حان موعد القطار، ونزلت بهية هانم تتقدمها الحقائب. واستقل الزوجان العربة إلى المحطة، وأقبل القطار بعد قليل، بطيئا في قدومه، وكأنه يتحسس طريقه ليستوثق أن الإصلاح قد تم بإتقان. وحين بارح القطار المحطة بطيئا، نظر زين العابدين إلى السماء، وارتاحت نفسه حين رأى يمامة تسير بجانب القطار وكأنها تسابقه، ثم ما لبث أن انشغل عن السماء بالأرض، وعاد ينظر إلى الطريق الذي انقطع عن السير فيه أشهرا طوالا، وشاركته بهية هانم في الصمت والنظر إلى الطريق حتى إذا وصلا إلى القاهرة طلبت بهية في تردد أن يذهبا إلى الطبيب أولا ما داما قد وصلا في موعد مناسب، والتقى طلبها برغبة زين العابدين الذي أراد أن ينتهي من هذه المهمة ليفرغ بعد ذلك إلى القاهرة التي بلغ شوقه إليها أقصى مداه. وتم لهما ما أرادا، وعادا من عند الطبيب، وقد كتب الدواء للست، واستقبلت التذكرة بأمل عريض مشرق، واستقبلها زين العابدين كما تعود أن يستقبل كل وصفة جديدة يجيء بها إلى زوجته.
واشترى لها الدواء، وذهب بها إلى بيت أبيها، وقبل أن يدخل قال سائق العربة الأجرة: هل أنتظر سعادتك؟
وبدون وعي قال زين العابدين: نعم.
وصعد فأدى زيارة عاجلة ثم استأذن وخرج، إلى القاهرة.
كان «بار الأنس» هو البيت الحقيقي الذي يقطنه زين العابدين حين يأتي إلى القاهرة، وكانت صديقته فاطمة العراقية؛ فتاة أتقنت إرضاء الرجال، فنصيبها من زوار البار هم الأغنياء الذين يحبون أن يبذلوا أموالهم في كرم وإسماح. وقد كانت في هذه الشهور التي غاب فيها زين العابدين قد وطدت صداقتها بوجيه آخر من وجهاء القاهرة الذين لم تمنعهم الثورة وتقطيع الخطوط الحديدية من زيارة البار. وهكذا كان دخول زين العابدين إليها أمرا لا تستقبله بالحفاوة والترحاب في دخيلة نفسها، وإن كانت قد أبدت له كل ما تعلمته طوال حياتها العريضة من حفاوة وترحاب. جلست إليه بضع دقائق، ثم استأذنت وقامت إلى زميلتها أنيسة ولعة وقالت: هذا السوار يعجبك من زمان. - نعم. - وهذا القرط؟ - ما شأنك؟ - الذي أحضر السوار والقرط هو هذا الرجل الجالس هناك. - نعم أعرفه زين العابدين. - يدي مشغولة في هذه الأيام بغيره. - فأنت تتنازلين لي عنه؟ - بعينك. - فماذا تريدين؟ - كم تدفعين لأتركه لك؟ - أعطيك أول هدية يحضرها. - وإذا كنت خائبة، ولم تستطيعي أن تنالي منه هدية مناسبة فماذا أعمل أنا؟ - وماذا أعمل أنا؟ - تدفعين فيه ما أطلبه الآن، والله يهنيك به بعد ذلك. - قولي، ماذا تريدين؟ - هذا المصحف الذي يتدلى على صدرك. - هذا! لقد ثمنته بعشرين جنيها. - أنت تعرفين أنني أستطيع الاحتفاظ برجلين وبعشرة عند اللزوم. - النهاية، أمري إلى الله. خذي.
وخلعت أنيسة المصحف وتقدمت هي وفاطمة من مائدة زين العابدين وجلستا، وقالت فاطمة في دلال: يا زين العابدين بك، أنت فاجأتني بزيارتك، وأنا الليلة مشغولة في فرح، وقد رجوت أنيسة أن تصاحبك الليلة. - يا ستي أهلا بأنيسة.
وتم الاتفاق دون أي اعتراض من زين العابدين، فما كان يمكن أن يعترض بمشهد من أنيسة، وهو بعد ليس حريصا كل الحرص على أن تطول صلته بفاطمة أكثر مما طالت، وما كادت فاطمة تقوم عنهما حتى سارع هو يسألها: أين نتعشى الليلة؟
وكانت خبيرة بما يرضي الرجال، خبيرة أيضا بالأمكنة التي يمكن أن تقصد إليها إذا كان معها زبون على هذا الغنى الذي يتمتع به زين العابدين. وسرعان ما اكتشف فيها زين العابدين هذه المواهب، فهو يسألها بعد العشاء: وأين الغداء؟ - غداء! أي غداء يا رجل، ونحن ما نزال في العشاء؟! - أقصد غدا. ماذا بك، لماذا لا تفهمينني؟ - غدا! أي غد يا سعادة البك؟! الكلام كان عن ليلة واحدة، وأنا لا أعرف لليلة واحدة. - وأنا لا أعرف على ضرة. - فماذا أنت فاعل بفاطمة؟ - من باعك بعه. - يا راسي. - يا ستي، كم من أفراح أحيتها ونحن أصدقاء ولم تعتذر! - تعجبني. - عارف. - نتغدى غدا في روض الفرج. - يا بنت! في الهواء الطلق على النيل. - فاهمني. - وغدا سأكون فهمتك أكثر وأكثر.
وفي الغد قصد هو وأنيسة روض الفرج، واختار منضدة على النيل وأمر بالغداء، وطلب زين العابدين حمامة مشوية، وطلبت هي كبابا، وفي انتظار الأكل أن يأتي نظر زين العابدين إلى السماء وكأنما يريد أن يرى مقدار سطوع الشمس، ولكن أدهشه أن وجد حداءات كثيرات تحوم حول المكان. وقال لأنيسة: ماذا تفعل كل هذه الحداءات هنا؟ - كل مخلوق يبحث عن رزقه.
وسكت، وجاء الطعام، واستقر على المائدة، وبدأ زين العابدين يأكل، فقطع لنفسه لقمة خبز غمسها في سلطة الطحينة، حتى إذا ابتلعها، مد يده للحمامة المشوية، وقد أخذ به الجوع مأخذه، ولكن لم يكد يمد يده حتى انقضت على الحمامة حدأة بارعة، فإذا الحمامة المشوية في مخالبها، وإذا هي في السماء مرة أخرى قبل أن يفيق زين العابدين من المفاجأة المذهلة.
অজানা পৃষ্ঠা