إنه لا شك في أن أفكارنا مترابطة بعضها ببعض على نحو يجعل الواحدة منها إذا ما حضرت أمام الذاكرة استدعت سواها بطريقة نلاحظ فيها شيئا من الاطراد والانتظام؛
22
وهذا الترابط ملحوظ في سلسلة أفكارنا في جميع حالاتنا، لا فرق في ذلك بين تفكير واع منظم وأحلام يقظة يترك الإنسان نفسه فيها على سجيتها تسلسل الخواطر بغير ضابط، أو أحلام نوم؛ ففي التفكير الواعي المنظم ترانا نرتب أفكارنا ترتيبا يجعل الفكرة اللاحقة ذات ارتباط بالفكرة السابقة، وكذلك في الأحلام بنوعيها: أحلام اليقظة أو أحلام النوم، رغم انسياب خواطرنا انسيابا حرا حتى لقد يبلغ في ذلك حد التخليط، فإنك إذا ما أمعنت النظر بعد ذلك في تسلسل تلك الخواطر المنسابة، وجدت كل واحدة منها ذات صلة معلومة بسابقتها وبلاحقتها على السواء، كأنما كل فكرة ترد إلينا تشد وراءها فكرة متصلة بها على نحو ما ؛ وتتبع محادثة تجري بين مجموعة من الناس أرسلوا أنفسهم في سلسلة الحديث إرسالا، فإنك لا شك واجد أن حلقات الحديث - رغم أنه حديث حر ليس له ضابط - يرتبط سابقها بلاحقها على نظام معين؛ وحتى إن بدا لك في أحد مواضع الحديث أن الحلقة اللاحقة مبتورة الصلة بالحلقة السابقة، وخيل إليك أن حبل الحديث قد انقطع عند ذلك الموضع بأن تدخل فيه أحد المتحدثين بموضوع جديد طارئ قطع الصلة بين ما فات وما هو آت؛ فسل ذلك المتحدث الذي بتر التسلسل بموضوعه الطارئ هذا، تجد أن قد جرى في ذهنه خاطر أو خواطر شديدة الصلة بما قد كان جاريا من أحاديث، ثم استثارت فيه هذه الخواطر الباطنية موضوعه هذا الذي أقحمه على المتحدثين، وبذلك يظل التسلسل بين أجزاء الحديث قائما، وكل ما في الأمر أن جزءا من السلسلة قد تم في رأس أحد المتحدثين.
وإنه لمما يلفت النظر في اللغات المختلفة، أن بينها تقابلا - على بعد ما بينها من صلات قد لا تجعل أهل اللغة الواحدة منها على صلة قط بأهل اللغات الأخرى - إذ ترى أن فكرة ما من أفكارنا المركبة، أعني من أفكارنا التي تأتينا عناصرها البسيطة فرادى ثم تتركب داخل رءوسنا، يطلق عليها كلمة في كل لغة من اللغات، مما يدل على أن العناصر البسيطة التي تجيئنا عن طريق الانطباعات تتركب داخل رءوس الناس على طريقة واحدة؛
23
وإلا فلماذا - مثلا - كان في كل لغة كلمة تدل على «شجرة» على حين أن «الشجرة» فكرتها في الرأس مركبة، عناصرها البسيطة هي انطباع اللون وانطباع اللمس ... إلخ؟ أليس ذلك دليلا على أن هذه العناصر الأشتات ترتبط بعضها ببعض في عقول الناس على صورة واحدة، بحيث ترسم في رءوس الناس فكرة واحدة، أجازت لهم أن يطلقوا عليها كلمة واحدة؟ «وإنه على الرغم من أن الأفكار المختلفة يرتبط بعضها ببعض ارتباطا هو أوضح من أنه تخطئه الملاحظة، إلا أنني لا أجد بين الفلاسفة فيلسوفا واحدا قد حاول أن يحصي أو يصنف شتى المبادئ التي يجري الترابط بمقتضاها؛ وإنه لموضوع جدير باستثارة الرغبة في أنفسنا لبحثه؛ ويبدو لي أن ثمة مبادئ ثلاثة فقط يجري بمقتضاها الترابط بين الأفكار وهي: التشابه، والتجاور في زمن الوقوع أو مكانه، والعلة أو المعلول.»
24
أي إن الفكرة تستدعي فكرة إذا كان بين الفكرتين وجه من الشبه، أو إذا كانتا قد وقعتا في لحظتين من الزمن متتابعين، أو وقعتا معا في لحظة واحدة، أو إذا كانتا قد وقعتا في موضع واحد من المكان أو في موضعين متقاربين، وكذلك تدعو الفكرة فكرة سواها إذا كانت علة لها أو معلولا.
فإذا ما نظرت إلى صورة ما استدعت الصورة إلى ذهنك فكرة الأصل الذي هذه الصورة هي صورته، لما بين الفكرتين من تشابه، وذكر مسكن في عمارة يستدعي المسكن الذي يجاوره،
25
অজানা পৃষ্ঠা