وأما بنعمة ربك فحدث .
قلب طرفك في تواريخ الأمم، أقصاها وأدناها، تجد برهانا قاطعا على أن الأمة متى بخست قيم الأعمال العالية، وازدري فيها بشأن الفضيلة؛ فقدت ما به قوامها، وانهدم بناؤها، وذهبت كما ذهب أمس، ولا جرم أن الكفران مقرون بزوال النعم.
يمكنني أن أختم كلامي هذا بكلمة شكر لهذه العصابة الطاهرة التي أقدمت في هذه الآونة النحسة، ووقفت على شفير الخطر، وكتبت على نفسها السعي في توحيد المسلمين، ويسرنا أنا نرى عددها كل يوم في ازدياد، نسأل الله نجاح أعمالها وتأييد مقاصدها، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الفصل الرابع عشر
الشرف
كلمة يهتف بها أقوام مختلفة من الناس، إلا أن أكثرهم عن حقيقة معناها غافلون، فئة ترى الشرف في تشييد القصور، والتعالي في البنيان، وزخرفة الحوائط والجدارن، ووفرة الخدم والحشم، واقتناء الجياد، وركوب العربات، وفئة أخرى تتوهم أن الشرف في لبس الفاخر من الثياب، والتزين بألوان الألبسة وأنواعها، والتحلي بحلي الجواهر الثمينة، مرصعة بالأحجار الكريمة، كالألماس والياقوت والزمرد ونحوها.
وفئة تتخيل الشرف في الألقاب والرتب كالبيك والباشا، أو في الوسامات المعروفة بالنياشين وعلو أسمائها كالأول من الصنف الفلاني، والثاني من الدرجة الفلانية، حتى إنك ترى الرجل يسلب مال أخيه، وينهب ثروة أقاربه وذويه، أو بني ملته ومواطنيه، ليشيد بما يصيب من السحت قصرا، ويرفع بناء، ويزخرف بيتا، ويقيم له حراسا من المماليك، وخفراء من الغلمان، ويظن بذلك أنه نال مجدا وفخارا سرمديا، وصح لحاله أن يعنون بعنوان الشرف.
وتجد الآخر يذهب في الكسب أشنع مما يذهب الأول ليكتسي برفيع الثياب، ويتزين بأجمل الحلي، أو ليكون له من ذلك ما يفاخر به أمثاله، ويتخيل أنه بلغ به درجة من الرفعة لا يدانى فيها، ويعبر عن حاله هذا بلفظ الشرف، ويتوهم أنه وصل الحقيقة من معناه.
ومنهم ثالث يسهر ليله ويقطع نهاره، بالفكر في وسيلة ينال بها لقبا من تلك الألقاب، أو يحصل بها وساما أو يستفيد وشاحا، وسواء عنده الوسائل يطلبها أيا كان نوعها، وإن أفضت إلى خراب بلاده، أو تذليل أمته، أو تمزيق ملته، وعنده أنه رقى الذروة من معنى الشرف.
نحن نرى هذه الأوهام قائمة مقام الحقائق في أذهان كثير من الناس، ولكن لا نظنها طمست عين الحق فيهم، حتى عموا عن إدراك أخطائهم وانحرافهم عن الصواب في وهمهم. ماذا يجد من نفسه المباهي بقصوره، وولدانه وحوره؟ ألا يحس من نفسه أنه وإن حاز منها على أعلى ما يتصوره العقل، فذاته التي هي أعز لديه من جميع ما كسب لم تستفد شيئا من الكمال، وأن جميع ما حصله فهو أجنبي عنه، وليس له نسبة إلا نسبة العناء في تحصيله؟ ألا يرى أن كثيرا ممن بلغ مبلغه أو فاقه، سلبتهم صروف الدهر ما بأيديهم، فأصبحوا بصفاتهم وجواهر ذاتهم، فإن لم تكن على جانب من الكمال الإنساني انخرطت في سلك الطبقات السافلة، ولم يبق لهم في القلوب منزلة ولا في النفوس مكانة.
অজানা পৃষ্ঠা