الشريعة التي استخدمها كل الفرقاء لإثبات فساد شرعية بقية الفرقاء، فكان أن أصبح كل المسلمين كافرين في نظر كل المسلمين.
يقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور فوزي خليل: إن المنفعة العامة (جلب المصلحة ودفع المفسدة) ستكون بالفتوى وبالاجتهاد، ويسميه الاجتهاد السياسي الإسلامي، وهو أمر يركن إلى تعريف للمصلحة العامة بما يراه لها من هو أعلم بمصالحنا منا، قياسا إلى شريعة الله الذي هو أعلم بمصالحنا منا. لا يرى هؤلاء حولهم في الدنيا أن صالح الناس العام لم يعد بيد من يفتي فيه من أهل العلم الديني والتقوى العارفين بالشريعة، ولا بيد من يريد الاجتهاد ليستنسخ لنا من الشريعة القديمة شريعة قديمة برداء محدث. المصلحة العامة هي التي يحددها الرأي العام، من يحددها هم الناس وليس المشايخ والمفتون والمجتهدون، ذلك كان زمان المماليك وأبي الحجاج الثقفي وليالي هارون الرشيد، ويوم نحس الخليفة الذي يعدم فيه أول من يصادفه من رعيته، ويوم سعده الذي ينعم فيه على أول من يصادفه منهم.
اليوم من يقرر الصالح العام هم الناس، هو رأيهم العام. اليوم يصبح الاجتهاد عملا ضد السلام العام للمجتمع المدني المحلي، وضد أمن وسلام المجتمع الدولي؛ لأن استدعاء ذلك الزمان بما فيه من الجهاد والسبي والفيء واحتلال العالم لإدخاله في نور الله؛ كفيل بتهديد الأمن الوطني والعالمي كله.
لكن لكي يكون الرأي العام معبرا عن مجتمعه حقا، فلا بد أن يتم ذلك في مناخ من الحرية في التفكير وفي القول وفي الاعتقاد، وفي اعتياد وجود آراء مخالفة يمكن أن تنتصر هي في السجال وتعمم نفسها على الرأي العام لثبوت نجاحها. الشرط الأساسي لرأي عام سليم هو أن يكون المجتمع قد ألف واعتاد التعددية في الرؤى، لأن رأيا واحدا سائدا يشكل عقلا مجتمعيا كاملا وفق قواعده وشروطه، حتى يصبح الناس كلهم طبعة واحدة؛ هو رأي عام مزيف، ملعوب فيه، وفي عقل المجتمع كله، ليصبح ضد نفسه، ويتحول إلى مجرد صدى للفتاوي. في هذه الحال يصبح الرأي العام غير معبر عن الصالح العام، إنما عن صالح فئوي تتحقق فيه الفوائد لرجال الدين وحلفهم، ولو قمنا بعمل قياس للرأي العام في بلادنا ستندهش أن تجده هو رأي رجال الدين الإسلامي بالتمام في كل شيء وفي كل شأن، وهو رأي صنعه لدى الناس رجل الدين وليس الدين، بعدما أصبح رجل الدين رقيبا على الرأي والفكرة، رقيبا على الآراء الأخرى حتى لا توجد بالمرة ولا يبقى في السوق سوى رأي واحد للجميع.
رجل الدين الذي يبحث عن المصلحة ويدفع المفسدة، يراقب المصنفات والمطبوعات، يهرع وراء كل مخالف في أي شأن بتهمة التكفير فلا يبقى حرا في المجتمع سوى رجال الدين كالعرب السادة القدماء، لهم وحدهم الحق في القول في كل شيء والتدخل في كل علم وفن بالفتوى والتفسير، ولهم كل وسائل التعليم والإعلام وتوجيه الرأي العام، حتى تم استئناس الرأي العام وتدجينه في حظيرة العباد الصالحين، هو النجاح الذي لا بد أن نعترف به لتيار الدكتور فوزي، بتحالف تحتي تمكنوا فيه من الاستيلاء على أجهزة توجيه الرأي العام في الدولة هم وحدهم ودون أي رأي آخر غير رأيهم. إن الاجتهاد الذي يطلبه الدكتور فوزي لا يعبر عن الصالح العام ولا الرأي العام، فهو رأي لا يقدمه المجتمع ولا يصنعه، بل هو رأى فئة وطائفة اختارت نفسها لمهمة الشياخة والفتوى، ومن ثم هيئوا الواقع كله ليبصم على قراراتهم وفتاواهم وهو مغمض العينين، فأصبح رأيهم رأيا عاما، بينما هو رأي خاص لجماعة خاصة، لتحقيق مصلحة خاصة، لهذه الجماعة بخاصة، وما أبعد ذلك عن صالح الوطن والمواطنين.
نتابع ما تطرحه الكوكبة الجديدة من المشتغلين بالإسلام السياسي، لإدخال الإسلام في كل مدخل ممكن من العمل السياسي، وضمن هؤلاء نتابع ما كتبه أستاذ العلوم السياسية الدكتور فوزي خليل حول كيفية صناعة القرار السياسي في دولة إسلامية تلتزم الشريعة عند صنع هذه القرارات.
يقول الدكتور فوزي: «إن عملية صنع القرار في الرؤية الإسلامية، بحكم مقاصدها ومرجعياتها، هي عملية ترتبط في تفاعلاتها بمفهوم التدبير، الذي يعني التفكير العميق والدراسة الواعية للأمور لتدبير الأمور في الأمة تدبيرا يصلحها في الدنيا والآخرة.» ودعما لما يقول يقدم استشهادا من كلام الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر؛ إذ يقول: «إن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.»
هنا نجد أنفسنا بإزاء أكثر من سؤال، هل ما يطرحه السيد الباحث هنا هو رأي رجل دين أم رأي أستاذ علوم سياسية؟ لأن الأمر يستشكل علينا ما بين إعلانه عن علميته التي حازها بأرفع الدرجات على المستوى العلمي في دراسة السياسة، وما بين ما يقول لنا هنا، خاصة مع ما يستخدم من ألفاظ ذات نكهة سلفية ورنين إسلامي عتيق، فماذا يقصد مثلا بالتدبير كمفهوم يرتبط بعملية صنع القرار في الرؤية الإسلامية؟ يعرفه بأنه تفكير عميق ودرس واع لتدبير الأمة بما يصلحها دنيا وآخرة. إذن التدبير تفكير عميق ودرس واع من أجل ماذا؟ من أجل العثور على التدبير الذي يصلح شأننا دنيا وآخرة. وهكذا تاه منا التدبير هل هو مبتدأ أم منتهي أم وسط عملية اتخاذ القرار السياسي، وهل هو وسيلة نصل بها مباشرة إلى صالح الأمة، أم أن التدبير هو هدف العملية «لتدبير الأمة بما يصلحها دنيا وآخرة».
ألفاظ زئبقية بلا معنى محدد واضح يمكن أن تضيف إليها أو تحذف دون أن يتغير أي شيء؛ لأنه في مساحة المفاهيم غير المتفق عليها يمكن لأي شيء أن يكون أي شيء، إن لم يعرفنا ماذا يعني بالتفكير العميق الذي هو التدبير المؤدي إلى التدبير؟ ولا كيف يتأتى لنا هذا التفكير؟ كيف ينشئه العقل البشري ليأتي بالشكل السليم؟ إن عبارات الدكتور وما يقدمه من مصطلحات يشير إلى إنها لم تأت بالشكل السليم، فليس من الضروري أن يؤدي التفكير العميق الذي هو التدبير إلى صلاح الدنيا والآخرة؛ فالأساطير والخرافات كلها كانت نتيجة تفكير عميق وتدبير، الدكتور لا يفرق بين عقول تفكر، وأخرى تفكر لكنها لا تعرف كيف تفكر، المسألة هي كيف نفكر؟ لا أن نفكر تفكيرا عميقا والسلام.
ومثل هذا التفكير الذي يعرف كيف يفكر ليصل إلى نتائج يطبقها في الواقع فيؤدي للنجاح والصلاح والمصلحة والتفوق، له أصوله الفلسفية والتي تم اكتشافها حديثا في عصر النهضة على يد فلاسفة ومفكرين عظام، أسسوا لاكتشاف الجديد وإبداع ما لم يكن موجودا، ووضعوا نظما حقوقية لحماية الكرامة الإنسانية، وأسسوا لعلوم السياسة وفق أدق المصطلحات، فليس عندهم تدبير بما يصلح الدنيا والآخرة، وإنما هناك تفكير علمي أنجز وحقق واخترع وأبدع واكتشف فأقام الحضارة الحديثة كأعظم حضارة عرفها الكوكب الأرضي.
وحتى لو قررنا التدبير كما يريد الدكتور فإننا سنعجز عن الوصول به إلى صلاح الدنيا وصالح الآخرة، لعدم أخذ الدكتور في الاعتبار بما وصلت إليه علوم السياسة وهي تخصصه الدقيق، وفق عمليات وآليات للتفكير والتعليم. ولأن صلاح الدنيا شأن مدني محض خالص لا دخل للدين فيه، وحتى إعمار المسجد الحرام والمسجد النبوي لم يقم على تدبير وتفكير عميق، بل قام على علوم الهندسة الحديثة وفنون قام بها متخصصون. ولو كان التدبير هو منشئ الصلاح في الدنيا، لكان مسجد النبي هو أفخم بناء أنشئ على الأرض لأن مدبره نبي وصحابه، بينما كان في واقعه بناء شديد التواضع إذا قيس ببيت ريفي في كفر من كفورنا. فالتفكير المؤدي للصلاح لا علاقة له بالدين أو بالإسلام أو بمصطلحاتهم السلفية؛ فالمصطلحات ليست أدوات سحرية تفعل بمجرد النطق بها. أما التفكير العلمي فقام خارج النبع الإسلامي، وقام بجهود أبناء الحضارات السابقة على الإسلام، فتنوعت هندساتها بتنوع أصولها الحضارية؛ فالمساجد في مصر غير المساجد في الشام غيرها في إسبانيا غيرها في جزيرة العرب، فشأن تدبير الدنيا شأن إنساني أرضي بحت. أما شأن الآخرة فهو ما ليس بيدنا إنما هو بيد رب الدين؛ لأن الآخرة ترتبط بالدين والعبادات وأصول التوحيد ... إلخ، ولا دخل بتدبيرنا فيها، فلا نحن نستطيع زيادة ركعات العشاء ولا الصيام في يناير ولا الحج في أمشير. هذه شئون الآخرة، وهكذا لا تجد بين يديك لا صالح الدنيا ولا صالح الآخرة.
ويدهشك ما يرطنون به هذه الأيام حول أخذهم بالحداثة وإيمانهم بالديمقراطية كسبيل للتداول السلمي للسلطة، واكتشافهم أسلوبا جديدا يتناول المستحدثات بحسبانها كانت موجودة في صلب الإسلام، فأصبحوا يفعلون في علوم السياسة ما يفعله مصطفى محمود وزغلول النجار في العلوم الفيزيائية.
ورغم كل هذه المشقة التي يبذلونها، تبدر منهم فلتات لسانية تشير إلى المرجع والمصدر الأصيل الذي لا يحيدون عنه، أنظره يدعم ما يقول عن صنع قرار سياسي بلغة تبدو حداثية، بقول الإمام الشافعي: «إن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.»
القوم ما زالوا يعيشون زمن كان هناك من يتصرف على الرعية، وأن عليه عندما يتصرف أن يرعى مصالح رعيته. وبدون وعي يلقي الرجل بشهادة يراها لصالح حداثته، فإذ به ينتكس انتكاسة عنيفة إلى زمنه الذهبي السالف، زمن كان الخليفة هو المتصرف على الرعية. ولا تعلم هل فيما درس من علوم سياسية أن التصرف على الرعية هو شأن من شئون الرعية، وأنها هي التي ترعى شئون نفسها، وأنها ليست قاصرة، وليست مستعبدة لسيد فاتح كما كان زمن الخلافة، حتى نقيم لها سادة أوصياء مرة أخرى تكون مهمتهم تدبير شئون مصلحتها.
إن عبارة التصرف على الرعية تعني أن الرعية ليس لها حق التصرف، هي الصورة التي تقبع في خلفيتها صورة الزمن الغابر عندما كنا عبيدا وعلوجا وأنباطا وأهل ذمة وأقنانا وجواري وإماء وغوغاء وعوام، لا يرون الدنيا حولهم وقد أصبح رجال الدين والعبيد والجواري والعوام كلهم سواء لأنهم كلهم شركاء في وطن واحد، ومن أجله يصنعون قرارا يعود على المجتمع بالمصلحة، أصبح الموالي وأهل الذمة يشاركون بالتفكير العميق لصنع القرار السياسي رغم أنف الإمام جلال الدين السيوطي.
المدهش في أمر سدنة الفكر الإسلامي اليوم في قولهم بالحداثة، هو تبنيهم لمبادئها من عدالة وحقوق إنسان ومساواة وديمقراطية ... إلخ، وتبنيهم في الوقت ذاته لمتصرف على الرعية منوط تصرفه بالمصلحة، وهو أمر يجد حل دهشته في ثقتهم أنهم قد تمكنوا من التحول بالمجتمع كله بعد تهيئته عبر وسائل الإعلام والتعليم والمساجد لقبول نظام المتصرفين على الرعية.
أما ما يدهش المتخصص في الدراسات الإسلامية، فهو من أين جاء الشافعي نفسه بهذه القاعدة الشرعية ومن أي حدث زمن الدعوة، أو من أي آية أو حديث خرج بها وجعلها أصلا إسلاميا للسياسة الشرعية عند الدكتور فوزي؟
إن إناطة مصلحة المجتمع بالتصرف على الرعية لم يكن واضحا عند المسلمين الأوائل، بل كان هو الغائب الأمثل بلا نظير، وكانت مصلحة المجموع هي آخر ما يعني المتصرف على الرعية، وإذا كان المفروض أن تكون المصالح واحدة غير متغيرة، فإن تاريخنا يقول إن كل خليفة من الخلفاء الراشدين قد تصرف على الرعية بطريقة غير التي تصرف بها الثلاثة الآخرون.
وإذا كانت مصلحة الناس هي المنوط بقرارات المتصرف عليهم حقا، فهل كان من المصلحة تغيير لغة مصر إلى العربية، فكان أن فقد المصريون والعالم كله وعاء حضاراتهم القديمة وهي خسارة حضارية فادحة ليس لمصر فقط ولكن للعالم والإنسانية أجمع، حتى تحولت آثار تلك الحضارة في نظر المصري المسلم اليوم إلى مجرد مساخيط. ولمصلحة من كان قرار إلغاء المصرية القديمة؟ مصلحة الحاكمين أم مصلحة المحكومين؟
لا يبقى من مفهوم المصلحة فيما تم طرحه حتى الآن، سوى عملية إشراك وهمي للناس لم تتحقق حتى في أفضل قرون التاريخ الإسلامي، هي ذريعة لإشراك الناس في استصدار تشريعات تجور على الناس، حتى إن تذمر الناس قالوا له بمنطق الدنيا إنها المصلحة العامة، وبمنطق الدين إنها إرادة الشريعة.
وإذا كان صنع القرار السياسي في عصر الخلافة الراشدة كان يتم وفق هذه الصياغات الكبيرة المحدثة التي يقدمها لنا الإسلاميون المحدثون أمثال الدكتور فوزي، فهلا عرفنا حضراتهم كيف كان تدبير السيدة عائشة زوجة النبي
صلى الله عليه وسلم
العميق لاتخاذ القرار بشن الحرب على ابن عم النبي وخليفته علي بن أبي طالب، وشقت على الإمام عصا الطاعة؟ كيف صنعت السيدة عائشة قرارها السياسي؟ وهل كان قرارها منوطا بمصالح المسلمين؟ وكيف رفض معاوية إعطاء البيعة للخليفة الشرعي علي بن أبي طالب؟ وكيف صدر قرار إبادة آل بيت النبوة إبادة شاملة في مجزرة هي الخزي ذاته في تاريخنا العتيد؟ وكيف تم اتخاذ القرار السياسي منوطا بالمصلحة لضرب الكعبة بالمنجنيق وتدميرها وحرقها على المستغيثين بها؟ هل كان هذا المجتمع مسلما أم غير مسلم؟ لقد كان هذا هو مجتمع الصحابة الذي يدعوننا إليه الدكتور فوزي وجماعته.
لا يشك أحد في سلامة إيمان الصحابة، لكن الواقع أن الإسلام لم يقصد إلى إقامة دولة يتخذ فيها القرار السياسي من الشريعة، فلم تكن الدولة ضمن أهدافه بالمرة؛ لأنها لو كانت هدفه، فلا شك أن دولة الصحابة كانت هي الهدف النموذجي للدولة الإسلامية محققا على الأرض، ولكن ما كان محققا على الأرض هو مما لا يليق أن ننسبه إلى الإسلام ولا إلى رب الإسلام؛ فالرب لو أراد دولة لهيأ لها ما يجعلها أعظم الدول عبر كل التاريخ؛ لذلك لا يمكن أن نصف دولة كلها دم وقتل وفتن بأنها هي دولة الإسلام التي يريدون عودتنا لها كي ننجو مما نحن فيه اليوم فنستجير من الرمضاء بالنار، الأكرم للإسلام ألا تنسبه إلى الصحابة مهما علا قدرهم لأنهم في النهاية بشر بضعف ومطامع البشر، والأكرم للإسلام ألا ننسبه إلى تلك الدولة الراشدة أو غيرها؛ لأنها لم تكن دولة الإسلام بل دولة العرب ودينها الإسلام. كانت إمبراطورية العرب، وما جرى فيها من ظلم وسحق وحرق يعود إلى مطامع تخص البشر العرب الحاكمين ولا علاقة للإسلام كدين بهكذا دولة.
الدين الإسلامي طلب منا الإسلام، ولم يطلب منا الدولة، طلب منا أن نعبد الله ونطيعه أملا في رحمته وكريم غوثه، ولم يطلب منا الانضمام إلى حزب الله أو حزب البعث، ولم يطلب منا الإسلام أن نستدعيه اليوم لنستمع إلى رأيه الشرعي في عملية صناعة القرار السياسي، بينما لم تكن السياسة ولا الدولة ضمن شواغله أو اهتماماته أصلا.
ويبقى أن نصف ما قال الدكتور بأنه عبارة نابية، فقولته «التصرف على الرعية»، عبارة تهين العقل وتشين المواطنين وتفرض عليهم الوصاية والهيمنة. أما كلامه عن التدبير والتفكير العميق فهي أدوات السحر والشعوذة، هي حركات بهلوانية كاذبة تعمد إلى إعطاء الإيحاء أنه يعمل بالعقل، بينما هو لم يعمل فيما قال حتى الآن سوى بالنقل.
الملاحظ أنهم الفريق الوحيد الذي ليس لديه أي حل مبرمج لمشاكل الوطن، فهم يضعون شرطا مسبقا هو تمكينهم أولا من الحكم حتى يأتونا بعد ذلك بالحل، فإذا كان هناك حل فهل حرام إعلانه على الناس؟ أم أن الحل جاهز وموجود هو ونموذج الدولة الإسلامية الراشدة كما يعلنون في حالات أخرى؟
ولهذا السبب تحديدا فإن المجتمع لا يبدو مقتنعا بصدق ما تطرحه عليه فرق الإسلام السياسي؛ لأنه لو اقتنع حقا وصدقا لصار منهم، ولشاهدنا في مصر سبعين مليون لحية غير مشذبة وسبعين مليون لباس باكستاني. شعبنا خجول وحساس تجاه الدين فيقدم ما يثبت هذا الحياء فيقبل الحجاب ويطبق الشروط الدالة على الإسلام على الطرف الأضعف، لكنه لا يطلق لحيته ولا يربط رأسه برباط أبي الحكم أو أبي لهب. لو كان الناس مقتنعين حقا لشاركوا في تغطية الإخوان المسلمين في الانتخابات بالحضور بنسبة 100٪ وليس 15٪. الناس منسحبون من مباراتكم يا دكتور فوزي؛ لأنهم يعلمون أنه صراع على الحكم وأنه ليس لهم ولا لدينهم مصلحة فيما يحدث.
نتابع معا استكشاف مجاهل الخطاب الإسلامي السياسي للعثور على ما يمكن التعامل معه، رغم خداع هذا الخطاب ومخاتلته وعدم شفافيته ولا وضوحه ولا تدقيق ما يقول من ألفاظ أو عبارات. نتابع أستاذ علوم سياسية يضع لسياستنا في الدولة الإسلامية المقبلة طريقة صنعها للقرار السياسي بالاستناد إلى الشريعة، حتى يتحقق الوئام ونكون قد أصلحنا بما في أنفسنا فينصرنا الله على القوم الكافرين.
يقول الدكتور فوزي خليل في: «إن لدينا قواعد صارمة وضعها علماء الشريعة يجب توافرها في القائمين على إعداد القرارات ذاتها، ومرجعية هذه القرارات.»
انظر هنا إلى اللغة والتعبير، علماء الشريعة وضعوا لنا قواعد صارمة، ولا تفهم لماذا علماء الشريعة دون غيرهم هم من يضع لنا القواعد طوال الوقت، وهي القواعد التي يصفها بأنها «صارمة». ولا تفهم كيف تلتقي الصرامة في التشريع مع ما يغنيه علينا بطول موضوعه، هو وغيره من فريقه، عن ديمقراطية التشريع الإسلامي.
إن الصرامة هي الجمود، وعكس الصرامة هو السلاسة والليونة والمرونة؛ أما الصرامة والحدود القواطع والأمور المنتهية غير القابلة للنقاش، فكلها مما لا يتفق لا مع الديمقراطية ولا مع الكرامة ولا مع الحرية. إنه يضع لنا هنا صنفين من البشر، صنف يسوس بشريعة الله ويضع القواعد الصوارم والحدود والقواطع، وصنف مسوس هو الرعية، عليه الطاعة بدون نقاش. هكذا سيحكموننا يا مسلمين ... هكذا!
إن الصرامة هي إحدى وسائل التعامل مع العبيد، ولا تصدر إلا عن قلوب صارمة حجرية تتفنن في صرامتها، وتغالي في احتداد هذه الصرامة يوما بعد يوم. التشريعات الصارمة لا تعرف التسامح ولا الرأي الآخر ولا المحبة ولا الإخاء ولا الليونة ولا التيسير على الناس ولا الرفق بالإنسان ولا بالحيوان. إن الصرامة مكانها الوحيد هو عندما نكون في حالة عداء وحرب مع دولة أخرى، الصرامة لا تكون بين أعضاء المجتمع الواحد؛ لأنهم إخوة لا أعداء؛ إخوة وأهل وأصدقاء على قدم وساق ليس بينهم سيد يفرض صرامته، ومسود يطيع وهو مصروم.
إن الصرامة التي يعجب بها المتأسلمون بشدة كما نرى، مأخوذة من تاريخ مضى وانقبر، كانت تناسب زمنها وتتفق مع وقائع قديمها، حيث الحكم بالسيف والعقاب بالسوط وأيضا بالسيف وبالرجم، الحاكم أو حد مطلق النفوذ في التصرف على رعيته. إن أدبيات الصرامة هي ما تغص به أرفف مكتبتنا التراثية، تسبب لمن يقرأها اليوم الألم والوجع لما كان يلحق بالعباد في دولة الصرامة من ظلم وطغيان يفطر الأكباد، وتشرح حال الرعية في عصور الظلام حيث في كل اتجاه قواعده صارمة لا تعرف الرحمة، كما أنها لا تعرف أيضا تيسير الإسلام كما كان في بكارته الأولى، قبل أن يصيبوه بالجهامة والغلظة بما أضافوه له عبر العصور، فأينما مددت يدك في تراثنا وجدت كنوزا من قصص الآلام والجبروت، أسوق لكم نموذجا لطيفا منه نقرأه معا من صبح الأعشى للشيخ أبي العباس القلقشندي؛ إذ كتب يقول: «وهذه نسخة مرسوم كتب به عن نائب المملكة الطربلسية إلى نائب حصن الأكراد، بإبطال ما حدث بالحصن من الخمارة والفواحش، وإلزام أهل الذمة بما أجرى عليهم أحكامه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، في أواخر جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة وقد جاء فيه: وأما أهل الذمة ممن رفع عنهم السيف إلا بإعطاء الجزية والتزام الأحكام، وأخذ عهود أكيدة عليهم من أهل النقض والإبرام، فليتقدم الجناب الكريم بإلزامهم بما ألزمهم به الفاروق رضوان الله عليه، وليلجئهم في كل أحوالهم إلى ما ألجأهم إليه، من إظهار الذلة والصغار، وتغيير النعل، وشد الزنار، وتعريف المرأة بصبغ الإزار، وليمنعوا من إظهار المنكر والخمر والناقوس، وليجعل الخاتم أو الحديد في رقابهم عند التجرد في الحمام، ويلزموا بغير ذلك من الأحكام التي ورد بها المرسوم الشريف من عدة أيام. ومن لم يلتزم منهم بذلك وأعلن بكفره وأعلى حكمه، فما له إلا السيف وغنم أمواله وسبي ذراريه وما في ذلك على مثله حيف. فهاتان مفسدتان أمرنا بإلزامهما فرارا من سخط الله تعالى وحذرا منه، إحداهما إبطال الحانة، والثانية إخفاء كلمة اليهود والنصارى، فليقدم الجناب المشار إليه باستمرار ما رسمنا به، ونرجو من كرم الله تعالى استمرار هذه الحسنة مدى الزمان، وليقمع أهل الشرك والضلال بما يلزم من الصغار عليهم والإذلال.»
هذه هي دولة الشريعة التي كانت تطبق الشريعة بدقة وهي الدولة التي يريد أن يستعيدها لنا الدكتور فوزي خليل وإخوانه. ويفلسف لها ويؤسس بلغة معاصرة تناسب زماننا فيقول: «يغدو الاجتهاد في مفهومه الأصولي هو الأساس الذي يقوم عليه الاجتهاد في العملية السياسية، الهادفة إلى الوصول إلى القرارات، التي تستهدف حفظ مقومات المصلحة العامة.»
إذن هو يقول إن الاجتهاد في العملية السياسية يسير عبر هدفين؛ الأول هو الوصول إلى القرارات، والثاني هو هدف هذه القرارات وهو أن تكون مهمتها حفظ مقومات المصلحة العامة، وتكون المصلحة العامة هي المحور الذي تدور حوله عملية الاجتهاد، وهو كلام جميل لا بد أن نتساءل قبله: ما هي المصلحة العامة وكيف نعرفها؟ ربما يكون طرح الأسئلة سبيلا للوصول إلى تعريف المصلحة العامة، فهل السعي لإقامة دولة دينية تمهيدا لإقامة خلافة إسلامية إمبراطورية من المصلحة العامة؟ لأنه سيترتب على ذلك حتما المصادمة مع دول العالم والمجتمع الدولي، وإعلان تمرد على الشريعة الدولية المتمثلة في مجلس الأمن والأمم المتحدة والقانون الدولي ومعاهدات جنيف.
سؤال آخر: هل من صالحنا العام أن نظل محكومين بإفتاءات تنهال علينا من كل فج عميق في كل طريق وفي كل مكان؟ إن المصلحة العامة شأن شعبي يخص الجميع، وليس مصلحة لجماعة محظورة أو لفريق من الشعب دون فريق آخر.
إننا كي نتعرف على صالح مجتمعنا العام، نحن في حاجة أولا إلى رأي عام رشيد يحدد لنا المصلحة العامة ويعرفها ليأخذ بها المشرع، وقبل هذا وذاك نحن بحاجة لفك أسر الرأي العام وإطلاقه حرا، بأن توضع أمامه خيارات وبدائل أخرى يمكنه المقارنة بينها والمفاضلة قبل الاختيار. وقبل كل ما سلف وكي نوجد حرية تصنع رأيا عاما رشيدا، علينا تحطيم الأنصاب والأوثان التي صنعها لنا رجال يشتغلون بالدين وليسوا هم الدين، إنما هم من يلعبون بالدين وبنا ويتحصنون بالدين ضد كل المجتمع. لن توجد حرية ولا رأي عام رشيد يمكنه تحديد صالحه العام طالما كانت قلعة رجال الدين زاخرة بالرماة المتمترسين بمقدساتنا، الذين لا يجدون غضاضة أبدا في خلع المواطن من الملة بشديد البساطة، ويقتلون مفكرا مثل فرج فوده بعد صدور فتوى بتكفيره من الأزهر، وينفون نصر أبو زيد من الأرض المسلمة لتأويه بلاد الكفرة وتحميه من عذاب رجال دين الإسلام وغضب سماحتهم وقاتم لطفهم وعسر تيسيرهم؛ لأن الرأي العام للمسلمين قد تم استئناسه واستعباده بمخترعات الإعلام الحديثة. أليس من قتل الرأي الحر مصادرة الكتب والروايات ومحاكمة الكتاب والمفكرين بتهمة التفكير؟
إن أحداث ميدان الأزهر ودهب وشرم الشيخ والعريش واغتيال الزعيم المصري الوحيد المعاصر الذي آزره رب العزة ونصره وأيده، يوم عيد نصره ونصر مصر كلها. اغتالوه رغم الماثل أمامهم من تأييد رباني، ثم حاولوا اغتيال سلفه في أديس أبابا، وقتلوا فرج فودة وطعنوا رجل نوبل العبقري رحمه الله، وطلقوا نصر من ابتهال وكفروا سيد القمني وحاكموه مرتين لولا لطف من الله وتأييده فحاز البراءة، فإن كان الحديث يقول: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فهو ما يعني أن الأزهر الذي طالب محاكمة سيد القمني، هو من باء بها، أليس كل هذا الذي يحدث اعتداء صارخ على حرية الفكر؟ أليس الادعاء بأن الإسلام دين ودولة هو دعوة لعودة الاستبداد الخليفي والإرهاب الفكري، لسلب الناس حرياتهم باسم مطالبة رب العزة لنا أن نقيم له دولة في بلادنا، يرأسها نوابه من الإخوان المسلمين؟
من صالحنا العام أن نعيش كبقية البشر في الدنيا أحرارا، لنا الحق في التفكير والإعلان عن نتائج هذا التفكير للناس، من صالحنا أن يكون لنا حقوق إنسان كاملة غير منقوصة، من صالحنا العام أن نرفض عودة العمل بنصوص الدين في دولة دين تنص على العبودية والجزية وجناح حريم. لقد نسخت القوانين العالمية والرأي العام الدولي العمل بآيات العبودية والجزية، وهي حتى الآن في فقهنا من نوع الناسخ من الآيات وليست من نوع المنسوخ، الاتفاقات الدولية نسخت الرق من الدنيا رغم أنه غير منسوخ في القرآن، ووافق المسلمون غير راضيين بل وبعد مقاومة، وتم نسخ الرق من حياة المسلمين بعد أن قالوا للأمر الدولي بهذا النسخ: سمعنا وأطعنا.
قرارات الأمم المتحدة نسخت فقها كاملا بما يرتبط به من حديث وقرآن هو فقه الجهاد والسبي وتغيير أديان الناس بالسيف، اليوم لم يعد هناك خمس ولا فيء ولا من قتل قتيلا فله سلبه، حركة التاريخ نسخت أحكام الرجم والجلد والقطع والجزية.
ورغم درس السماء في التغيير والتبديل والنسخ والرفع والإنساء لآياتها بما يجاري حركة الواقع المتغير المتطور، ورغم اتفاق العالم على إلغاء الرق والجزية فتوقفت الآيات عن العمل، فإن فقهاءنا يرفضون إعلان هذا الإلغاء بما هو في المصلحة العامة للبلاد والعباد؛ لأنهم لم يجرؤا كما جرؤ سلفهم الصالح على إلغاء تفعيل أحكام لتجاوز الزمن لها، مثل إلغاء عمر لمتعة الحج ومتعة النساء والفرض المعروف بسهم المؤلفة قلوبهم، وأن الرب عندما نسخ آيات، وأن الخليفة عمر عندما نسخ العمل بأحكام آيات ظلت منسوخة بأمره إلى اليوم كإلغائه سهم المؤلفة قلوبهم، ودون تدخل جبريل أو السماء، كان الهدف من النسخ في الحالتين هو مواءمة متغيرات الواقع الأرضي وتطورها من أجل الصالح العام، وتعد ظاهرة النسخ في القرآن من أبرز ظواهر مواءمة المقدس الإسلامي للمتغيرات، بحيث كان يجري تعديلات على ذاته توافقا مع هذا المتغير واعترافا به، من أجل مصالح المجتمع العامة التي لا بد أن تساير التطور.
تتوافق أيضا ظاهرة النسخ في الوحي مع قانون الكون كله وهو التغير والتطور، وضرب لنا منها القرآن الأمثال لنفهم ونتغير عندما يكون التغير مطلوبا، وحدثنا عن قوانين سقطت بحكم حركة التاريخ كما في نسخ الأحكام للأحكام؛ لأن التاريخ لو تجمد لما هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولما انتصر في بدر، ولظلت الآيات المكية فاعلة، ولكان القرآن كله مكيا داعيا للمسالمة والمعاملة بالحسنى والصبر الجميل، لكن التاريخ تحرك فظهر الطارئ الجديد، حتى جاءت آية السيف لتنسخ آيات حرية الاعتقاد وأي تفكير خارج المقدس الإسلامي تحديدا. والتاريخ ما زال يتحرك والدول من يومها تقوم وتسقط لتنتهي ويقوم غيرها أحدث منها وأقوى، وأكثر نظاما وانضباطا لما حصلته من خبرة سابقة تؤدي إلى تحسن نوعي مع تراكمها، فتتحقق العدالة اليوم بأفضل مئات المرات مما كانت بالأمس، حتى لو كانت محكومة بقوانين مقدسة، فلم يعد لدينا عبيد ولا سبي ولا نكاح الإماء، وأمكن محاكمة الطاغية وشنقه علنا، وما زالت حركة التاريخ تستهلك قوانينا وتخلق الأكثر منها إنسانية. لقد ذهبت حركة التاريخ بقوانين حمورابي وبالحركة النازية والشيوعية، وكذلك نسخت الآيات المدنية آيات مكية، وكذلك فعل التاريخ عندما نسخت قوانين اليوم الحقوقية نظام الجزية والعبودية والجلد والرجم والقطع والمنجنيق والسيف والرمح.
ومن ثم لا يبقى مع موقف مشايخنا سوى أن يصمتوا أو أن يجترئوا جرأة عمر؛ لأننا نحن أصحاب الصالح العام، ونفهم من ديننا أن الله بمنهج القرآن الخاص جدا دون كل الكتب السماوية أن النسخ مطلب دوري كلما طرأ طارئ، وأن عمر عندما نسخ أحكام آيات وأوقف العمل بها نهائيا رغم أنها كانت فروضا بالمعنى الدقيق للكلمة كان يطبق تلك القاعدة الإسلامية الذبية النادرة بين كل الأديان، كان النسخ في القرآن وعند عمر يهدف إلى الصالح العام للناس بما فعلا، فعل الله أولا، وفعل الرسول مع أحاديثه نفس الفعل، وفعل عمر بفروض الله نفس الفعل، وأننا عندما نعلن أنه لم يعد في صالحنا العام أن نتحدث عن جهاد أو هتك أعراض المهزوم أو سبي الأطفال والنساء، رغم وجود آيات بذلك، فهو ما لا يعني أننا قد كفرنا بالله؛ لأن الكافر بالله هو من ينكر وجوده وينكر قدرته الكلية، وهو ما لا ينكره أحد؛ لأننا نعرف الله ونعرف مقدساته ونؤدي له فروضه، كما نعرف أيضا أنه ترك لنا مساحات حرة واسعة لم ترد في النصوص، وأننا أحرار في اتخاذ القرار فيها بأنفسنا، وأن تلك المساحات اتسعت كثيرا عن زمن النبوة لظهور متغيرات هائلة لم تكن موجودة زمن النبوة ولم تصدر بشأنها أي أحكام، كما نعرف أنه ضرب لنا المثال بالنسخ عنوانا لمبدأ إسلامي في التغير، وأكده عمر وزاد عليه أنه بإمكان المسلمين أن يفعلوا ذات الفعل في الواقع بدون وحي، فكفانا المثال لنتخذ ما يناسب الصالح العام لزمننا بعد مضي أربعة عشر قرنا عن عمر الذي غير بعد عشر سنوات واضطرته حركة الواقع إلى إلغاء العمل بنصوص قرآنية بل وبفروض.
كل هذا في جانب، ومفلسفو الدولة الإسلامية الآتية في جانب آخر، لا زالوا يتحدثون عن الوصول إلى الصالح العام عبر عملية الاجتهاد الإسلامي، أو كما قال الدكتور فوزي خليل: «يغدو الاجتهاد في مفهومه الأصولي هو الأساس الذي يقوم عليه الاجتهاد في العملية السياسية الهادفة إلى الوصول إلى القرارات التي تستهدف حفظ مقومات المصلحة العامة.»
المصلحة عامة، ويعلم الدكتور فوزي وبطانته ذلك ويفهمه، لكنه لا يرى الناس قادرة على فهم مصالحها، يرون المسلمين دون العالمين أشد الناس تخلفا وعتها وكساحا حتى إنهم لا يستطيعون معرفة صالحهم العام، فهناك من يعرف لهم هذا الصالح وليس مطلوبا منهم أي بذل جهد بهذا الخصوص، فسيقوم الشيخ عاكف أو الشيخ قرضاوي بالاجتهاد نيابة عنا؛ لأن الاجتهاد ليس عبثا مشاعا بين الجميع؛ لأن المجتهد يجب أن تتوفر فيه شروط صوارم، وعندما تطالع هذه الشروط ستجد أنها لا تتوفر إلا في المشتغلين بالدين على المسلمين، من الأزاهرة، ومن الإخوان المسلمين، ومن مشايخ التلفزة والفضائيات. ومع هذه الشروط يتم استبعاد جميع المسلمين من الإعلان عن مصلحتهم العامة حتى لو عرفوها، لأنها إن صادمت رأي الشرع أو تصادمت مع مصالح راعي الشرع على الأرض من مشايخ، فإنها ستكون كفرا وعصيانا لله، ومن ثم لا يبقى سوى اجتهاد الفقيه ورأي الفقيه ومصلحة الفقيه إضافة بالطبع إلى جماعات المنتفعين والتنفيذيين في أجهزة الدولة، إن نظرية الاجتهاد تضيف إلى هؤلاء أيضا الشيوخ المسلحين، الذين أمكنهم في ظرف تاريخي لن يتكرر أن يوقفوا حركة العراق نحو النور، بل وإعادته إلى زمن الحروب الجهادية، ويريدون أن يعيدوا مصر إلى دولة الخلافة بعد أن كانت أول دولة تتحرر من الخلافة على يد محمد علي عام 1805م.
اللاعنف والخراب العاجل
إن لكل لفظة في أي لغة مدلولا محددا، يتصوره الذهن ويعرف معناه، لكن في عصر بذاته محدد زمنيا ومكانيا أيضا بذاته له سماته المميزة؛ لأن اللفظ يكتسب مدلوله من الخبرة بالمكان والزمان والبيئة ودرجة التحضر ومكونات المجتمع وأنماطه الاقتصادية. فإذا تغير المكان والزمان واستمرت اللفظة قائمة لم تندثر فإنها لا بد وأن تكتسب مدلولا جديدا يليق بهذه المتغيرات؛ فاللفظة حقيبة نضع فيها ما نشاء وما نحتاج إليه من أفكار ومعان ودلالات ومفاهيم، ويمكننا الإضافة إليها وكذلك يمكننا الحذف منها وفق آليات المتغير الموضوعي، وربما تستمر اللفظة هي هي لكن مضمونها لا بد أن يتغير، كذلك دلالاتها وما نفهمه منها، كذلك يمكن أن تختفي هذه الحقيبة بالمرة وأن تظهر حقائب أخرى جديدة. وعليه فإن أي نص تم تدوينه في زمن ومكان بعينه ، فقد تمت صياغته وصبه في قالب زمكانه، فينطبع بطابع ثقافة مجتمعه، وتقاليده، وعاداته، وسلوكيات أهل زمانه وقيمهم وقواعدهم الحقوقية.
ولا يمكن إدراك الفهم الحقيقي لدلالات أي نص باستخدام ثقافة مختلفة عادة ما تؤدي إلى نتائج زائفة ومضللة؛ لأن النص هو حفرية لغوية تحمل صورة حية لمجتمعها الذي صاغها ومحيطها البيئي وزمانها.
ومع التطور تظهر ألفاظ وتعابير جديدة، مع ظهور الجديد دائما في حياة البشر من كشوف ومخترعات وعلوم طبيعية وإنسانية وقيمية وقانونية وأخلاقية ... إلخ. وتحمل هذه الألفاظ الجديدة تاريخ ميلادها بدلالات زمن نحتها أو تخليقها، لتضاف من بعد إلى المعجم اللغوي لأصحابها ومخزونهم المعرفي، وتظل مستمرة لتحمل دلالات جديدة أو تتغير أو تختفي من اللغة.
مع التسارع الهائل في الكشوف والمتغير التطوري الصاعد للبشرية، حدث ذات التسارع على مستوى اللغة ميلادا وموتا وتطورا. ففي مصر كانت هناك ألفاظ أساسية يعرفها الجميع لارتباطها بطبيعة البلد الزراعية زمانا ومكانا وبيئة، ظلت معلومة حتى لأبناء جيلي، لتختفي من بعد مع ظهور الميكنة الزراعية المتطورة، وذلك مثل كلمة الشادوف والطنبور والنورج، لن تجد من يعرفها من أبناء القرية المصرية اليوم؛ فقد اختفى اللفظ باختفاء الشيء، فكان الشادوف والطنبور لرفع المياه وهو ما لم تعد له حاجة مع مكائن الرفع، واختفت كلمة النورج باختفاء النورج الذي كان آلة بدائية تفصل القشور عن الحبوب، لكن زمن النورج والشادوف والطنبور لم يكن أحد يعلم معنى كلمة تليفزيون أو كمبيوتر أو ريموت كنترول لأنه لم يكن عرف بعد في بلادنا.
وغير أسماء الأشياء هناك التعبيرات ذات الدلالات المعنوية، وذلك مثل «علاقة شريفة» بين ذكر وأنثي، فهي عندنا تعني عقد نكاح علني بين الزوج (الذي عليه دفع أجر المرأة مهرا مفروض شرعا) وبين ولي المرأة، بينما ذات التعبير في مكان آخر بالغرب في ذات الزمان يحمل دلالة مختلفة تماما، فهو تراض بين ذكر وأنثى ولا دور للمجتمع ولا للدين بالمنع أو بالسماح أو لتشريف العلاقة أو لتبخيسها؛ لأن الدلالة الجديدة ليست حلالا أو حراما بقدر ما هي شأن شخصي لا دخل للدين أو المجتمع بها، بل إن مهمة المجتمع حمايتها ورعايتها؛ فدلالة العلاقة الشريفة في الغرب تقوم على حرية الاختيار والتراضي التي هي عندهم قدس الأقداس.
وقياسا على ما سلف لا يعود هناك أي معنى للقاعدة الفقهية التي تقول: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.) والتي ربما جازت في التعميم على زمانها، لكنها لا تصح بالتعميم على كل مكان حتى في زمنها.
وطالما أن الإسلام قد ظهر في جزيرة العرب وبلغتهم في القرن السابع الميلادي، وحتى نفهم مقاصده الحقيقية، فلا بد أن نتعامل مع الألفاظ بدلالات زمنها، كما كان يفهمها أهل مكانها البيئي وظرفهم الاجتماعي والاقتصادي، وليس كما يشرحها لنا وعاظ أيامنا ليحملوها بدلالات لم يقصدها السلف ولا أرادته اللغة بل ولم تعرفه اللفظة أصلا.
لمزيد من التدقيق نضرب أمثلة أخرى، فكلمة الناس الواردة على تكرار في القرآن والحديث والرسائل المدونة والنصوص الأخرى المختلفة لأهل ذلك الزمان، كانت تعني بالناس العرب وحدهم، ومع ازدياد عدد المسلمين أصبحت تخص العرب المسلمين وحدهم، وهو موقف نفسي ينعكس في اللفظ، وشأن مكرر ومعلوم حتى عند أقدم الشعوب المتحضرة؛ فالمصري القديم مثلا كان يقصد بلفظ الناس المصريين وحدهم، وما عداهم أنواع أدنى من الكائنات شبه الإنسانية، وفي زمن الإمبراطورية المصرية تم السماح للأجانب بالتجارة في مصر والسكنى فيها؛ مما دفع الحكيم، نفررحو، وهو يتنبأ بنهاية العالم ومجيء يوم الدينونة للقول: «انظروا، إن نهاية الأيام تقترب، ألا ترون الأجانب في مصر قد أصبحوا من الناس؟!»
وهو نفس الموقف الذي تبناه الرومان فكانوا هم الناس وما عداهم برابرة، اعتزازا بتطورهم الحقوقي والقانوني، وهو ما كان يدفعهم لرؤية المجتمعات التي بلا قانون في حكم التجمعات الحيوانية المتوحشة.
وكلمة مثل «الأرض» كانت تستخدم في بلاد العرب الوعرة للدلالة على جزيرة العرب بالذات، وأحيانا تتم إضافة دول العالم المعروف لبدو الجزيرة. وفي هذا الحال كان يفضل العربي لفظ «العالم» لكنه لم يكن يعلم ما يعلمه تلميذ الابتدائي اليوم، وما تستحضره لفظة الأرض من دلالات ومعان، فهي اليوم تستدعي النظام الكوكبي مقارنا بالنظام النجمي الشمسي، مقارنا بنظام المجرات النجمية، وخصائص كل منها، وأن الأرض ضمن تسعة كواكب هي المجموعة الشمسية، وأن للأرض خصائص أخرى فهي تتكون من خمس قارات وستة محيطات و... إلخ ... إلخ.
مثال آخر من لون المعاني المجردة، لفظ «القدرة»، كانت تعبر عند العربي عن القوة المادية والبدنية بإطلاق؛ ففي رسالة الغفران التي وصلتني بعد إعلان توقفي عن كتابة كفرياتي في روز اليوسف تحت التهديد بالقتل، جاء القول: «وحسبك أنك نجوت من قتل محقق، إي والله، بعد أن أعددنا البيان الذي كنا سننشره على الإنترنت بعد قتلك. وقد اعترض بعض الأخوة على إيقاف العملية، على اعتبار أن الزنديق لا تقبل توبته وإن تاب، ولكن الأمير حفظه الله حسم هذا الخلاف بترجيح أن المرتد إن تاب قبل القدرة عليه تقبل توبته، لقوله سبحانه:
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم .» ا.ه. وهو ما يقوم على عدم قبول الله إيمان فرعون عند الغرق وهو تحت القدرة، والمعنى أني قد تبت قبل أن يصل السلاح إلى عنقي، أو على الأقل قبل خطفي.
كانت القدرة هي القوة المادية بإطلاق، بينما اليوم أصبحت القدرة مخزنا لقوانين العلم واصطلاحاته، فهي الفولت في الكهرباء، وهي الحصان أو الطن في المحركات، وهي الأمبير، وهي الأوم والوات في الصوتيات، وهي الريختر في الزلزال، وهي الأوزان الذرية ... إلخ، لكن أصحاب التهديد الإرهابي الذين ردوا على توقفي عن النشر برسالة الغفران، يحفظون اللفظ في لفائف دلالاته القديمة ليحمل ذات الدلالات القديمة، وهو أسلوب مفهوم متسق، لا يعمد للتزوير والخداع والمراوغة اللفظية، وهو خطاب يقف في مكانه الطبيعي داخل منظومته دون تنافض؛ لأنه يحدد إدراكه وفق ما تمت كتابته بفكر وعقل من كتبه يوم كتبه. المشكلة فيمن يزورون علينا وعلى المسلمين كذبا ونفاقا، ويقدمون لنا ألفاظا وتعابير من الماضي محملة بدلالات من فكر وعلم وتقاليد وعادات وقوانين اليوم. المثير للرعب أن هذا الخطاب المخاتل يجد صدى لدى من يملكون القوة في العالم اليوم من دول عظمى، وتنطلي عليهم خديعته لأنهم خارج كل تعقيدات الفرق الفقهية المتراكمة عبر الزمن، ومن ثم لا يملكون أدوات النفاذ للدلالات الحقيقة لما يطرحه الإسلام السياسي على عالمنا اليوم، فيتصورون ذلك اعتدالا بعكس التطرف الدموي، ويفهمون عنهم أنهم قوم وسطيون يدعون للمحبة والتسامح والمساواة، ويتلهفون على الديمقراطية تلهفا، بينما شاعرهم الأمجد يشرح شأن العرب قائلا:
نحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
لكن هذا الفريق المعتدل الوسطي الديمقراطي هو نفسه من يحدثنا عن المقاومة الشريفة في العراق الحزين، المقاومة بتفجير الأجساد، سواء كان الجسد جسد المفجر، أو جسد الأم الممزق وجسد طفلها الرضيع في حضنها يرضع ثديا ممزقا، سواء كان يهوديا أو مسلما أو أي ملة أو أي لون. ويقول لنا المعتدلون إن هذه المقاومة دفاع شرعي عن الوطن! فأي وطن يقصدون؟ يقولون إنهم يفعلون فعل فرنسا (مقاومة وطنية) عندما احتلها النازي! ولكن هل في الإسلام أي مفهوم عن الوطن كما هو حال فرنسا؟!
إن الإسلام لم يكن فيه معنى للوطن كما نفهمه اليوم، ولا حتى كما فهمه العراقي القديم، أو الشامي أو المصري القديم؛ لأن الإسلام هو الوطن ولا يعترف بالأوطان لأنه إنما المسلمون أمة لا إله إلا الله أينما كانوا بدون حدود وطنية، وحتى هذه اللحظة الراهنة لا يعترف هؤلاء بالوطن والمواطنة جميعا على اتفاق، من ابن قرضاوي إلى ابن عاكف إلى ابن هويدي إلى ابن باز، فلماذا إذن المقاومة؟! أم الصواب أن يتم الاعتراف أولا بالوطن وإعلاء شأن الوطنية على بقية القيم أرضية كانت أم سماوية حتى يمكن الحديث بعد ذلك عن المقاومة الوطنية. ورغم ذلك يستخدمون اللفظ المستحدث «المقاومة» للدلالة على جرائم حرب وإبادة جماعية بكل معنى الكلمة، فهي حرب بربرية يخوضها الإسلام السياسي والوهابي والشيعي بمنطق ما وراء ألف وأربعمائة عام مضت، على أرض العراق ضد العراقيين جميعا.
الملحظ الطريف أنهم وهم يتحدثون عن المقاومة في العراق لا يصفونها أبدا بالوطنية، إنما هي المقاومة الشريفة، هي المقاومة الباسلة، هي المقاومة الاستشهادية، هم أسود الله . أما المتكرر المعتاد فهو المقاومة الإسلامية، وهو ما يعني فورا أن الموتى من المسلمين على أيدي هذه المقاومة الإسلامية هم من غير المسلمين. هذا قول المعتدلين.
أما الأكثر طرافة فهبتهم هبة رجل واحد للحديث عن الحريات وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية والعدل، وترديدهم ذلك من باب التأكيد أنهم قد آمنوا بهذه القيم الإنسانية الراقية، وأنهم سيشاركون في عملية الإصلاح، وهو ما يعني أن هناك فسادا يعرفه الجميع؛ لأن الجميع يدعون إلى الإصلاح، نحن، وهم، والدول الأجنبية، وحتى حكوماتنا تدعو للإصلاح، ولا نفهم لمن نوجه دعوتنا بالإصلاح، العالم كله يدعونا للإصلاح، وهذه الدعوة المخجلة المهينة موجهة للمسلمين دون شعوب العالم. والملاحظ أن المشايخ أو الكهنة والدولة التي هي الحكومة، والحكومة التي هي الدولة (هذا خط بلادنا)، والإخوان المسلمين، وجميع الأحزاب والهيئات يطلبون جميعا الإصلاح، كما لو أن أحدا قد منعهم قبل ذلك من الإصلاح عبر زمننا الطويل الأسود من قرن الخروب، كما لو أن هناك من اعترض محاولة تطبيق أي من تلك الألفاظ المحترمة التي يلوكونها منذ فجر الخلافة، وحتى يومنا الهباب الحالي، ولو مرة يتيمة واحدة.
مشكلتنا إذن هي مع فريق النصابين المشتغلين بالدين علينا، الذين يقومون باستحضار الألفاظ من أكفان 1425 عاما مضت ثم يحملونها بدلالات ومفاهيم زماننا، رغم أن دلالات لفظنا الحفري لا علاقة لها بدلالات اليوم، بل يصل التباعد بينهما إلى درجة النقيض الكامل. إنهم يعيدون فرش بيت أجدادنا المهجور العتيق الذي تسكنه الخفافيش والسحالي والغيلان والبراق وناقة صالح وصاحب الصيحة، من أرقى بيوت الخبرة الفرنسية من بيت ديكارت، وبيت روسو، وبيت فوليتر، ومن كبريات دور الحقوق والأمريكية المؤسسة كديكور حداثي متفوق، تقف جميعا في خدمة حرية المواطن الفرد. ثم يقولون لنا إن هذا هو ميراث أجدادنا. يقول الغرب: ديمقراطية نقول: عندنا شورى، يقول الغرب: انتخابات حرة نقول: عندنا بيعة، يكتشفوا فاكسينات للقضاء على معظم الأمراض القاتلة، نعيد نحن اكتشاف بول الناقة كسبق علمي لأنه فاكسين لكل ما اكتشف وما لم يكتشف بعد، فاكسين رباني لم يصنعه بشر .
هذا رغم أن المسلم زمن الدعوة لم يفهم من الشورى ما نفهمه اليوم من الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية بمعناها المعاصر هي شأن معاصر لم تكن له دلالات معلومة من المخزون الثقافي البشري قبل اكتشاف العقد الاجتماعي والمبادئ الحقوقية ثم الديمقراطية المعاصرة، نعم كان لها جذورها الأولى عند الرومان وقبلهم عند اليونان، إلا أن الإسلام ونصوصه لم يأتيا بذكر لهذه الديمقراطيات الأولى بالمرة.
وضم هذا الفريق المتفلسف الحداثي مجموعة لا تملك معها إلا الشعور باحتقار وازدراء حقيقيين، وهم من يطلعون علينا كل يوم بتفسير عصري جديد للقرآن والحديث، مع كل إضافة علمية أو مع أي كشف جديد يريدون تكريس وهم سار مسرى الحقائق بين المسلمين وهو صلاحية مأثورهم للعمل في كل زمان ومكان، بينما ما يفعلونه هو إعادة ترجمة اللفظ القديم وتحميله بثقافة ومعارف زماننا، التي لم تكن موجودة في مخزون المسلمين الثقافي قبل تلك الترجمة. الغريب والمثير للدهشة والقرف معا، هو أنهم مثل الجميع يؤمنون بحقيقة التخلف الذي آلت إليه أمة محمد في قاع العالم، وأنهم مثل الجميع يؤمنون بضرورة إجراء إصلاحات تحديثية لمجتمعنا على كل المستويات، حتى يمكن لبعض أمة محمد أن يلحقوا بآخر قاطرة في قطار الحضارة.
وهو ما يعني أننا نعاني من تخلف علني مهين مروع لم يعد بالإمكان تزيينه بمساحيق التجميل لشدة قبحه. وصلنا معه إلى مرحلة لم تعد حتى تثير شفقة الضمير العالمي التي تثيرها لديه الحيوانات حتى غير الأليفة منها حرصا على بقاء نوعها، لقد هبطنا عن ذلك الدرك مسافات. هبطنا لدرجة السطو على المنجز الإنساني بكل علمائه ومعاهده وأبحاثه والأموال المصروفة والجهود البشرية المبذولة بكل بساطة، بإعادة ترجمة اللفظ وتحميله بثقافات ومعارف زماننا غير الموجود من الأصل في مخزوننا الثقافي المتضمن في اللفظة القديمة، وهو تزوير مفضوح يبذلون فيه جهودا جمة دون أي عائد أو ناتج يعود على المواطن أو الوطن، سوى مزيد من غيابه في غياهب جهله المركب.
انظروا معي لفريق رجال الدين الذين قرروا دخول مباراة الإصلاح فاكتشفوا أن الديمقراطية ليست شيئا سوى الشورى الإسلامية، وهو ما يستدعي التساؤل الساذج: إذا كانت الديمقراطية هي الشورى؛ وكانت مبادئ الديمقراطية وقيمها ومؤسساتها معلومة لدى الصحابة، فلماذا لم يفعلوها؟! لماذا لم يقيموا مجتمعا يقوم على العقد الاجتماعي ويقنن للإنسان حقوقا ويقيم لتلك الحقوق دستورا وقانونا ومؤسسات تحميها، ويقيم هيئة أمم متحدة ومحكمة عدل دولية كناتج ضروري للديمقراطية قبل أن يكتشفها أهل الطاغوت بخمسة عشر قرنا.
لماذا لم يفعلوها وينقلوا مجتمعهم وزمنهم كله نقلة عظيمة كانت كفيلة بجعل أمة المسلمين سيدة أمم العالم حتى اليوم؟ وكنا علمنا الغرب كما سبق وعلمناه الأسطرلاب والسيمياء والخوارزميات وبقية أشيائنا العجيبة الهندية والرافدية والشامية والمصرية، ولتقدمت البشرية إلى مسافات لا تدركها المخيلة عما هي عليه اليوم. لماذا لم يفعلها الصحابة إذن؟
العجيب أن دعاة الإصلاح من مشايخنا يرون أن الإصلاح يكون بالعودة إلى ما كان سببا في حاجتنا للإصلاح؛ بالعودة لخير القرون إلى زمن وناس قتلوا بعضهم بعضا على الدنيا، ولم يعرفوا كيف يصلحون مجتمعهم ومعهم رب السماء والصحابة والمبشرون بالجنة وأمهات المؤمنين بعد ذلك ظهيرا بدلا من قتل بعضهم بعضا. لو كانت معلومة لديهم لفعلوها وتفتحت أمام الإنسانية آفاق علم عظيم مبكر، ولما لجئوا بصلاة الغيث لإنزال المطر حتى اليوم، بل لأنزلوه بالعلم قسرا وجبرا كما فعل الكافرون، ولما لجئوا لحل مشاكلهم بالصلاة والأدعية والقنوت كما هو حالنا حتى تاريخه. ولو قلنا إن الديمقراطية كانت لديهم ولم يطبقوها فسيكون ذلك ظلما عظيما لهم، وظلما عظيما لديننا لمطالبته بما ليس فيه فنضعه أمام حائط المستحيل، خاصة مع فشل التطبيق المعلوم بدون تزويق في كتبنا التراثية على مدى القرون الماضية، ومع هذا الفشل يكمن السبب هو أنهم ما كانوا يعلمون معنى التعددية والحرية والحقوق، فاختفت كل الفرق الإسلامية لأن سادة الدين وسدنته حلفاء السلطان رفضوا أي فرقة سواهم؛ لأنهم ببساطة لم يعرفوا معنى الحرية والتعدد الديمقراطي بالمرة. وهذا أيضا ظلم لعقولنا عندما يطلبون لنا تجربة أثبتت فشلها على مدار أربعة عشر قرنا فشلا تاما وكاملا وذريعا بكل ألوان الفشل وتفاصيله ومعانيه . إنه ليس ظلما لعقولنا فقط بل هو إهانة علنية لها.
وحتى عشية حضور العم بوش إلى المنطقة مباركا؛ كان الإسلاميون يصرون على الخلافة والقوة المجردة لاحتلال العالم، لكن بعد حضور خليفة العالم الحقيقي بما يملك من مؤهلات الخلافة، واحتلاله مقر الخلافة الإسلامية في بغداد، قام الإسلاميون يعيدون تنسيق ما بقي بأيديهم من أوراق لتتفق ومطاليب سيد العالم. قاموا يعلنون أنهم هم أهل الإصلاح بل هم الإصلاح نفسه، وأصبحوا يحدثونا عن الديمقراطية كحل إسلامي مؤكد؛ كما لو كان أحد قد منعهم من إقامتها، وهم رقود على أنفاسنا عبر القرون الماضية. الغريب أنهم يهتفون بطلب الحرية ويصادرون الحرية علنا. إنهم يطلبون الحرية لأنفسهم فقط دون بقية المواطنين؛ لأنهم لو كانوا أهلا للحرية لأصدروا أبسط قرارات الحرية، بالإفراج عن الكتب الممنوعة حتى الآن. إنهم أكثر ضعفا من مواجهة الكلمة، فتراهم كيف سيعيشون في مناخ الحرية؟!
مصيبة أوطاننا أن المطروح أمام المواطن على كل المستويات هو نموذج واحد أحد، هو نموذج التخلف، وليس هناك من بدائل أخرى لأنها جميعا كافرة. رجل الدين في بلادنا يدعم التخلف ولا ولن يسمح بأية حرية، وسيستميت في المقاومة لوأد الحرية؛ لأنها لو حدثت فستسمح للنماذج الأخرى بعرض نفسها في سوق المفاضلة. الحرية ستطرح على الناس ما لم يكونوا يعرفون؛ لذلك هم مهما علا صوتهم بالحديث عن الحريات، فإنهم لا يقرون أول وأبسط أسس الإصلاح؛ وهو حرية أن تقول، أن تتكلم، أليست الكتب الممنوعة هي مجرد كلمات؟ هي قول ليس أكثر؟
وعندما يقرون بضرورة الإصلاح، فهو ما يعني الاعتراف بخطأ موجود في مجتمعنا الإسلامي، وبما أنهم وحدهم كانوا المسئولين في حلفهم السلطاني عن هذا المجتمع وعن الإسلام عبر القرون الماضية، فإنهم بالتبعية يكونون هم المسئولون عما آل إليه من تخلف، ثم في نفس الوقت هم ضد طرح أي نموذج آخر في السوق؛ لأن أي آخر هو كافر زنديق عميل لأمريكا والصهيونية العالمية، إنهم بعد هذه القرون من امتصاص دم شعوبنا والتسلط عليها لا يريدون ترك الفريسة، بحجة حماية الدين ، حتى يجهزوا عليها تماما بامتصاص آخر رحيق للحياة فيها.
ضمن الخطاب الديني السياسي المخاتل، تكريسه المستمر وتسويقه لفكرة أن الاستبداد السياسي القائم الآن في البلاد الإسلامية، ومن قبله الاستعمار الغربي، ثم الآن أمريكا وإسرائيل؛ هم السبب الأساسي في تخلف المسلمين، لكن الخطاب الديني بذلك لا يقول كل الحقيقة؛ لأن الحقيقة الكاملة هي في الاستبداد الديني؛ فالاستبداد ليس شيئا حديث العهد اخترعته الحكومات الحالية بدعم من دول الكفر لإضعافنا؛ لأن الدول الإسلامية السابقة لم تكن يوما راعية لقيم الحرية والعدالة والمساواة ولا حتى في زمن الراشدين؛ نتيجة لخضوع الناس للاستبداد الديني.
في عمل بعنوان «استراتيجيات التغير: أنواع القوة وبدائل العنف» للدكتور فتحي أبو حطب، وهو كما عرف نفسه باحث بشبكة إسلام أون لاين، والمنشور بتاريخ 20 / 10 / 2005.
http://islamonline.net/arabic/mafaheemz/2005/10/article02.shtml .
يقدم الدكتور بحسبانه باحثا رصينا بديلا لمحاولة تغيير الحكم في بلادنا بالعنف، وبطريقة يبدو فيها مفتونا بالثورة البرتقالية في أوكرانيا، مما ينتهي بإفراغ السلطة بيد الإسلاميين بأقل خسائر ممكنة.
وفي نهاية موضوعه يرصد 139 بندا تمثل طرق وأساليب الضغط على الحكومة كألوان احتجاج لا عنفي ... أبرزها: الاعتصامات رقم 19 وارتداء الرموز الخاصة 22 والصلاة والعبادة 23 وإتلاف الناس للممتلكات الخاصة بالنظام 25 واستخدام أسماء وإشارات جديدة 29 والاعتكاف في دور العبادة وفي الأماكن العامة 34 وتنظيم مواكب في المناسبات الدينية 40، والمقاطعة الاجتماعية العامة لكل الأنشطة المرتبطة بالنظام 55، حرمان النظام من التعاون الاجتماعي معه عندما يكون في حاجة إلى ذلك 58، مقاطعة النشاطات الاجتماعية التي يقيمها النظام 61، إضراب الطلاب 62، والعصيان الاجتماعي 63، الهجرات الاجتماعية إلى أماكن ذات دلالة ولفترات معينة 68، مقاطعة المستهلكين منتجات النظام وحجب منتجاتهم عنهم 73، مقاطعة المزودين والوكلاء لإمداد النظام باحتياجاتهم 74، مقاطعة التجار للأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالنظام 75، الامتناع عن تأجير أو بيع الممتلكات للنظام الحاكم وأعوانه 76، سحب الودائع البنكية من البنوك لاعتماد النظام عليها، إضراب الفلاحين 79، إضراب الصدمة حيث يكون مفاجئا وبلا مقدمات 86، الإضراب بالاستقالة من الهيئات والمؤسسات الحكومية أو المتعاونة مع النظام 89، إضراب عن طريق رفض التأييد للأنظمة 88، سحب الولاء 92، رفض التأييد العام 93، مقاطعة الهيئات التشريعية 95، مقاطعة الانتخابات 96، مقاطعة الوظائف الحكومية 98، رفض مساعدة الأجهزة التنفيذية 101، قطع خطوط اتصال الأوامر والمعلومات، المماطلة والإعاقة والإرباك لمؤسسات الحكومة 110، إذا نجحت قوى المعارضة في لفت الانتباه الدولي لها يمكنها تأخير وإلغاء الأحداث الدبلوماسية مع النظام الحاكم إلى سحب الاعتراف الدبلوماسي به 115، ورفض عضوية النظام في الهيئات الدولية 119، ثم التدخل الجسدي بالاقتحام 125، وإقامة الحواجز اللاعنيفة 127، والاحتلال اللاعنيف للمؤسسات والمباني المرتبطة بالنظام 128، وإقامة مؤسسات اقتصادية بديلة 132.
ثم يبدأ أبو حطب موضوعه بتعريف النضال الشعبي وأسبابه بقوله: «تناضل الشعوب من أجل حق ضائع أو من أجل الحفاظ على حق موجود يجب عدم التفريط فيه.»
وعندما تربط هذا التعريف بعنوان موضوعه «استراتيجية التغيير وأنواع القوة ... بدائل العنف» لن نجد الرابط المنطقي المفترض بين ما ينادى به من نضال من أجل حق ضائع ومن بين بدائل العنف لاسترداد ما ضاع. الرجل هنا لا ينادي بثأر أو انتقام أو إيذاء أو فوز أو بمغانم أو سلب الآخر ما لديه؛ لأن النضال بهذا الشكل سيكون جهادا، أي عدوانا وغزوا عنيفا غير مشروع، كأي فعل سطو مسلح كانت تمارسه قبائل العرب ضد أي آخر. لذلك يبدو أنه قد اقتحم العقبة، وتمكن من شجاعة ساعدته على استبداله بمصطلح النضال. «من أجل حق ضائع»، وهذا الحق الضائع هو ما يريب في منطق أبي حطب، فما الذي ضاع منا وهو حق لنا ونريد استرداده؟ إن الحق المطلوب النضال من أجله يجب أن يكون في الأصل موجودا أو مملوكا للناس، ثم ضاع أو تمت مصادرته، أو سبق سلبه حتى يمكن القول إنه حق ضائع، أما الذي لا وجود له من الأصل، فلا يتصور بأنه سيضيع ثم نطالب باسترداده، فاللاموجود لا يضيع ولا يسترد.
فإن كان هناك شعب لم يعرف الديمقراطية على طول تاريخه ولم تعرف ثقافته معنى الحرية ولا المساواة بمعناها الحديث ولم يسبق أن تذوق طعمها، مثل هذا الشعب لا تنطبق عليه مقولة «تناضل الشعوب من أجل حق ضائع.»
نحن شعوب لا تعرف الديمقراطية لأنها لم تكن لفظا معلوما مبنى ولا معنى في مخزوننا الثقافي، فكيف نسعى لاسترداد ما لم نكن نعرف أصلا؟ فتاريخنا منذ فجر الخلافة وحتى سقوطها، واستمرار الخلافة مستبطن داخل كل الحكومات الإسلامية الحالية، هذا التاريخ لا يعرف معنى للمساواة فالناس منازل ومراتب، وليس في معجمه شيء اسمه الديمقراطية. موضوعاتنا نعرفها جميعا، موضوعاتنا شعر الفخر بالقبيلة ولو كانت من أضغاث الناس، وشعر الهجاء ولو لكسرى أو لقيصر، شعر يتحدى شعرا فقط، لدينا الجن والملائكة والفقه، لدينا كل كلام ممكن أن يقال، ولكنه كان يصلح لزمنه، أما اليوم فإنه يظل مجرد كلام غير قابل للتطبيق؛ لأن المجتمع الذي كان يطبقه قد زال من التاريخ منذ أكثر من عشرة قرون.
ومن ثم يصبح خطاب أبي حطب خطابا مختالا يستخدم عبارات وهمية تتحدث عن أمور وهمية ومطالب غير موجودة.
إن أبا حطب وضع 139 بندا لأساليب التغير اللاعنيف من أجل التغير السياسي، هي الخراب عينه، بيد شعب تقنن ثقافته المقدسة التي يرعاها أبو حطب للعبودية، وتشرع له السلب والنهب تقنن درجات البشر
الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى [البقرة: 178]، مع تبرير التفاوت في تطبيق الأحكام حسب الرتبة الاجتماعية وحسب الجنس ما بين ذكر وأنثى، بمثل يضربه الله
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه .
واللطيف أن الدكتور يقول: «ولا شك أن تفسير وفهم الحقوق مسألة مرتبطة بدرجة الوعي لدى الشعب، والتي تتفاوت من مجتمع لآخر، وفق منظومته القيمية الخاصة.» ها هو الدكتور يسمنا بمسيم قيمنا الخاصة التي يجب أن تكون هي ماكينة الفرز وميزان القياس والمعيار، هي حاسة تذوقنا المقدسة لتلك الحقوق التي يطلبها للناس. يربط الحقوق والوعي بقيم الشعب، وطالما أن القيم خاصة فسيكون الوعي خاصا والحقوق خاصة؛ لذلك فالوعي لن يتسع لحقوق جديدة لم تكن معروفة في منظومة القيمة الخاصة. ووفق قيمنا الخاصة علينا بداية قبل أن نبدأ النضال بتضييق الممكن في حقوق الإنسان والمرأة والعمال وحريات العبادة والتفكير والتعبير؛ لأن ذلك كله جاء في العصر الحديث والمعاصر ولم يكن معروفا في منظومتنا القيمية الخاصة. ونصل إلى نتيجة هي أننا إذا التزمنا بقيمنا الخاصة فلن يكون لنا حق ضائع نناضل من أجله؛ لأن قيمنا ليس فيها من تلك القيم الحديثة شيء.
المهم ما هو المأمول إذن؟ وما هو الغرض النهائي لذلك النضال اللاعنفي؟
يقول الدكتور: «هو ممارسة أشكال ضغط متنوعة تؤدي إلى ردع الخصم أو تعديل مساره أو تحجيم قوته أو هزيمته.» الهدف النهائي لهذا النضال هو ردع الخصم الذي هو الحكومة، وكأن هدف هزيمة الحكومة وإسقاطها سيؤدي إلى تحقيق فوري لآمال البلاد والعباد، فإن ذهبت الحكومة ظهرت شمس الحريات والديمقراطية من خدرها يزفها العدل والقانون زوجا لقمر المساواة والتسامح والسلام.
هنا تعود الذاكرة إلى صاحب الزنج عبد الله بن علي بن محمد الذي قاد ثورة عظيمة ضد الخلافة العباسية بمئات ألوف العبيد، واستولى على مساحات شاسعة من أرض الخلافة وعامل العرب المهزومين بالشريعة الإسلامية، فاستعبد نساءهم وباع أطفالهم في الأسواق، فهو كمسلم لم يتصور أن هناك نظاما أفضل من نظامه الديني، وكانت المفارقة أن كل ما تبدل هو الأشخاص، السيد أصبح عبدا والعبد أصبح سيدا؛ لأن عبد الله بن محمد لم يتجرأ على اكتشاف أن العيب في الثقافة نفسها، في النظام، في المجتمع كله.
لقد ثار عبد الله الزنجي بغرض إصلاح أوضاع رآها فاسدة هو وجيوشه، لكنه لم يكتشف أن إلغاء الأوضاع الفاسدة بما فيها العبودية يكون بإلغاء القانون المشرع لها؛ ولهذا ثارت النخوة العربية في كل الإمبراطورية وأرسلت كل الدعم للإمبراطورية العربية لهزيمة صاحب الزنج الذي تجرأ وطبق قوانين العرب على العرب، وركب نساءهم وأسر رجالهم واستعبدهم. إن مجتمعاتنا تحتاج أن تعلم أن هناك سلوكيات وممارسات غير ما يقول لهم أهل الدين تؤدي إلى إصلاح حال البلاد والعباد؛ وأن للناس الدور الأول في تعيين حاكمهم، لا أن يذهبوا بعد تعيينه ليباركوا له فيما يعرف بنظام البيعة، فطالما نتحدث عن الشورى والبيعة، فلا حق ضاع منا حتى تاريخه حتى نطلبه بالتغيير اللاعنفي الذي هو كارثة كاملة وخراب كامل للوطن وفق البنود التي وضعها أبو حطب لهذا التغيير المسالم الأليف.
إن الحقوق التي تتحدث عنها البشرية الآن هي شأن جديد مكتسب لم يأتهم منحة من أحد في الأرض أو في السماء، ولم تكن معروفة عند السلف، اكتشفها مفكرون من غيرنا، لذلك يجب أن نفهم من خطاب أبي حطب أنه يطالبنا بالنضال وتدمير المجتمع كله لقتل الحكومة الفاسدة ... بقتل الوطن؛ كي نستعيد حقوقنا، وحقوقنا هي أهل الحل والعقد والبيعة والشورى والخلافة والولاة والجزية والسبايا والعبودية في ثوب معاصر.
إن الدكتور أبا حطب يريد أن يقيم صراعا داخليا وأن يشيع خصومة بين الشعوب المسلمة وبين حكوماتها، ويتمنى أن ينتهي هذا الصراع بتعديل في المسار، بينما سقوط الحكومة نفسه لن يتغير أو يعدل أي مسار، فتعديل المسار يكون بتعديل الثقافة جميعا، ويأتي بالتعلم والتثقيف بثقافة الحرية والتحلي بصفات العقل الحر، والاطلاع على منجزات الشعوب الأخرى وكيف تمكنت من نيل الديمقراطية، وما هي الديمقراطية، وما الفرق بينها وبين الشورى؟ وإن عقلا لم يتمكن من معرفة هذا الفرق لا يحق له أن يطلب شيئا لم يضع منه لأنه لم يكن يملكه أصلا. وعليه أن يتساءل لماذا يأخذ كل ما هو نافع من كل بلاد العالم، بينما هذا العالم لم يأخذ منا أي شيء خاصة الغرب المتفوق، لم يأخذ بنظام الشورى والبيعة، وعليه أن يفهمنا ما هي المساواة وما هو الحق وما هو الخير وما هي حقوق الإنسان والمرأة والطفل والعمال، ما هي قوانين الحرب المعاصر وما الفرق بينها وبين حروبنا المجيدة السالفة. إن تعديل المسار هو ذات نفس العقل الحر.
إن نظرة سريعة على بنود أسلحة النضال اللاعنيف التي سجلها الدكتور تعطي للصورة خلفية هندية بريطانية من زمن غاندي، يذكرنا بنضال الهند ضد الاستعمار الإنجليزي نضالا سلميا بالعصيان المدني المستمر، بهدف تدمير الاقتصاد وتحميل الاستعمار تكاليف باهظة تجعل استمرار وجوده بالهند مكلفا مما يضطره إلى الجلاء.
ومثل هذا النوع من النضال إنما يريد تخليص تراب الوطن من الاستعمار مع بقاء الوطن على حاله إن لم يأخذ بفلسفات جديدة. ومثل هذه الصورة الاستعمارية لم تعد موجودة، ولم تعد هناك حاجة لغاندي وفلسفته، نحن في حاجة لفلاسفة مصلحون يعلمون الناس الطريق نحو النور، فإن تنور الناس أصبح بإمكانهم الفرز بين المخاتل وبين المخادع وبين المراوغ، ولأمكنهم التخلص من رهاب القداسة، إن أسلحة النضال اللاعنيف المطلوبة هي أسلحة عصر التنوير الأوروبي.
إن العودة إلى طريق غاندي لن تكون في حالتنا ضد مستعمر بل هي ضد حكومات الوطن، وإسقاط النظام الممسك لأشتاتنا دون بديل، عندما مات النبي فجأة ولم يحدد للصحابة شكل النظام ولم يعين له خليفة، ذبح الصحابة بعضهم في الفتنة الكبرى، وسقوط الحكومة اليوم هو استعادة للفتنة الأكبر، هو دمار للمجتمع لأننا لسنا صحابة، ولو كانت الفتنة الكبرى قد أفادت البشرية لأخذت بها بقية الدول بتشغيل الدين في السياسة والصراعات المصلحية.
إن ما يعرضه «أبو حطب» هو ضد المجتمع والدولة وليس ضد الحكومة، إنه ضد الأرض كلها، يريد تدمير المجتمع المصري لأنه لا يريد حسني مبارك! البنود التي طرحها تكاد تطابق في بعض جوانبها مع رؤية جماعة التكفير والهجرة للمجتمع. إن بنود الدكتور في النضال اللاعنيف لا تقيم عندنا إصلاحا بل تقيم خصومات وثارات ومواجهات وحرب أهلية، من أجل تغيير أشخاص الجالسين على الكراسي فقط، رغم أن الخلافة العباسية أزالت الخلافة الأموية، والخلافة العثمانية أزالت الجميع، ولم يحدث أن طرأ أي تحسن على أحوال المواطن ولا ظهر شيء عن حقوقه السياسية أو الإنسانية، فظل العبد عبدا والمولى مولى والحر حرا والعلج علجا واليمني يمنيا والقرشي قرشيا.
نتابع قراءة الموضوع إذ يقول سيادته: «يمكن القول بأن الاختلاف بين أشكال النضال هو في حقيقة الأمر اختلاف في تفسير مفهوم القوة (القدرة) حيث يرى أنصار النضال العنيف والمسلح القوة في صورتها الأولية والنمطية المتمثلة في الإيذاء المادي للخصم، وهو أمر لا يمكن معارضته ونحن نتحدث عن حق الأمة في الدفاع عن وطنها المحتل، كما هو الحال في العراق وفلسطين.» ها هو الرجل عاد إلى مقعده الوثير إلى زمن معنى القدرة البدائي معطيا الشرعية للمناضل العنيف، فلماذا كل وجع الدماغ في موضوع حمائمي المظهر يتحدث عن النضال اللاعنفي؟ وإذا كان قد جعل الحكومات في البلاد الإسلامية الحالية مساوية للاستعمار ويطالبنا النضال ضدها على الطريقة الغاندية، فما له لا يطبق ذات المبدأ على الاحتلالين الإسرائيلي لفلسطين والأمريكي للعراق؟ بالأخذ بمبدأ النضال اللاعنفي؟ وهو بالمقياس على كل الظروف سيكون هو الأجدى هنا والأكثر عائدية.
ثم وزيادة على ذلك أنه إذ يعرض لنا مفهوم اللاعنف كمخالف للعنف المسلح في صورته الأولية المتمثلة في إيذاء الخصم، فإن الأسلوب الذي عرضه علينا هو عنف لتدمير أسس المجتمع كله، يدمر المجتمع كله للتخلص من آفة إصابته. إن ما يعرضه سيادته سيؤدي بنا إلى هولوكوست وطني.
أما بشأن العراق وفلسطين، فلو كان الرجل صادقا حقا مع اللاعنف لتذكر أن عالم ما قبل الحرب الثانية غير عالم ما بعد الحرب الباردة، وأن عالم ما قبل سبتمبر 2001 هو غير ما بعده، فقد أصبح حق الدفاع عن الشعوب المحتلة إن وجدت، هو حق المجتمع الدولي، تقوم به هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وقد تحررت دول عربية كثيرة عن هذا الطريق من اليمن إلى كل دول الخليج؛ خاصة وأن مشكلتي العراق وفلسطين لم تعودا محليتين، إنما اتخذتا بعدا دوليا.
ولتذكر أيضا أن محاولات مصر بجيشها وجيوش بعض الدول العربية مدعومة من الجامعة العربية، لم يتمكنوا من فرض إرادتهم فوق الإرادة الدولية. وفي النهاية تم حل معظم مشاكلنا عن طريق الهيئات الدولية، وفقا لرؤية المجتمع الدولي وليس طبقا لرؤية الدول العربية وجيوشها وجامعتها.
إن رؤية الدكتور أبي حطب في النضال اللاعنيف من أجل الاستيلاء على السلطة تقوم على توظيف قوى المجتمع كلها للتصدي للنظم الحاكمة بنفس الأساليب التي تواجه به قوى الاستعمار؛ فإذا كانت الحكومات تتصرف بأساليب غير صائبة وبها عيوب، فإن مواجهة ذلك يكون بالتقويم والعلاج وطرح الحلول البديلة، أما إذا كانت عيوب الحكومات في المنهج وأنها معيبة في أمانتها، وفي ولائها لشعبها ووطنها، فإن هذه تكون عيوبا قيمية اجتماعية هي بنت ثقافة المجتمع؛ ولذلك مهما قمنا باستبدال الحكومات فلن يتغير في الواقع شيء سوى خسائر تحدثها القلاقل الاجتماعية المصاحبة لذلك التغير. إذا كانت الحكومات فاسدة مستبدة، تفكر بطريقة تؤدي إلى خسائر وطنية في الأرض أو الكرامة والاقتصاد، فتلك أمراض نابعة من ثقافة تهيمن على المجتمع بأسره، بما فيه الحكومات وشعوبها، قيم مريضة ترفع الدين فوق الوطنية وتحكم الناس بأساليب بدائية، في مثل تلك الحال التي هي حالنا لا نكون في حاجة إلى النضال اللاعنيف الذي يقترحه أبو حطب؛ لأنه سيضيف هدما ودمارا إلى كيان ذلك المجتمع المريض ثقافيا ويعاني هو وحكومته ومثقفوه من ضحالة فكر، وعدم تحديد دقيق لمفاهيم الحريات والحقوق والمساواة، ويكون في العصيان المدني المطروح القضاء التام على هذا الكيان المعتل بألف علة. إنه بحاجة لإحلال ثقافة الحب محل ثقافة الكراهية؛ ثقافة الوطن محل ثقافة أمة لا إله إلا الله، ثقافة الحرية محل ثقافة العبودية، ثقافة المسلم المستنير المسالم مكان ثقافة الدم.
في مصر منذ سبعة آلاف عام، بلغ بها الاستقرار مبلغا كانت تسوده ثقافة التسامح والحب وكراهية القتل والتدمير، ينصح الفلاح ولده قائلا: «لا تغضب على ولدك ... لا تغضب على زرعك.» إنه النصح بعدم الانفعال الذي يضل بصاحبه السبيل، بعدم الغضب المؤدي للكراهية والخسائر. الزرع كالولد سواء بسواء في المعاملة، الغضب على الولد والزرع يدمر المجتمع؛ لذلك إذا جفت ساق النبتة وآلت إلى ذبول كان لا يغضب، فيقلعها من جذورها ويتخلص منها، إنما كان يدعمها بساق آخر سليم ويفسح لها التربة لتتنفس ويجبر جرحها ويغني لها أغاني الحب حتى تستقيم، فكانت ثقافة الحياة وليس ثقافة الموت، ثقافة الحب لا الكراهية، فأين مصر اليوم بعد إعادة فتحها بالمذهب الوهابي. إن ما يطرحه الدكتور من توظيف للنضال اللاعنيف لتغيير أنظمة الحكم هو نوع من الانقلاب تقوده الجماعات السرية التي ربما تنتهي إلى تغير شكل النظام مع بقاء الجوهر كما هو؛ فالنضال دون تقديم فكر جديد وفلسفة جديدة هو استبدال الخليفة بعبد الله بن محمد صاحب الزنج ليس أكثر، مع كل الخسائر المفترضة.
نقرأ المزيد لنفهم، يقول الدكتور: «إن السبب الرئيسي وراء العجز وسلبية بعض الشعوب، هو هذا الاعتقاد السائد بأن العنف هو الأسلوب الوحيد للمواجهة وهو أمر غير صحيح؛ فالعنف لم يعد خيارا مطروحا ولا مقبولا في رحلة بحث الشعوب عن لحظة خلاصها من أنظمتها السياسية المستبدة، وأصبح العنف واحدا فقط من خيارات كثيرة، ربما صارت أكثر فعالية وتأثيرا من الانقلابات والثورات.»
ها هو يعترف بهدوء لكن دون أن يشير لمن يمكنه دعم نضال الشعوب السلمي، هو يقول إن العنف لم يعد خيارا مطروحا ولا يقول لنا لماذا! الإجابة الواضحة أن الضمير العالمي الراقي بمؤسساته أصبح كاشفا له، إذا قارنه بغيره، ثم يقول: «فمساوئ استخدام العنف تتمثل في النقاط التالية: (1) تتفوق الأنظمة الدكتاتورية في مواجهة خيار العنف بل وفي توظيفه لصالحها. (2) تكلفة عالية على المستويين البشري والمادي. (3) خيار العنف يفقد الدعم والتعاطف الشعبي والدولي على المدى الطويل.» لهذا يطرح بديله «النضال اللاعنيف» منعا لهذه الخسائر التي يسببها النضال العنيف.
هذا الرجل من المتأسلمين لكنه يقر بتغير الواقع ويراه بعيون مادية بحتة، لا تنتظر ولا ترجو قرب وقوع أي معجزات أسطورية كما يفعل بعض المشايخ بانتظار الطير الأبابيل، ويوم يتكلم شجر الفرقد، وهو في حد ذاته أمر محمود، لكنه لا يرى أن الأنظمة الاستبدادية لا تقوم إلا في بيئة صالحة لها، تغذيها وترعاها وتنميها وتمنحها رحيق الحياة والاستمرارية، بدليل عدم ظهور هذه الأنظمة في بريطانيا أو أمريكا أو إسرائيل؛ فالنظام الاستبدادي لا يظهر ولا يوجد إلا في مجتمع قابل للاستبداد مؤمن بفلسفته. والحكمة القديمة تقول: «إن شعبا من الخراف يخلق حكاما من الذئاب»، فالنظم تفرزها حركة المجتمع وثقافته، ويقوم على هذه الثقافة المفكرون والفلاسفة، وعندنا يقوم عليها المشايخ والإخوان، يفكرون لنا بفكر ابن كثير وابن القيم وابن تيمية وبقية الأسماء اللوامع من موتى التاريخ، بثقافة تسوق الناس بالزواجير والسياط إلى جنة النعيم، مثل هذه الثقافة يمكنها اليوم أن تؤدي إلى اعتياد وجود المعتقلات والسحل والهتك وتدمير الناس بالشبهات؛ لأنها تقوم على عقائد في الضمائر تقبل دون أن تشعر بأي جزع بقطع اليد وجز الرقبة وتهشيم الرءوس رضخا بالحجارة وسوق النساء إلى أجنحة الحريم والأطفال إلى أسواق النخاسة، مثل هذه الثقافة لا تجعل المواطن يرى في المعتقل شيئا عجبا. مثل هذه الثقافة تجعل الأدنى يتماهى في نفسية العبد ويقبل بها، وتحول الوجهاء والمشايخ والسلاطين إلى سادة بالحق الإلهي في تقسيم الأرزاق وتحديد من يكون السيد ومن يكون العبد. إن ثقافة أول ما تعلم الطفل تعلمه آيات كيف يكفر عن ذنبه بعتق رقبة، تجعل وجود الرقبة اعتياديا في النفس والضمير.
أما الملاحظة الملفتة بشدة، فهو أن الدكتور أبا حطب في طي سرده لأسباب استبعاده النضال العنيف، لا تجده يرفضه من منطق قيمي أو من باب أخلاقي، بل هو لا يرفضه إن حقق أهداف، لكنه يرفضه لأنه لن يحقق المطلوب، ولأن المسلمين على حالهم اليوم لا يملكون القدرة لتنفيذ النضال العنيف.
إن عجز شعوبنا وسلبيتها ولا وعيها، كلها نواتج ثقافة مريضة هيمنت عليهم آجالا طويلة وتسيدت في عصور ظلام ممتدة حتى اليوم، بينما استطاعت شعوب أخرى بمفكريها وفلاسفتها من استبدال ذلك الظلام بجديد حديث حر، ولم يستغلوا ضعف النظام الحاكم للقفز على الكرسي الكبير لينصبوا أنفسهم مستبدين جددا بذات الفكر القديم، وربما أكثر استبدادا وسلفية وهو الأمر الأكثر منطقية. إن الدكتور يحرض الشعوب ضد حكامها لتمكين المتأسلمين مع بقائنا عبيدا كما نحن الآن، وبالقطع سيكون حالنا أسوأ مما نحن عليه الآن بمراحل.
إن النضال اللاعنفي الذي يدعو إليه الدكتور هو كالسرطان الذي يمزق المجتمع كي يثأر من الحكومة. إنه حتى وهو يعرض علينا جديده السلمي اللاعنفي حافظ بداخله على «سورس» العنف، والطبع يغلب التطبع.
إن عنفه اللادموي لا يحمل معنى الرضا والتراضي؛ فعنفه الديني ولا عنفه الثقافي يخرجان من مشكاة واحدة، وقودها الدم وتقيتها العدوانية الخبيثة، وكوكبها الدري المخفي وراء الخطاب المختال هو الاستيلاء على الحكم ولو على ردم من خراب. فالدكتور ليس لديه بديل يقدمه لنا بعد تدمير المجتمع، وبعد مقاطعة المواطنين للحكومة وللشركات الوطنية والوكلاء الذين يزودون النظام باحتياجاته، وعدم التعاون مع الحكومة عند حاجتها لشعبها وإضراب الصدمة للفلاحين والعمال، والاستقالة من العمل الحكومي وسحب الولاء عنها ورفض مساعدة أجهزة الحكومة ... إلى آخر ما قال من خراب ديار. إنه لم يقدم لنا البديل لأنه يعلم أن البديل أوضح من أن يشار إليه أو يعرف، إنه الحل الرباني ... الإسلام هو الحل. فلا يبقى سوى القضاء على الحكومة والاكتفاء بمشايخنا مراجعنا وبالأزهر بعد ذلك سندا ومرجعا، بعد أن تم إلغاء عقل الناس، بعد أن قضوا على الملكة الغريزية الباحثة عن المعرفة، وكفروا العقل النقدي، وأصبح الناس يسألون مشايخنا وهم يجيبون على كل سؤال في كل شأن، هل مجتمع في الدنيا على هذا الحال له أي حقوق ضائعة من حقه أن يطالب بها؟
الغريب أنه وهو يعض على إيمانه بيده مع أخذه النضال اللاعنيف، فإنه باليد الأخرى يقر بما نقول، كما في قوله «جاء اصطلاح الانقلابات والثورات التصحيحية للتخلص من أنظمة ظلت تمارس القمع والاستبداد لفترات طويلة ... إلا أن الأنظمة الجديدة التي أتت بها الانقلابات لا تمثل تصحيحا ولا بداية جديدة كما كان متوقعا، وهنا يكمن الدرس التاريخي الذي يدفعنا إلى التحفظ على خيار الانقلابات، فاحتمالية تحول من يقومون بالانقلابات تحت شعار الحرية لأنظمة دكتاتورية تظل احتمالية قائمة.»
إن هذه العبارة تكاد تكون العبارة الوحيدة الصادقة فيما قال أبو حطب جميعه، وهو يقدمه تبرير وتأكيد لدعوته لبدائل العنف للتخلص من الاستبداد، وهو يعلم أن مجتمعنا وهذا حاله إن تغير فلن يتغير فيه سوى الوجوه والأسماء ودرجة الظلم؛ لأنه يستكمل صادقا دون أن يعني نفسه أو جماعته قائلا: «لأن هؤلاء الواثبين على الحكم لم يؤسسوا لتقاليد الحريات المدنية والتحول الديمقراطى». إن الدكتور إن أراد حقا خير الناس لانشغل بهم وبحث عن أسباب الاستبداد رغم تعدد الانقلابات والثورات وتغيير النظم الحاكمة مع كل حكومة في بلاد المسلمين، إن السبب هو استمرار الثقافة الحاكمة دون تغيير ودون أن تشذ حالة واحدة عن هذه القاعدة.
إن مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات على أصنافها شيء غائب عن ثقافتنا، وغير موجود في مخزوننا المعرفي ولا حتى في معجمنا اللغوي؛ لأنه لو كان متواجدا لكان لدينا كل أنواع الحريات من قديم الزمان منذ السلف الصالح الذي نفترض هنا بالضرورة أنه هو من أسس للديمقراطية. إن قيمنا لا تعرف الحريات كما هي في الديمقراطية المحدثة، ولو كانت تعرفها كما يوعز لنا أبو حطب كي نستردها بالنضال اللاعنيف، لكان المسلمون أسبق الشعوب معرفة بها، ولنقلها الآخرون عنا، ولما انتظر العالم كله حتى يظهر روسو وفولتير ومونتسكيو.
وضمن مبراراته لنضاله اللاعنيف أن خيار الانتخابات الذي تلجأ له الأنظمة الدكتاتورية لا يؤدي إلى تحول ديمقراطي، يؤدي إما للتلاعب بنتائجها أو إلغائها بالكامل، كما حدث في بورما 1990 ونيجيريا 1993 وفي الجزائر 1991 ... وتعمد النظم الدكتاتورية إقامة هذه الانتخابات في ظروف لا توفر المعايير المطلوبة لإجراء انتخابات نزيهة.
والرجل محق تماما في أن خيار الانتخابات لن يؤدي إلى تحول ديمقراطي، لكن ليس نتيجة تزييف نتائجها، فبفرض اكتمالها بكافة معايير الانضباط والالتزام الإداري، فإنها لن تفرز لنا عناصر من غير ذات المجتمع وذات الثقافة. إن مجتمع السادة والعبيد لن يفرز لنا من يقيم لنا الحريات، حتى أحزاب المعارضة لا تعرض في سوق الفكر ديمقراطية حقيقة أو لا تقدم نموذجا ديمقراطيا حقيقا من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، كلها كالحكومة، طبعة واحدة؛ لأنها ثقافة المجتمع. كلهم عصابات تتصارع على الفريسة، والفريسة لطيفة مطيعة لأنها تطيع الله ورسوله وأولي الأمر منها. ولأن أبا الحسن الماوردي قد قال في الأحكام السلطانية: «إن أهل الرأي متى عقدوا البيعة للإمام لا يجوز لمخلوق نقضها؛ لأن الرعية عليها بموجب هذه البيعة الطاعة، والنصر للإمام ما وسعتهم الاستطاعة، ولا يحل لهم القيام عليه بحال.» هذا قول الفقيه، ومثله كان قول المثقف المستأنس؛ إذ يقول ابن هانئ الأندلسي في المغرب يخاطب الخليفة:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
وفي علوم الآداب تأدبنا بكتاب العقد الفريد؛ إذ يقول في كتاب «اللؤلؤة والسلطانة»: «السلطان زمام الأمور وميزان الحقوق وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم وبه ينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم.» أما الحكماء من الفقهاء، فقد أفادونا بما انتهى إليه حشدهم: «إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم، ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. قال حذيفة بن اليمان ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله. وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإن كان الإمام جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر. وقال وهب بن منبه فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.»
الكل يقول نفس الكلام لأنه لا يعرف إلا ذات الثقافة الواحدة، ولا يعرف غيرها، ولو عرف لفاضل واختار ومؤكد أنه كان سيبدل ويغير؛ لذلك لا يسمح الفريق الإسلامي لغيره بالكلام في هذا الميدان تحديدا، فهم وحدهم القادرون على تطبيق حاكمية الله في الأرض، دون أن يبرزوا لنا مرة التفويض المعطى لهم من الذات العلية بهذا الشأن لاختيارهم أمناء على حاكمية الأرض دون كل المسلمين.
إن طلب أبي حطب بثورته اللاعنيفة في ضوء موقف الشرع هو خروج عن هذا الشرع، هو خروج عن الدين بالضرورة، إلا إذا كان مقصده تطبيق الشرع الإسلامي بعد ثورته اللاعنيفة، وهو يقصد هذا المعنى ولكن من وراء تقية فريدة جديدة في ابتكارها، مما يدهشنا أحيانا من مدى التقدم التكنيكي للخطاب المتأسلم.
إن المجهول هو المنتظر بعد إسقاط الدولة ونظامها وتدمير مجتمعها؛ لأنه لم يقل لنا ما هي بدائله وخططه لإحلالها محل ما سيحدث من خراب شامل. الدكتور يتركنا حيارى من المجهول الذي سيأتي بعد تدمير المجتمع، هل سيظل متمسكا باللاعنف؟ إن مطلب الدكتور باللاعنف هو لأن المسلمين لا يملكون أدوات الانتصار على الحكومات بالعنف، فماذا بعد إسقاط الدولة والنظام ومجيء المجهول للحكم؟ إن هذا المجهول سيملك أدوات العنف من جيش وشرطة؟ أم أن اللاعنف هو الخطوة التمهيدية للاستيلاء على أدوات العنف ليتم تفعيلها وممارستها من بعد التمكين؟
في تاريخنا مثل هذا نماذج أصيلة مكررة، فتاريخنا حافل بالكوارث، في تاريخنا بعد امتلاك الأمويين للقوة قاموا بتصفية آل البيت جميعا بما فيهم الأطفال الرضع والنساء والكهول! محمد علي قضى على المماليك بمذبحته الشهيرة منعا لأي معارضة، فبأي المثلين سيتأسى الحاكم المجهول الآتي؟ وماذا سيفعلون بنا نحن فقراء المسلمين في سبيل دعم حكمهم؟ التدمير التام هو خاصية الثقافة البدوية لأنها كالقبائل تتصارع صراعا صفريا تتم فيه إبادة الآخر أو استعباده والاستيلاء على ممتلكاته، كذلك كان بدو إسرائيل من الأسباط، ذبحوا بعضهم بعضا في رحلة الخروج، إسرائيل وهي من أصول بدوية، عند إقامة دولتها استدعت ذات الثقافة.
اليوم يفترض الرقي الإنساني أن رفض العنف كأسلوب للنضال مطلوب، ليس لأن المؤمنين لا يملكون القدرة على العنف وإنما يجب رفض العنف من باب أخلاقي. اليوم ليس المطلوب هو نضال العنف واللاعنف، المطلوب تعزيز أكثر فرق المجتمع إخلاصا للديمقراطية ومدى قرب أو بعد هذا الفريق أو ذاك من حقيقية الديمقراطية. اليوم من يستحق العقوبة وعدم المساندة هو الأكثر بعدا عنها، الذي يطلب دولة دينية لا علاقة لها بمعنى الدولة في مجتمعات اليوم، وبتكوينها الديني لن تستطيع أي تغير من أجل أي تقدم ممكن، إن الدكتور أبا حطب كواحد من المتأسلمين لا يدعو هنا إلى تغيير القائمين على الحكم واستبدالهم بغيرهم، إنه لا يدعو إلى تبادل السلطة وتداولها، إنما يدعو إلى ثورة مدمرة كاسحة دون عنف تؤدي إلى تفكك المجتمع نفسه شظايا.
إن البديل الذي يقدمه لنا المتأسلمون يجب أن يحوز مشروعية محلية ودولية أيضا، لكن هذا الخراب المستعجل لا يحوز أي مشروعية، أبو حطب مثل الذي يريد أن يستخرج حصوة من مريض فيفتح لها من رقبته.
يبقى أن يعرف القارئ، أنه مع إيمان أهلنا المتأسلمين، فإنهم لا يجدون حرجا في أفعال من نوع ولون ما سأسوقه الآن، فالفكرة التي قدمها أبو حطب وصراعه اللاعنيف وأدواته ووسائله كلها هي فكرة تم شرحها عبر حوالي عشرة كتب ل «جين شارب»، وله موقع يحوي هذه الكتب مجانا على الشبكة الدولية للمعلومات، والعجيب أن أبا حطب لم يشر إلى «شارب» إلا إشارة عابرة لا توضح دوره كأرضية كاملة التمهيد لما قاله أبو حطب؛ يعني جايب سيرة «شارب» ليخزي العين ليس أكثر، وللمدقق أن يلحظ أن الدكتور عندما نقل بنوده لأساليب النضال اللاعنيف أخذ 139 بندا من بين 198 بندا، وترك ما ترك عن عمد وقصد؛ لأنها لا تتفق ومذاقنا الإيماني كمظاهرات العري وما يشبهها، وبعد جمع ما أراد من بنود وترك ما أراد من بنود، فحشد أفضل الوسائل وأسرعها لخراب مصر، وقام بتشغيل كلام «شارب» لانتفاضة إسلامية لا عنيفة، وبينما كان «شارب» منتجا مؤثرا في المجتمعات الأوروبية، فإن كلامه المنقول إلينا عبر أبي حطب قد شابته النوازع ومطالب الأيديولوجيا الإسلامية، فأصبح غير صالح لنا ولا لغيرنا.
كلام «شارب» نفسه كان صالحا لعالم يقف في مواجهة الاتحاد السوفيتي حتى انهار هذا الاتحاد، في زمن وفي ظرف مختلف، والأهم اختلاف ثقافة المستقبل، فبلادنا لا تخضع لحكومة واحدة، فهناك سلطة دينية وسلطة حكومية، وحسني مبارك لا يحكم مصر بشكل مطلق؛ فالأزهر يصدر الفتاوى قوانين تسري في الواقع، ودار الإفتاء تفعل ذات الشيء، وتضغط على المواطنين بمزيد من التحريمات، لتوانيا وإستونيا وألمانيا الشرقية كلها كانت تحت هيمنة ديكتاتورية واحدة، هنا لدينا ديكتاتور موجود في الشارع ينتظر ساعة هيمنته. في لتوانيا عندما تم إسقاط السلطة الديكتاتورية، كانت الناس تطلب البديل وهو موجود لديها وهو العلمنة الكاملة بكامل الحريات والحقوق والمبادئ الديمقراطية، سقوط النظام هناك جاء بديله نظام ديمقراطي، وسقوط النظام العام هنا البديل الجاهز له هو الإخوان وإخوانهم من المتأسلمين، المشكلة أنه ليس لديهم حتى الآن أي بديل، لا برنامج ولا دستور ولا شيء بالمطلق، ولا تعلم هل إذا أتاهم الحكم فهل سيحكمون ببركة دعاء الوالدين؟ لقد كان الصحابة والخلفاء يحكمون ببركة حضورهم زمن الوحي ومصاحبة الرسول والتعلم منه مباشرة، والإخوان أو غيرهم من فرق الإسلام السياسي ليسوا صحابة ولا مبشرين بالجنة، فما بال الإخوان لا يقدمون برنامجا علميا واضحا ولا دستورا، ويطلبون الكرسي بالعنف وباللاعنف وبأي أسلوب ممكن، إنهم يقدمون لنا المجهول.
إن سقوط نظام المجتمع في بلاد مثل بلادنا وفي ظل مناخ ثقافي كمناخنا لا يعني إلا عراقا جديدا كمثل صارخ بحجم الثارات في ثقافتنا، والتي لا يضبطها سوى استمرار النظام الضابط لهذا المجتمع، وهو غير نظام الحكم، بينما أبو حطب يوجه بنوده لضرب النظام الضابط للمجتمع، إنهم يريدون الحكم ولو بدمار النظام الاجتماعي العام، على جثث ألوف المصريين كما العراقيين، وعلى ردم من خراب الديار ودمار العمار.
إنهم لا يمانعون أبدا ما داموا هم من سيحكم.
يا أبا حطب إن الإحصاءات في مصر تقول إن مجمل الوقت المنتج للموظف المصري هو ثلاث ساعات في الأسبوع، يعني هو في حال نضال لا عنيف غير موجه، هل هناك خراب أكثر من ذلك؟
هيه ناقصاك يا أبو حطب؟!
অজানা পৃষ্ঠা