سيرة الفيلسوف
(1) نشأة مجهولة
لم يكن قد بقي ل «ديفد هيوم» إلا فترة قصيرة قبل ختام حياته، حين كتب «حياتي».
1
وكان آخر ما كتب؛ لكنه أوجز كأنما أراد أن يقص للناس عن نفسه دون أن يكشف لهم عن نفسه! وكم كنا نود أن يكتب عن نشأته فيطيل ويسهب، ليروي لنا عن المؤثرات التي عملت في نفسه بحيث أخرج كتابه الرئيسي الذي يحتوي على لباب فلسفته كلها قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره! بل إن الفكرة قد اختمرت كلها في عقله - كما يقول - وهو لم يزل طالبا لم يبلغ العشرين ... إننا قد نفهم أمثال هذا الإنتاج المبكر في عالم الفن - مثلا - أو في الرياضة، فلسنا نعجب لفنان أو لعالم رياضي يكتمل نتاجه في سن مبكرة؛ لأن الموهبة المطلوبة للعبقرية الفنية أو الرياضية هي لمعات من الإلهام أو لمحات من الذكاء قد يوهبها صاحب السن الصغيرة؛ أما الفلسفة فالأرجح ألا تتكامل لصاحبها إلا بعد أمد يطول بعض الشيء، لكي تتهيأ له فرصة التأمل الطويل والدراسة المتشعبة والمقارنات الكثيرة والخبرة الواسعة ... لكن ها هو ذا فيلسوفنا هيوم ينتج فلسفته المبتكرة التي غيرت مجرى الفكر من بعده، ينتجها في سن العشرين أو نحوها، دون أن يحدثنا عن العوامل التي فعلت في ذلك فعلها.
ولد ديفد هيوم في إدنبره - باسكتلندا - في السادس والعشرين من أبريل عام 1711م من أسرة وسط بين الفقر والغنى، وكان هو ثالث إخوته، يكبره أخ وأخت، ومات أبوه و«ديفد» لم يزل بعد رضيعا، فألقي على الأم عبء تربية أبنائها، مستمدة أسباب الرزق من ضيعة صغيرة كانت لزوجها في الريف.
ولسنا ندري كيف تلقى «ديفد» تعليمه ولا أين؛ فكل ما يرويه في هذا الصدد في كتابه «حياتي» هو هذه العبارة الموجزة: «لقد اجتزت بالتوفيق شوط التعليم المعتاد.» وهي عبارة لا تكاد تدلنا على شيء؛ لكننا نستطيع أن نجمع شذرات عنه من هنا وهناك، فنعلم منها أنه قد أكمل دراسته وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولم يظفر من كليته بشهادة، لا عن تقصير، ولكنه العرف إذ ذاك لم يكن يلقي بالا للشهادات العلمية في كثير أو قليل؛ وكذلك نعلم عنه وهو في سني دراسته أنه تأثر بعلم «نيوتن»، لكننا لا ندري إن كان ذلك قد وقع له في الفصل الدراسي أم في قراءته الخاصة؛ ثم نعلم عنه كذلك أنه أغرم منذ سنه الباكرة بالأدب، وهو غرام لم يتحول عنه طيلة عمره، فحتى حين شغلته الفلسفة لم يكن ذلك داعيا إلى هجران الأدب، بل قسم العاشق عندئذ وقته بين معشوقتيه قسمة عدل وإنصاف.
لكن ضرورة العيش نادت، فلا الأدب ولا الفلسفة مما يأتيه بقوت يومه، وكان لا بد له من سبيل إلى ذلك القوت، لأن أخاه الأكبر قد استأثر بضيعة أبيه كما هو العرف في الوراثة عندهم؛ فأي سبيل يختار كسبا لرزقه؟ يقول إنه اختار المحاماة مهنة، وأخذ يدرس القانون استعدادا لذلك، ولا نعلم كيف كانت تلك الدراسة، وعلى كل حال لم يطل مقام الغريب في أرض الغربة، فما أسرع ما دب الملل في نفسه دبيبا، فأسرع عائدا إلى وطنه العقلي الأصلي، وما ذلك الوطن عنده إلا الفلسفة والأدب؛ عاد إليهما يعب منهما عبا كأنما أراد أن ينتقم للفترة القصيرة التي قضاها على أرض غير أرضه ؛ وراح ينفق أيامه في قراءة شيشرون وفرجيل.
ولكن لقمة العيش ما زالت تلح عليه بالعمل في سبيل تحصيلها، وكذلك أمه ما زالت به تملأ أذنيه بالنصح أن يقلع عما لا يفيد إلى ما يفيد؛ كانت الأم عملية المزاج تنظر بكلتا عينيها إلى الحياة في مجراها السائر يوما بعد يوم، فيأخذها القلق الشديد على ابنها؛ إذ ماذا يجدي عليه الأدب وماذا تجدي عليه الفلسفة حتى إن بلغ منهما الذروة العليا؟ لم يكن مألوفا في بلاده - اسكتلندا - عندئذ أن تهيئ الفلسفة أو أن يهيئ الأدب من أسباب الرزق شيئا يغني من جوع.
غير أن صاحبنا إذا ما قالت له أمه أو قال له صديق إن الفلسفة التي اختارها مشغلة حياته شيء لا يفيد من الناحية العملية، أجاب: بل هي نافعة من هذه الناحية العملية نفعا ليس وراءه نفع؛ لأنه يمارس قواعدها في ضبط شهواته، فأي شيء أكثر إيغالا في الحياة العملية من ضبط الشهوات؟ أيكون تفكيرا نظريا ذلك التفكير الذي يعلو بصاحبه على مجرى الحوادث العابرة بما فيها من تفاهة وصغار؟ أيكون سابحا في أحلام ذلك الرجل الذي يستعين بفكره على كوارث الزمن، فينعم في حياته بالسكينة والحرية وعزة النفس واستقلالها، بما أوتيه من قدرة على ازدراء الثراء والقوة والجاه؟
অজানা পৃষ্ঠা