خلق الله الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبد وحضارة؛ صنيعة أعماله ... أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجا أو خصفا، وأكنانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يفتتن فيه من دواعي ترفه ونعيمه إنما هي صور أعماله ومجالي أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان وبسط أكفه للطبيعة؛ ليستجديها نفسا من حياة، لشحت به عليه، بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه وهاد يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن يعمل، فصنعته أيضا من صنعه، فهو في جميع شئونه الحيوية عالم صناعي كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد عن آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل. هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعه في هذه الحالة وخذ طريقا من النظر إلى أحواله النفسية؛ من الإدراك والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية؛ تجده فيها أيضا عالما صناعيا: شجاعته وجبنه، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشبهها من الكمالات والنقائص جميعها تابع لما يصادفه في تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربى بينهم، ومرامي أفكاره، ومناهج تعقله، ومذاهب ميله، ومطامع رغباته، ونزوعه إلى الأسرار الإلهية أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه، وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هي ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات، والأقوام والعشائر والمخالطون.
وأما هواء المولد والمربي ونوع المزاج، وشكل الدماغ وتركيب البدن، وسائر الغواشي الطبيعية؛ فلا أثر له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية، على ضعف في ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع، نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أن ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان في عقله وصفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب عليه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت - مع هذا - أن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن الملكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يغرب عن الأذهان. إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين، ولا أظن منكرا يجحدها:
إن الدين وضع إلهي، ومعلمه والداعي إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين المنذرين، فهو مكسوب لمن لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة، وتصبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها، وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل، وأول ما يخط في رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده، وما يطرأ على النفوس من غيره؛ فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال. •••
وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل أن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطراح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية.
ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»، ومن أخباره: أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح هي لله وحده، فمن يقف على مباني هذه الديانة، ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار، مع ملاحظة أن لكل خيال أثرا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه؛ يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي، المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فإنهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حد في استيفاء لذاتها، ويسارعون إلى افتتاح الممالك، والتغلب على الأقطار الشاسعة، ويخترعون كل يوم فنا جديدا من فنون الحرب، ويبدعون في اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض، ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في إحكام نظامها، حتى وصلوا غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم، فضلا عن الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل؛ يحكم حكما لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الملل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها، ومن تأمل في آية
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة، وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلا عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباقة والرماية، انكشف مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.
অজানা পৃষ্ঠা