أما الراهب والفارس، فتظاهرا بنسيان ما مضى، وعاملا المركيزة باللطف والأدب؛ فاطمأنت من وجهتمها، وكان أخوهما لم يزل غائبا. ورغما عن كل الحوادث التي انتابت المركيزة لم يزل في قلبها بقية حب وحنان لزوجها، فمع اطمئنانها من جهة أخويه ما فتئ قلبها يذكره ويتألم لبعده.
ودخل الراهب بغتة ذات يوم على المركيزة، ففاجأها وهي تبكي قبل أن تتمكن من مسح دموعها، فعرف سرها، وهان عليه حملها على الاعتراف له بما يبكيها، فقالت له: إنها لن يزول همها وينكشف غمها ما دام زوجها يعاملها هذه المعاملة الدالة على البغض والعداء. فحاول الراهب أن يعزيها ويصبرها، وقال لها في كلامه: إنها الجانية على نفسها بنفسها؛ فإنها نفرت قلب زوجها من نحوها وأثرت في صداقته لها بعمل الوصية التي حررتها على يد موثق، فجاء إشهارها بهذه الكيفية مشهرا بزوجها، ثم أبلغها أن لا تنتظر لزوجها عودة ما دامت هذه الوصية باقية.
ودخل الراهب بعد بضعة أيام لدى المركيزة حاملا كتابا يدعي أنه أتاه من أخيه، وأن به أشياء يسرها إليه، فتناولت المركيزة الكتاب وقرأته، وإذا به شكوى من زوجها لسوء معاملتها له، وأسف لفقد ثقتها منه، وكان الكتاب مشحونا بعبارات تشف عن حبه الخالص لها وكدره لضياع حظه عندها؛ مما تؤثر على كل ذي إحساس قراءته.
وقد تأثرت المركيزة فعلا من قراءة هذا الكتاب، ورق قلبها، ولكنها عادت فرأت أنه مضى من يوم محادثتها للراهب المحادثة الأخيرة وبين تاريخ هذا الكتاب زمن يكفي لإعلام المركيز بنتيجة هذا الحديث، ولهذا أخفت المركيزة ما خطر لها فعله ريثما تتضح لها حقيقة الأمر بأجلى برهان، فترى هل العواطف التي تضمنها الجواب صادقة أم موعز بها توصلا إلى غاية يرجونها.
وأخذ الراهب يسعى لدى المركيزة محتجا بأنه يعمل على التوفيق بينها وبين زوجها، فيعطف في حديثه على ذكر الوصية، ويلح على المركيزة بإبطالها، وطال إلحاحه حتى ارتابت المركيزة من أمره، وعادت إليها مخاوفها القديمة، وزاد ضغطه عليها حتى إنها اضطرت أن تجيبه إلى طلبه؛ فتستريح من جهته وتأمن جانبه، ورأت أن الإشهاد الذي احتاطت ففعلته أمام رجال أفينيون قبل مبارحتها لها يبطل ما تقرره فيما بعد.
وعندما حضر إليها الراهب أعاد ذكر الوصية، فأجابته أنها مستعدة لإبطالها؛ إكراما لخاطر زوجها، وليكون هذا العمل دليلا جديدا على صدق حبها له، وسببا في تقريبه منها. ثم أرسلت فأحضرت أحد الموثقين وأملت عليه إقرارا في حضرة سلفيها توصي فيه بجميع مالها لزوجها من بعدها، وكان صدور هذا الإقرار بتاريخ 5 مايو سنة 1667؛ فأبدى سلفا المركيزة لها جزيل فرحهما بزوال سبب الشقاق الذي كان مستحكما بينها وبين أخيهما، وأكدا لها أن سيعود زوجها إلى أحسن مما كان عليه، ومضت على ذلك بضعة أيام والمركيزة تساورها الآمال وتتوسم تحسين الحال، ثم أتى خطاب من المركيز يبشرها بالصفاء، ويعدها بقرب العودة واللقاء.
الغدر والوقيعة
أثرت الحوادث في نفس المركيزة فاعتلت صحتها، ولم تشأ أن تتناول دواء يساعدها على الشفاء علها تنتهي من حياة كلها شقاء. ولكن لما طال عليها الحال - والنفس عزيزة على كل حال - عزمت على المداواة تخفيفا لما هي فيه، فأوصت الصيدلي أن يجهز لها من الأدوية ما لا يمجه الفم ولا تأنف منه الأنف، وأن يرسل لها ما يجهزه في الصباح، فأطاع الصيدلي الإشارة، وما كادت تشرق الغزالة حتى وافاها بالشراب المطلوب، إلا أنها نظرت إليه فرأته شرابا قد اسود لونه وغلظ قوامه، تأباه العين قبل الفم، وتعافه النفس قبل اللسان؛ فكتمت ما رأته، ورفعت الشراب فاستودعته خزانتها، وتناولت بعض حبوب سهلة التناول قد اعتادت عليها من قبل.
وما كادت تمر الساعة التي يجب على المركيزة أن تتناول فيها الشراب حتى أرسل الراهب والفارس يستفسران على صحتها، فأجابتهما أنها بخير، ودعتهما إلى وليمة خفيفة أعدتها عصرا لبعض صاحباتها، ومضت ساعة فأرسل الرجلان يسألان أيضا عن صحتها، فأبلغتهما أنها على أحسن ما ترجو، ولم تفطن إلى سبب اهتمامهما بها لهذا الحد، فظنته مجاملة ولطفا.
ولبثت المركيزة في فراشها تستقبل المدعوين ببشرها المعهود، ورأت في نفسها نشاطا وخفة لم تعهدهما من قبل، ودخل الراهب والفارس فانضما إلى الحضور، وصفت الموائد إلا أنهما لم يمدا لها يدا، بل أخذ الراهب مكانه من المائدة دون أن يذوق من ألوانها شيئا، واستند الفارس إلى قوائم السرير المضطجعة عليه امرأة أخيه، وكانت علائم الانشغال بادية على محيا الراهب، وكأن فكرة تساوره وهو يهتم في إبعادها عنه، إلا أنها ملكت ناصيته فأطرق طويلا مشغولا عن الحاضرين كأنه في حلم، حتى اندهش الحاضرون لحالته وما عهدوه في مثل هذه المحافل إلا ضحوكا طروبا.
অজানা পৃষ্ঠা