هذه فضلة مطامعك فهل جئت لتستزيد منها؟
هذه هي المسارح التي أجد بها دوس قدميك وقد كانت منبت الخصب والرزق، كانت نعاجي ترتعي رءوس الأزهار لبنا ذكيا، فها هي الآن خمص البطون تقضم الأشواك وأصول الأشجار مخافة الفناء.
اتق الله يا دهر وانصرف عني، فقد كرهتني الحياة ذكرى مظالمك، وحببت إلي الموت قساوة منجلك.
اتركني ووحدتي أرشف الدمع شرابا، وأتنشق الحزن نسيما، واذهب يا دهر إلى الغرب حيث القوم في عرس الحياة وعيدها، ودعني أنتحب في مآتم أنت عاقدتها».
فنظر الشيخ إليها نظرة الأب وقد أخفى منجله على أثوابه، وقال: «ما أخذت منك يا سوريا إلا بعض عطاياي، وما كنت ناهبا قط بل مستعيرا أرد، ووفيا أرجع، واعلمي أن لأخواتك الأمم نصيبا باستخدام مجد كان عبدك، وحقا بلبس رداء كان لك، أنا والعدل أقنومان لذات واحدة، فلا يجمل بي سوى إعطاء أخواتك ما أعطيتك، ولست قادرا على تسويتكن في محبتي لأن المحبة لا تنقسم إلا على السواء، لك يا سوريا أسوة بجاراتك مصر وفارس واليونان إذ لكل منهن قطيع يشابه قطيعك، ومرعى نظير مرعاك. إن ما تدعينه انحطاطا يا سوريا أدعوه نوما واجبا يعقبه النشاط والعمل، فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلا بالموت، والمحبة لا تصير عظيمة إلا بعد الفراق».
واقترب الشيخ من الفتاة ومد يده قائلا: «هذي يدي يا ابنة الأنبياء». فأخذت يده وهي تنظر إليه من وراء الدمع وقالت: «الوداع أيها الدهر الوداع» فأجابها: «إلى اللقاء يا سوريا إلى اللقاء».
حينئذ اختفى الشيخ كما يختفي البرق، فنادت الصبية أغنامها ومشت مرددة: «هل من لقاء يا ترى هل من لقاء؟»
أمام عرش الجمال
هربت من الاجتماع وهمت في ذاك الوادي الوسيع متبعا مجاري الجدول تارة ومصغيا إلى محاورات العصافير طورا، حتى بلغت مكانا حمته الأغصان من نظرات الشمس فجلست أسامر وحدتي وأناجي نفسي، نفس ظامئة رأت كل ما يرى سرابا، وكل ما لا يرى شرابا.
ولما انطلقت عاقلتي من محبس المادة إلى فضاء، التفت فإذا بفتاة واقفة على مقربة مني، حورية لم تتخذ من الحلي والحلل سوى غصن من الكرمة تستر به بعض قامتها، وإكليل من الشقيق يجمع شعرها الذهبي؛ إذ علمت من نظراتي أنني صرت مسلوب الفجأة والحيرة، قالت: «أنا ابنة الأحراج فلا تجزع»، قلت وقد ردت حلاوة صوتها بعض رمقي: «وهل يقطن من كان مثلك برية سكنتها الوحشة والوحوش؟ قولي لي بعيشك من أنت ومن أين أتيت؟» فقالت وقد جلست على الأعشاب: «أنا رمز الطبيعة، أنا العذراء التي عبدها آباؤك فبنوا مذابح وهياكل في بعلبك وأفقا وجبيل، قلت: «تلك الهياكل قد انهدمت وعظام أجدادي ساوت أديم الأرض ولم يبق من آثار ألهتهم وأديانهم سوى صفحات قليلة في بطون الكتب» قالت: «بعض الآلهة يحيون بحياة عبادهم ويموتون بموتهم، وبعضهم يحيون بألوهية أزلية أبدية، أما ألوهيتي فهي مستمدة من جمال تراه كيفما حولت عينيك، جمال هو الطبية بأسرها، جمال كان بدء سعادة الراعي بين الربى والقروي بين الحقول والعشائر الرحل بين الجبل والساحل، جمال كان للحكيم مرقاة إلى عرش حقيقة لا تجرح».
অজানা পৃষ্ঠা