عُقودُ الزَّبَرْجَدِ
في إعْرَاب الحَديث النَّبوي
لِجَلال الدِّين السّيوطي
(ت ٩١١ هـ)
حَقّقه وَقَدم لَه
دكتور سَلمان القضَاة
دَار الجيل
بَيروت
١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م
অজানা পৃষ্ঠা
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي خصّ هذه الأمة بالإسناد والإعراب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد والآل والأصحاب.
وبعد:
فقد أكثر العلماء قديمًا وحديثًا من التصنيف في إعراب القرآن، ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري، فإنه لما ألّف إعراب القرآن المشهور أردفه بتأليف لطيف في إعراب الحديث، أورد فيه أحاديث كثيرة من مسند أحمد وأعربها، إلاّ أنه لاختصاره، ونزرة ما أورده فيه من النزر القليل، لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل.
والثاني الإمام جمال الدين بن مالك، فإنه ألّف في ذلك تأليفًا خاصًا بصحيح البخاري، يسمى "التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح".
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع، شامل للفوائد البدائع شافٍ. كافلٍ بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كُلّ فريدة، وأسفر فيه النظام عن وجه
1 / 67
الخريدة وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمّه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتّبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كلَّ سحابة.
واعلم أن لي على كلّ كتاب من الكتب المشهورة في الحديث تعليقة، وهي الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أبي حنيفة، والكتب الستة ولم يبق إلا مسند أحمد. ولم يمنعني من الكتابة عليه إلاّ كبر حجمه جدًا، وعدم تداوله بين الطلبة كتداول الكتب المذكورة، وقدّرت التعليقة عليه تجيء في عدة مجلدّات، والتعاليق التي كتبتها لا تزيد التعليقة منها على مجلد.
فلما شرح الله صدري لتصنيف هذا الكتاب، عرّفته بمسند أحمد، عوضًا مما كنت أرومه عليه من التعليقة، ولكونه جامعًا لغالب الحديث المتكلّم على إعرابه. فإن شئت فسّمه "عقود الزبرجد على مسند أحمد" وإن شئت فقل "عقود الزبرجد في إعراب الحديث" ولا تتقيد.
والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، موجبًا للفوز بجنات النعيم، إنه البرّ الرحيم ...
مقدمة
اعلم أن كثيرًا من الأحاديث رواها الرواةُ بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا، وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح، ومنها ما يخالف ذلك.
وقد قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: "إذا ورد الحديث على وجهين ما يوافق الفصيح وما يخالفه، فالموافق للفصيح هو لفظ النبي ﷺ لأنه لم يكن ينطق إلاّ بالفصيح"، وقد نقل هذا الكلام عن المزني.
قال أبو عاصم العبادي- من متقدمي أصحابنا- في طبقاته: "قال المزني: لا يروى في الحديث خطأ، فإن النبي ﷺ أفصح العرب، فلا يجوز أن يروي خطأ".
1 / 68
وقال أبو الحسن بن الضائع- بالضاد المعجمة- في شرح الجمل:
"تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي ﷺ، لأنه أفصح العرب".
قال: "وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرًا فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي
فحسن، وان كان يرى أن من قبله أغفل شيئًا وجب عليه استدراكه فليس كما رأى".
وقال أبو حيان في شرح التسهيل:
"قد أكثر ابن مالك من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدًا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأوّلين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، الخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك. وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم، كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول ﷺ، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه ﷺ لم تقل بتلك الألفاظ جميعها. نحو ما روي من قوله "زوجتكها بما معك من القرآن" "ملكتكها بما معك"، "خذها بما معك" وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فنعلم يقينًا أنه ﷺ لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم أنه قال بعضها. إذ يحتمل أنه قال لفظًا مرادفًا لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه ﷺ، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جدًا، لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان
1 / 69
الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث، لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك. وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا غير شك أن رسول الله ﷺ كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلاّ بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز، وتعليم الله ذلك له من غير معلم.
وابن مالك قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر، متعقبًا بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك.
"وابن المصنف ﵀ كأنه موافق لأبيه في استدلاله بما روي في الحديث، فإنه يذكره على طريقة التسليم".
وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وكان ممن أخذ عن ابن مالك- قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول. فلم يجب بشيء.
قال أبو حيان: "وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتديء: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما. فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث". انتهى كلام أبي حيان.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: قال الشعبي: "إذا وقع في الحديث اللحن البينّ يعرب". وقاله أحمد بن حنبل. قال: "لأنهم لم يكونوا يلحنون". وقال النسائي: "إن كان شيئًا تقوله العرب فلا يغيّر، وإن لم يكن من لغة قريش، لأنه ﵊ كان يكلم الناس بألسنتهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله ﷺ لا يلحن".
فصل [في عزو الأقوال إلى أصحابها]
قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوّا إليه، ليعُرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة
1 / 70
النحو في كتبهم المبسوطة من الأعاريب للأحاديث، فأوردتها بنصهّا معزوّة إلى قائلها، لأن بركة العلم عزو الأقوال إلى قائلها، ولأن ذلك من أداء الأمانة، وتجنب الخيانة، ومن أكبر أسباب الانتفاع بالتصنيف، لا كالسارق الذي خرج في هذه الأيام فأغار على عدة كتب من تصانيفي، وهي المعجزات الكبرى، والخصائص الصغرى، ومسالك الحنفاء، وكتاب الطيلسان وغير ذلك، وضمّ إليها أشياء من كتب العصريين، ونسب ذلك لنفسه من غير تنبيه على هذه الكتب التي استمد منها، فدخل في زمرة السارقين، وانطوى تحت ربقة المارقين، فنسأل الله تعالى حسن الإخلاص والخلاص، والنجاة يوم يقال للمعتدين لات حين مناص.
وقد رمزت على كل حديث رمز من أخرجه من أصحاب الكتب الستة المشتهرة، وإن لم يكن فيها ولا في المسند صرّحت بذكر من أخرجه من أصحاب الكتب المعتبرة.
فائدة [هل يتعدى "سمع" إلى مفعولين؟]
يتكرر كثيرا في الحديث قول الراوي "سمعت رسول الله ﷺ يقول " وقد اختلف هل يتعدّى "سمعت" إلى مفعولين؟
فجّوزه الفارسي، لكن لابد أن يكون الثاني مما يُسْمَع، نحو: سمعت زيدًا قال كذا. فلو قلت: سمعت زيدًا أخاك، لم يجز.
والصحيح تعدّيه إلى مفعول واحد، وما وقع بعده منصوبًا فعلى الحال، والأول على تقدير مضاف، أي سمعت قول رسول ﷺ، لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بيّن هذا المحذوف بالحال المذكور، وهي يقول، وهي حال مبيّنة، ولا يجوز حذفها.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ [آل عمران: ١٩٣] تقول سمعت رجلًا
1 / 71
يتكلم، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا منه، فأغناك عن ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدّ وأن يقال: سمعت كلامه.
وقال الطيبي: الأصل في "سمعتُ رسول الله ﷺ يقول ": سمعتُ قول رسول الله، فأخّر القول وجُعل حالًا ليفيد الإبهام والتبيين. وهو أوقع في النفس من الأصل.
في قولنا "﵁" و"رضوان الله عليه"
فائدة
[في قولنا "﵁" و"رضوان الله عليه"]
سئل الإمام أبو محمد بن السِّيد البطلْيوسي عن قولنا: "﵁ ورضوان الله عليه هل "عليه" هنا مبدلة من "عنه" كما يتبدل بعض الحروف من بعض، فيسوغ فيها على وعن، أم ليست مبدلة؟
فأجاب: ليست "على" هاهنا ببدل من "عن" التي حكم "رضي" أن يتعدى بها، بدليل أن "عليه" قد صارت خبرًا عن المبتدأ، ولو كانت بدلًا من "عن" لكانت من صلة الرضوان، ولم يصح أن يكون خبرا عنه، وعن مضمنّة في الكلام، كأنه قال: رضوان الله عنه سابغ عليه، أو واقع عليه، ونحو ذلك (١).
_________
(١) فائدة [في إعراب غير]
سئل ابن الحاجب عن إعراب "غير" في قولهم: هذا الحديثُ لا نعلمُ أحدًا رواه عن فلان غير فلان؟ أينصب غير أم يرفع؟.
فأجاب بما نصّه: إن جعلت "نعلم" متعديًا إلى مفعولين أحدهما "أحدًا" والثاني "رواه"، كما نقول: ما أظن أحدًا رواه غيرُ فلان، وهو الظاهر، فالفصيح الرفع على البدل من الضمير المرفوع المستتر في "رواه" العائد على أحد، لأنه المنفي في لا نعلم.
ويجوز نصبه على الاستثناء، وهي قراءة ابن عامر، ولا يجوز أن يرفع على أن يكون فاعلًا برواه، لأن في "رواه" ضمير فاعل عائد على أحد، فلا يستقيم أن يرفع به فاعل آخر.
فإن جعلت "نعلم" بمعنى نعرف المتعدي إلى واحد، كان "رواه" صفة له، كأنك قلت: لا نعرف راويًا غير فلان، تعينّ النصب، جعلته بدلًا أو استثناء، كقولك: ما أكرمت أحدًا راويًا غير زيد. فلا يجوز في "غي" إلاَّ النصب.
نقلته من خط ابن الضائع في تذكرته، وهو نقله من خط ابن الحاجب.
1 / 72
مُسند أُبَّيْ بن كَعْب ﵁
١ - حديث "ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فَرَقا"
[في التمييز].
[عَرَقًا وفَرَقا] هما منصوبان على التمييز. فالأوّل محّوِل عن الفاعل، والأصل: ففاض عرقي، فحّول الإسناد إلى ضمير المتكلم، وانتصب عرقاَ على التمييز.
قال ابن مالك في شرح التسهيل: "ممّيز الجملة ما ذكر بعد جملة فعلية مبهمة النسبة. وإنما أطلق على هذا النوع بخصوصه مع أن كلّ تمييز فضلة يلي جملة، لأن لكلّ واحد من جزأي الجملة في هذا النوع قسطًا من الإبهام يرتفع بالتمييز، بخلاف
1 / 73
غيره، فإن الإبهام في أحد جزأي جملته، فأطلق على مميزه مميّز مفرد، وعلى هذا النوع مميّز جملة. والأكثر أن يصلح لإسناد الفعل إليه مضافًا إلى المجهول فاعلا، كقولك في: طاب زيدٌ نفسًا، و﴿اشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا﴾: طابت نفس زيد، واشتعل شيب الرأس".
وقال الزمخشري في المفصّل: هذه التمييزات مزالة عن أصلها، إذ الأصل وصف النفس بالطّيب، والعرق بالتصبب، والشيب بالاشتعال، وأن يقال: طابت نفسُه، وتصبب عرقهُ، واشتعل شيبُ رأسي، لأن الفعل في الحقيقة وصف في الفاعل. والسبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد.
قال ابن يعيش في شرحه: "ومعنى المبالغة أن الفعل كان مسندًا إلى جزء منه، فصار مسندًا إلى الجميع، وهو أبلغ في المعنى. والتأكيد أنه لما كان يفهم منه الإسناد إلى ما هو منتصب [به]، ثم أسند في اللفظ إلى زيد تمكّن المعنى، ثم لما احتمل أشياء كثيرة، وهو أن تطيب نفسه بأن تنبسط ولا تنقبض، وأن يطيب لسانه بأن يعذب كلامه، وأن يطيب قلبه بأن يصفا انجلاؤه، بُيّن المراد من ذلك بالنكرة التي هي فاعل في المعنى، فقيل طاب زيدٌ نفسًا، وكذا الباقي. فهذا معنى قوله: والسبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد". انتهى
وأما الثاني فليس محّولًا عن شيء، وإنما هو مبيّن لجهة التشبيه، نحو: أنت
1 / 74
الأسدُ شجاعةً، والبحرُ كرمًا، والخليفةُ هيبةً.
وفي أوّل هذا الحديث عند مسلم "فسُقِطَ في نفسي من التكذيب ولا إذْ كنتُ في الجاهلية":
[معنى سُقِط]
قال القاضي عياض: "معنى سُقِطَ في نفسي لما أي أعزته حيرة ودهشة".
قال الهروي في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾: "أي تحيّروا وندموا، يقال للنادي المتحيرّ على فِعْلٍ فعله: سُقط في يده. وهو كقوله: قد حصل في يده من هذا مكروه".
انتهى.
وقال أبو حيان في البحر: "ذكر بعض النحويين أن قول العرب "سُقِطَ في يده" فعل لا يتصرف، فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول. وكان أصله متصرفاَ. تقول!: سَقَط الشيء إذا وقع من علو، فهو في الأصل متصّرف لازم ... وسُقط مبني للمفعول، والذي أوقع موقع الفاعل هو الجار والمجرور، كما تقول: جُلِسَ في الدار، وضحِكَ من زيد. وقيل: سُقِط يتضمن معقولًا وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط، كما يقال: ذُهِبَ بزيد".
قال أبو حيان: "وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط، لأن سُقِطَ ليس مصدره الإسقاط، وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يُسَّم فاعلُه، بل هو ضميره. وقوله: "ولا إذْ كُنْتُ في الجاهلية".
قال أبو البقاء: "تقديره ولا أشكل علىَّ حال القرآن إذْ أنا في الجاهلية كإشكال هذه القصّة علىَّ.
1 / 75
وقال التوُّرِبشْتي في شرح المصابيح: قيل فاعل "سقط " محذوف، أي فوقع في نفسي من التكذيب ما لمَ أقدر على وصفه، ولم أعهد بمثله ولا إذْ كنتُ في الجاهلية.
وقال الطّيبىّ في شرح المشكاة: "قد أحسن هذا القائل وأصاب في هذا التقدير، ويشهد له قوله: "فلما رأى رسولُ الله ﷺ ما غشيني" أي من التكذيب. فَ "مِنْ" على هذا بيانية. والواو في "ولا إذْ كنتُ" لما تستدعى معطوفاَ عليه، و"لا" المؤكدة توجب أن يكون المعطوف عليه منفيًا، وهو هذا المحذوف. وهذا أسدّ في العربية من جعل "ولا إذْ كنتُ" صفة لمصدر محذوف، كما قدّره المظهري، حيث قال: "يعنى وقع في خاطري من تكذيب النبي ﷺ في تحسينه لشأنهما تكذيب أكثر من تكذيبي إياه قبيل الإسلام، لأن واو العطف مانعة، ولو ذهب إلى الحال لجاز على التعسّف".
قال: "وذكر المظهري أن "عرقًا وفرقًا" منصوبان على التمييز، والظاهر أن يكون "فرقًا" مفعولًا له، أوحالا، لأنه لا يجوز أن يقال: انظر فرقي".
قال: "وقوله: "فَرَدَدْتُ إليه أنْ هَوِّن على أمتي".
يجوز أن تكون "أنْ " مفسّرة، لما في رددتُ من معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، وإن كان مدخوله أمرًا. وجوّز ذلك صاحب الكشاف نقلا عن سيبويه".
1 / 76
وقوله: "ولك بكُلِّ رَدَّةٍ مسألةٌ تسْألُنيها".
" تَسْألُنيها" صفة مؤكدة لمسألة، كقوله تعالى: ﴿وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ أي مسألة ينبغي لك أن تسألها، وأنك لا تخيب فيها. انتهى.
٢ - حديث اللُّقَطَة "فإنْ جاء صاحِبُها وإلاّ استَمْتِعْ بها".
قال ابن مالك في توضيحه: "تضمَّن هذا الحديث حذف جواب "إنْ " الأولى وحذف شرط "إنْ " الثانية، وحذف الفاء من جوابها، فإن الأصل: فإنْ جاء، صاحبُها أخذها وإلا يجئ فاسْتمتعْ بها".
٣ - حديث: "يغسلُ ما مَسَّ المرأةَ منه".
قال أبو البقاء: -وهو أول حديث ذكره في إعرابه-: ""ما" بمعنى الذي، وفاعل "مسَّ " مضمر فيه يعود على الذي، والذي وصلتها مفعول "يغسل"، و" المرأةَ" مفعول "مسَّ ". ولا يجوز أن ترفع "المرأة" بمسَّ على معنى ما مسَّت المرأةُ لوجهين:
أحدهما: أن تأنيث المرأة حقيقي، ولم يفصل بينها وبن الفعل فلا وجه لحذف التاء.
1 / 77
والثاني: أن إضافة المسّ إلى الرجل وإلى أبعاضه حقيقة، قال تعالى: ﴿أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ وإضافة المسّ إليها في الجماع تجوّز". انتهى.
٤ - حديث موسى والخضر:
قال أبو البقاء: "قوله: "أنَّى بأرضك السلام". في "أنّى" ها هنا وجهان: أحدهما: من أين، كقوله تعالى: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ فهي ظرف مكان.
1 / 78
و"السلام" لما مبتدأ. والظرف خبر عنه. والثاني: هي بمعنى كيف، أي كيف بأرضك السلام؟ ووجه هذا الاستفهام أنه لما رأى ذلك الرجل في قفر من الأرض استبعد علمه بكيفية السلام. فأما قوله "بأرضك" فموضعه نصب على الحال من السلام، والتقدير: من أين استقرَّ السلام كائنًا بأرضك؟ ".
وقوله: "موسى بني إسرائيل":
أي أنت موسى بني إسرائيل؟ فأنت مبتدأ، وموسى خبره.
وقوله: "فكلموهم أن يحملوهما فعُرف الخضر فحملوهما".
المعنى أن موسى والخضر ويوشع قالوا لأصحاب السفينة هل تحملوننا؟ فعرفوا الخضر فحملوهم. فجمع الضمير في "كلموهم " على الأصل، وثنّى "يحملوهما" لأنهما المتبوعان، ويوشع تبع لهما. ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ فثنى ثم وحد لما ذكرنا.
وقوله: "قومٌ حملونا".
أي هؤلاء قوم، أوهم قوم. فالمبتدأ محذوف. وقوم خبره.
وقوله: "فأخذَ برأسه".
في الباء وجهان أحدهما: هي زائدة، أي أخذ رأسه. والثاني: ليست زائدة، لأنه ليس المعنى أنه تناولت رأسه ابتداء، وإنما المعنى أنه جرّه إليه برأسه ثم اقتلعه. ولو كانت زائدة لم يكن لقوله "اقتلعه" معنى زائد على أخذه.
وقوله: "لَوددْنا لو صبرَ".
"لو" هنا بمعنى "أنْ " الناصبة للفعل، كقوله تعالى:
1 / 79
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ﴾ ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون﴾. وقد جاء بأنْ لا قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَه﴾. و"صبر" بمعنى يصبر، أي وددنا أن يصبر". انتهى كلام أبى البقاء.
قلت: وبقى فيه أشياء منها قوله: "موسى بني إسرائيل":
فيه إضافة العلم وهو"موسى" إلى بني إسرائيل. والقاعدة النحوية أن العلم لا يضاف لاستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف الإضافة، إلا أنه جاء إضافة العلم قليلًا في قول الشاعر:
علا زيْدُنا يومَ النَّقا رأسَ زَيْدِكُم
فأوّل على أنه تُخُيّل فيه التنكير لوقوع الاشتراك في مسمَّى هذا اللفظ، وكذا يؤول في هذا الحديث.
قال ابن الحاجب: "شرط الإضافة الحقيقية تجريد المضاف من التعريف".
قال الرضي: "فإن كان ذا لام حذفه لامه، وإن كان علمًا نكّر بأن يجعل واحدًا من جملة من سمّي بذلك اللفظ ... قال: وعندي أنه يجوز إضافة العلم مع بقاء تعريفه، إذ لا منع من اجتماع التعريفين كما في النداء، نحو: يا هذا، ويا عبد الله. وذلك إذا أضيف العلم إلى ما هو متصف به معنى، نحو: زيدُ الصدّق، ونحو ذلك. وإن لم يكن في الدنيا إلا زيد واحد. ومثله قولهم: مُضمرُ الحمراء، وأنمارُ الشّاء وزيدُ الخيل. فإن الإضافة
1 / 80
فيها ليست للاشتراك المتفق ... انتهى.
وقوله: "ما نَقَصَ عِلْمي وعلمُك مِنْ عِلْمِ الله إلا كنقرةِ هذا العصُفورِ مِنْ هذا البحْر" ليس هذا الاستثناء على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله النقص، فقيل "نقص" بمعنى أخذ، وهو توجيه حسن، فيكون من باب التضمين، ويكون التشبيه واقعًا على الآخذ لا على المأخوذ منه. وقيل المراد بالعلم المعلوم بدليل دخول حرف التبعيض، لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمه لا تتبعض، والمعلوم هو الذي يتبعض. وقيل هو من باب قول الشاعر:
ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفهُم
بهنّ فُلولٌ مِنْ قِراع الكتائب
لأن نقر العصفور لا يُنقص البحر. وقيل "إلا" بمعنى "ولا"، أي ولا كنقرة هذا العصفور. كما قيل بذلك في قوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، أي ولا الذين ظلموا. لكن قال أبو حيان في البحر: "إن إثبات "إلا" بمعنى "ولا" لا يقوم عليه دليل.
وقوله: "إني على عِلْم من عِلْم الله". "على" هنا للاستعلاء المجازي.
وقوله: "فبينما هُمْ في ظلِّ صَخْرة في مكانٍ ثَرْيان".
قال ابن مالك في توضيحه:
1 / 81
"هو بلا صرف، وفيه شاهد على أن منع أصرف، فَعْلان ليس مشروطا بأن يكون له مؤنث على فَعْلى، بل شرطه ألا تلحقه تاء التأنيث، ويستوي في ذلك مالا مؤنث له من قبل المعنى "لَحْيان" ومالا مؤنث له من قبل الوضع كـ"ثَرْيان"، وما له مؤنث على فَعْلى في اللغة المشهورةكـ"سَكْران"". انتهى.
وقال الكرمانى: "اللام في قوله (لَوَدِدْنا) جواب قسم محذوف. و(لوصَبَر) في تقدير المصدر، أي والله لوددنا صبر موسى. وهذا حكم كلّ فعل وقع مصدّرًا بلو بعد فعل المودّة. قال الزمخشرى في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ﴾ ودّوا إدهانك. و(يُقَصّ) بصيغة المجهول. و(مِنْ أمرهما) مفعول ما لم يسمّ فاعله". [انتهى كلام الكرمانى].
٥ - حديث: "فُرِجَ سَقْفُ بيتي" الحديث
وفيه "ثم جاء بطَسْتٍ مِنْ ذَهَب مملوءًا حِكْمةً وإيمانًا فأفْرغَها في صدري".
قال أبو البقاء: ""مملوءًا" بالنصب على الحال. وصاحب الحال "طَسْت" لأنه وإن كان نكرة فقد وصف بقوله "مِنْ ذَهَب" فقرب من المعرفة ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الجار، لأن تقديره بطَسْتٍ كائنِ من ذهب أو مصوغ من ذهب، فنقل الضمير من اسم الفاعل إلى الجار. ولو روي بالجَر جاز على الصفة. وأما "حكمة
1 / 82
وإيمانا" فمنصوبان على التمييز".
قال: "والطَّسْت مؤنث ولكنه غير حقيقي، فيجوز تذكير صفته حملًا على معنى الإناء" انتهى.
٦ - حديث: "أتَدري أي آيةٍ في كتابِ الله مَعكَ أعْظَمُ".
قال أبو البقاء: "لا يجوز في "أيّ" هاهنا إلا الرفع على الابتداء و"أعظم" خبره. و"تدرى" معلّق عن العمل، لأن الاستفهام لا يعمل فيه الفعل الذي قبله، وهو كقوله تعالى: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى﴾ ".
وفي حديث عمران بن حصين "أتدرون أيُّ يوم ذاك": "أيّ " مبتدأ، و"ذاك " خبره. وقيل "ذاك " المبتدأ، و"أيّ " الخبر. ولا يجوز نصبه بتدرون البتة".انتهى.
٧ - حديث: "أنه سأل رسول الله ﷺ عن سورة وعده أن يعلمه إياها، فقال أبيّ: "فقلت: السورةَ التي قلت لي".
قال أبو البقاء: "الوجه النصب على تقدير اذكر لي السورة، أو علمني. والرفع
1 / 83
غير جائز إذ لا معنى للابتداء هنا".
٨ - حديث: "كان رسول الله ﷺ يعلمنا إذا أصْبَحْنا أصْبَحْنا على فِطْرَةِ لإسلام، وكلمة الإخلاص، وسنّة نبيّنا ﷺ، وملّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشرَكين".
قال أبو البقاء: "تقديره: يعلّمنا إذا أصبحنا أن نقول أصبحنا على كذا، فحذف القول للعلم به، كما قال تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم﴾ أي يقولون سلام عليكم".
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه: "على" إذا استعملت نحو قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ﴾ تدل على الاستقرار والتمكن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئًا تمكن منه، واستقر عليه".
٩ - حديث "كأيّنْ تقرأ سورةَ الأحزاب أو كأيِّن تعدُّها؟ قال: ثلاثا وسبعين آية. قال: قط".
[كأيّن وقط]
قال أبو البقاء: "أمّا "كأيّنْ" فاسم بمعنى كم. وموضعها نصب بتقرأ أو تعد. وقوله "ثلاثًا وسبعين" منصوب بتقدير أعدّها ثلاثًا وسبعين، فهو مفعول ثانٍ. وأما "قطّ" فاسم مبنى على الضم، وهو للزمان الماضي خاصة. ومنهم من يضمّ القاف، ومنهم
1 / 84
من يفتح القاف ويخفف الطاء ويضمّها. ولا وجه لتسكينها هنا. والتقدير: ما كانت كذا قط". انتهى.
قلت: في "كأيِّن" خمس لغات. قال ابن مالك في الكافية الشافية:
وفي كأيِّنْ قيل كائِنْ وكَإنْ
وهكذا كَيَن وكأيِنْ فاسْتَبِنْ
وقال في شرحها: "أصلها "كأيِّنْ " وهي أشهرها، وبها قرأ السبعة إلا ابن كثير. ويليها "كائِنْ" وبها قرأ ابن كثير، والبواقي لم يقرأ بشيء منها في السبع. وقرأ الأعمش وابن مُحيصن "وكأيِنْ" بهمزة ساكنة بعد الكاف وبعدها ياء مكسورة خفيفة، وبعدها نون ساكنة في وزن "كَعْيِنْ" ولا أعرف أحدًا قرأ باللغتين الباقيتين".
وقال ابن الأثير في النهاية في هذا الحديث: "قوله "أقط " بألف الاستفهام. أي أحَسْب. قال: ومنه حديث حيْوة بن شُرَيح: "لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدّثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا دخل المسجد: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" قال: أقط؟ قلت: نعم".
وقال الأندلسي في شرح المفصَّل: "قط" مخففة ومشدّدة. فالمخففة معناها. حَسْب، وهي مسكنّة مبنيّة لوقوعها موقع فعل الأمر. والمشدّدة معناها ما مضى من الزمان. وبُنيت لأنها أشبهت الفعل الماضي، إذ لا تكون إلا له، ولأنها تضمنت معنى
1 / 85