عاشق كنته
علمنا أن المركيز ده جنج قضي عليه بالنفي والتجريد، فرحلوه إلى حدود السافوا من فرنسا، وهناك تركوه، فقضى ثلاث سنين غريبا ريثما يتناسى القوم حديثه، ثم عاد إلى فرنسا متنكرا، وكانت حماته مدام ده روسان قد ماتت، فلم يبق من يهمه إبعاده. وعاد إلى قصره بجنج، فلبث فيه مختفيا، لكن علم المسيو ده بافيل حاكم لنجدوك بعودته من منفاه، فأراد أن يحاكمه على ذلك، لولا أن قيل له: إن المركيز منتصر للمذهب الكاثوليكي يجبر أتباعه على حضور القداس مهما كانت مذاهبهم، وكان ذلك العصر عصر اضطهاد ديني للبروتستانت، فرأى المسيو ده بافيل أن اهتمام المركيز بنصرة المذهب تكفر عن جرمه، فصرف النظر عن محاكمته، بل وراسله سرا، وضمن له بقاءه في فرنسا ما دام قائما بنصرة الكاثوليكية، ومضى اثني عشر عاما على هذه الحال.
وكان ابن المركيزة، وهو الذي رأيناه جالسا يبكي لدى أمه المركيزة وهي على فراش موتها، قد شب وبلغ في ذلك الحين العشرين من عمره، وأصبح غنيا بما ورثه عن والده من أملاكه المصادر فيها، وما ورثه مع أخته عن أمه بعد موت جدته، وكان المركيز الصغير قد تزوج بفتاة ذات حسب ونسب ومال وجمال تدعى «مادموازيل ده مواساك»، فلبث معها حتى دعي للخدمة العسكرية فسافر بزوجته إلى قصر جنج. وهناك عهد بها إلى أبيه وأوصاه عليها كل التوصية، ثم لحق الجيش تاركا لها تحت رعاية المركيز.
وكان المركيز ده جنج في الثانية والأربعين إلا أن ناظره لا يظنه جاوز الثلاثين، وكان من أجمل رجال عصره وجها وهيئة، فعشق زوجة ابنه، وأمل أن تبادله الغرام، فاحتال لذلك، وكان مع المركيزة الصغيرة فتاة ربيت معها في المهد، فابتدأ المركيز بإبعادها عنها محتجا بمخالفتها لها في المذهب الديني، وكانت المركيزة شديدة التعلق بهذه الفتاة فآلمها فراقها جدا، ولم تدرك له مغزى، وما كان حضورها لهذا القصر عن رضا بل اضطرارا؛ لعلمها بما ارتكب فيه من الفظائع التي رويناها، وساءها حلولها في الغرفة التي سقيت فيها حماتها السم، ورقادها على السرير الذي كانت عليه، ورؤيتها للنافذة التي ألقت بنفسها منها، وكانت كل هذه الأشياء تذكرها بهذه الحادثة المحزنة، وتشخص لها حوادثها المريعة مفصلة، وزاد رعبها وانقباضها لما انكشفت لها نوايا حميها، فرأت نفسها محبوبة من رجل كان مجرد اسمه يرعبها وهي طفلة، ورأت نفسها تخلو به ساعات من النهار، ولما سكنت ألسنة الناس عن اتهامه في مقتل زوجته. ولو كانت الفتاة في غير هذا القصر وهذا المكان لكانت شجعت نفسها وسلمت أمرها لله، ولكنها قالت في نفسها: إن الله قدر على هذا القصر وساكنيه بلاء متواصلا، فماتت المركيزة غدرا وهي من أجمل خلق الله وأطهرهم نفسا، ولم يمد لها الله يدا لدفع الكيد عنها كأن صواعق غضبه حاقت بآل جنج ومن يتصل بهم.
ولبثت المركيزة الصغيرة تحتاط لها المخاوف، وتزداد بمرور الأيام، فأصبحت لا تستطيع أن تخلو بنفسها، فكانت تجمع لديها في النهار سيدات أهل المدينة لتأتنس بوجودهن، ولكن كان بعضهن ممن شهدن مقتل حماتها، فكن يعدن على مسامعها تفصيل هذه الواقعة، وهي تستزيدهن علما بما تم لها، فما كان يزيدها قولهن إلا انزعاجا، أما لياليها فكانت تقضي معظمها جاثية بملابسها ترتعب لأقل حركة، وترقب انبثاق ضوء الصباح، حتى إذا لاح تقوم إلى فراشها لترقد رقادا مشوبا بمزعجات الأحلام.
وأصبحت وقاحة المركيز ظاهرة ونواياه الخبيثة مفتضحة، فلم يعد لكنته صبر على حالها، وصممت على أن تعمل بيدها على الخلاص منه، فخطر لها أن تكتب لأبيها فتخبره بأمرها وتطلب منه المعونة، ولكنها رأت أن أباها حديث الدخول في المذهب الكاثوليكي، وقد لاقى أشد العذاب لنصرة الإصلاح «مذهب البروتستنت»، فلا يبعد أن يحتج المركيز بدعوى المذهب عند ورود جواب أبيها، فيفضه ويطلع على ما فيه، فتكون كالساعية إلى حتفها بظلفها، فاختارت أن تكتب لزوجها وزوجها عريق في الكاثوليكية وضابط في الجندية فلا تفض كتبه، فكتبت له وشرحت له حالها، واستكتبت العنوان يدا غريبة، ثم أرسلت بالكتاب إلى مونبلييه حيث عهد به إلى البريد.
وكان ابن المركيز في مدينة ميس عند استلامه لكتاب زوجته، فثار غضبه، وتذكر قصة أمه، وتذكر عهده لها أن لا ينساها وهو غلام يبكي لدى سريرها وهي تحتضر، ثم رأى زوجته المحبوبة في موقفها بتلك الغرفة المشئومة تهددها الحوادث التي انتابت أمه من قبل، فلم يطق صبرا، وقام في الحال فركب البريد إلى قصر الملك لويس الرابع عشر بفرساليا، والتمس المثول بين يديه، فأذن له، فجثا لدى قدمي الملك وكتاب زوجته في يديه، والتمس منه أن يأمر بإعادة أبيه إلى منفاه، وأقسم أن يصله بما يكفيه.
وكان الملك يجهل أن المركيز ده جنج عاد من منفاه، فعلم ذلك بصفة لا تجعل للعفو سبيلا، فأصدر أمره بالقبض على المركيز أينما وجد بأرض فرنسا ومحاكمته بمنتهى الشدة.
وكان للمركيز أخ بفرنسا ذو منصب سام في بلاد الملك، ولم يشارك إخوته الآخرين في لؤمهم، فما كاد يبلغه أمر الملك حتى سافر من فرساليا مسرعا إلى جنج، فأعلم أخاه بالخطر الذي يتهدد حياته، وسافر به حالا إلى أفينيون، فوجد المركيز ابنته مدام دور فان، فحاولت إبقاءه لديها، فخشي أن تصل إليه يد الملك بأذى إن هو عصيه، فسافر من هذه المدينة إلى كونتينة فينسيك، وكانت هذه الكونتية من الأملاك البابوية بفرنسا ومعتبرة لذلك أرضا غريبة عن هذه المملكة، وآوى المركيز فيها إلى جزيرة ليل، وهي قرية صغيرة قائمة في وسط نهر السرج ذات ظلال وعيون ومنظر بهيج النواظر.
ولبث المركيز في هذه القرية، وانقطعت عن الناس أخباره من ذلك الحين.
অজানা পৃষ্ঠা