نعم، كانت تتدرج في نقض أساس السلطنة التيمورية حجرا حجرا، وتتملك أراضيها قطعة بعد قطعة، لكن بدون تعرض للسلطنة الظاهرية ولا مس لنفوذها، كانت تغري الولاة من النوابيين والرجوات بالخروج على السلطان التيموري، ثم تنوب عنه بالعساكر الإنجليزية والصينية للتغلب على الخارجين تحت اسم الملك، ولا تمس رسومه الملوكية بل تقلب نفسها خادمة مأمورة، هكذا كان سيرها، وهو المألوف من عوائدها.
أما في مصر فقد أظهرت مقاصدها لأول خطوة، باكورة أعمالها بعد دخول تلك البلاد غل أيدي الحكومة، ومعارضتها في جميع أعمالها، وصدها عن تعاطي شئونها، وربما كان يخيل للناظر في حركات تلك الدولة أيام كانت تهيئ أسباب الفتنة السابقة ومساعيها لتقوية ثورة السودان، أنها تسلك سبيلها في الهند، ولكن يرى منعها السلطان العثماني عن المداخلة في إصلاح بلاده المصرية والسودانية، مع ما له فيها من الحقوق الشرعية والقانونية منعا صريحا، وفي معارضة ولاة مصر وحكامها في كليات الأمور وجزئياتها أنها انحرفت عن مشربها وأخذت مذهبا غير مذهبها.
كليفور لويد مستشار الداخلية في مصر، وهو بحكم وظيفته من الطبقة الوسطى في مأموري الحكومة، يتحكم على جميع الوزراء المصريين، ويعارضهم في تصرفهم، ويضع للبلاد شرائع وقوانين من تلقاء نفسه، ويخالف توفيق باشا في أوامره (إلا أنه لا يحسب عاصيا حتى ألجئوا نوبار باشا رئيس النظار
1
إلى تقديم استعفائه بعد العجز عن مقاومته)، وضاق صدر توفيق باشا من صلابته في آرائه، ولم تر الحكومة الإنجليزية عزله وإبداله بغيره، وزعمت أنها لو عزلته لأهانت تاج بريطانيا العظمى، ثم عالجت هذا الارتباك بتوجيه أوامرها إلى كليفور لويد بأن يقف عند حدود وظيفته ولا يتجاوز دائرة أعماله، التي تسمح له بها طبيعة الوظيفة وخصائصها المحدودة.
وكان للظنون مجال لحسن الظن بدولة بريطانيا، غير أن جريدة التايمس كشفت القناع، ولم تبال بما يخدش خواطر الأمراء الشرقيين ازدراء وامتهانا، ومزقت الستار الذي أقامته حكومتها حجابا لمقصدها في إلزام كليفور لويد بما ألزمته، فقالت: إن وزارة نوبار باشا مؤلفة من دمى (صور وتماثيل) نظمت في أسلاك، أطرافها بيد الحكومة الإنجليزية تحركها كيفما شاءت، فعلى كليفور لويد أن يدير الشئون المصرية بواسطة هذه الألاعيب، تريد أن الحل والعقد في جميع الأحوال إنما هو للوزارة الإنجليزية لكن من وراء الحجاب ... ثم اعترضت هذه الجريدة على إقامة هذا الحجاب فقالت: إنه وإن كان مفيدا إلا أنه يضر بمصالح إنجلترا ومصر معا (وكان على الحكومة الإنجليزية أن تجهر بولاية الأحكام في مصر كما صرحت بذلك مرارا).
أسرعت دولة إنجلترا في سيرها إلى ما تروم في الأقطار المصرية، بل تهورت على خلاف عادتها، وقد يكون مع المستعجل الزلل، لا نظن من الحكمة ما أتته من الأعمال في مصر وربما وجب عليها تدارك ما فرط منها، إن محمد أحمد شمخ أمره وعظم خطره وهو من ورائها لا عائق له في سيره، والقوى تجتمع إليه يوما بعد يوم، وبعدما تراه في غير هذا المحل من أخباره جاءت أواخر الأخبار بأن المواصلات انقطعت بين القاهرة وبين بربر بالمرة، وأن جماهير الثائرين يزيد عددهم حول مدينة بربر وقتا بعد وقت لقصد محاصرتها، ويغلب على ظن الكافة أنهم لا بد أن يغيروا على المدينة بعد قليل ويلتحموا مع حاميتها بموقعة يكون فيها الفصل، وأن مدير بربر أعياه الإلحاح على الحكومة لتنجده بعساكر إنجليزية ليفرجوا عن المدينة وينقذوا حاميتها، وإلا هلكوا.
فما ركبته إنجلترا من طريق التصرف في الإدارات المصرية يخلف ظن المصريين فيها ويقطع أملهم من وفاء وعودها، ويوجد عليها نفوس الأمراء منهم ويوغر صدورهم، ويحقق لدى العلماء أن من قصدها التصرف في ولاية بلادهم كما يتصرف الملاك، فيلتجئون بحكم الضرورة إلى تلبية محمد أحمد في دعوته أو مساعدته على بعض أعماله، أو تخاذلهم بين يديه وفتح الأبواب له.
ولا نظن أن إنجلترا يخفى عليها أن علماء مصر هم أساتذة لعلماء المسلمين شرقا وغربا، وأن الجامع الأزهر معهد العلوم الشرعية تسير إليه الركاب من جميع الأقطار، ويقصده المسلمون من كل ناحية لدراسة الدين وروايته، فلو حزبهم الأمر وأعوزهم الصبر ورأوا ولاية الدين في قبضة من ليس منهم، فبمجرد إشارة خفيفة وإيماء إلى موافقة محمد أحمد، سرا كان أو جهرا؛ كاف لإيقاد نار الفتنة في جميع أرجاء البلاد الإسلامية، وتسابق القلوب إلى الاعتقاد بالمدعي والتفاني تحت رايته، وليس في استطاعة دولة إنجلترا أن تتصرف في أهواء القلوب ولا حركات الأفكار، وإن أسلحتها الجديدة لا تبدد جحافل الخواطر، وشتان بين هذه الفتنة وبين التي يسمونها فتنة عرابية - نسأل الله العافية وحسن العاقبة.
الفصل الثاني والثلاثون
অজানা পৃষ্ঠা