الباب الأول
ذكر انتساب الملوك بني الرسول
وكيف كان السبب في دخولهم اليمن واستقلالهم بالملك فيها
قال علي بن الحسن الخزرجي. أعرق ملوك اليمن في الملك في الجاهلية والإسلام ملوك حمير وملوك غسان: ولهذا يقال حمير أرباب العرب وغسان أرباب الملوك. وذلك أن سبأ الأكبر لما حضرته الوفاة طلب أبنيه حمير وكهلان وكان الأكبر وأقعده عن يمينه وأقعد كهلان عن شماله ثم طلب سائر بنيه وبني عمه وجوه قومه وقال لهم: اعلموا أن ولديّ هذين هذا عن يميني وأشار إلى حمير وهذا عن شمالي وأشار إلى كهلان فأعطوا حمير من ملكي ما يصلح لليمين وأعطوا كهلان من ملكي ما يصلح للشمال. فقالوا يصلح لليمين السيف والسوط والقلم ويصلح للشمال العنان والترس والقوس. وحكموا أن صاحب السيف والقلم والسوط لا يكون إلا أمرًا ناهيا فاتقًا راتقًا وإن هذه صفات الملك الأعظم وإن صاحب العنان يكون مصرفا لهوادي الخيل في الذبّ عن المملكة وإن الترس يرد به الناس عند اللقاء وإن القوس ينال بها المناوي والمغازي وإن كانا على البعد. ولا يصلح ذلك إلا لحفاظ الدولة القائم بحروبها وسد ثغورها. فتقلد حمير الملك فلم يزل في ولده وولد ولده
1 / 17
يلي ذلك منهم خالف عن سالف إلى أن قام الحارث الرائش. وتقلد كهلان وولده حفظ الممالك والذب عنها وسد ثغورها. يلي ذلك منهم كابر عن كابر إلى أيام عامر بن حارثة الأزدي المسمى ماء السماء وكان في عصر الحارث الرائش قائما بحفظ المملكة وسد ثغورها على سنن آبائه من كهلان. وكان الحارث الرائش محدثا. والمتحدث بفتح الدال المشددة هو الذي يتحدث على مستقبلات الزمان ويخبر بما سيكون من الحوادث قبل كونها فيأتي الأمر بتصديق ما يقوله. وكان الحارث الرائش كذلك وله في هذا الشأن عدّة قصائد. منها القصيدة التي أولها:
أنا الملك المتوج ذو العطايا ... جلبت الخيل من أوطان سام
لأغزو أعبدا جهلوا مكاني ... سلالة يافث وقبيل حام
بني قحطان فانتجعوا وسيروا ... وحجوا البيت في البلد الحرام
بإذن الله حجوا فهو بيت ... توارثه الهُمامُ عن الهمام
وكونوا مثل ملطاط بن عمرو ... وذي إنس الغطارفة الكرام
فنحن الأغلبون إذا بطشنا ... ونحن المتقون لكل ذام
وإنا يوم نغضبُ أو نسامي ... تكاد الأرض ترجف بالأنام
وإن نرضى تقر بمن عليها ... ويشرق وجهها بعد الظلام
وفينا الملك والأملاك حقًا ... ونحن الأكرمون بنو الكرام
أبونا يعرب وسبا أبونا ... ونفخر من يفاخر أو يسامي
فان أهلك فقد أثّلت ملكًا ... لكم يبقى إلى زمن التّهامي
ويملك بعدنا منّا ملوك ... بنو عزّ كعالية الغمام
ويخاف بعدهم منّا ملوك ... يدينون العباد بغير ذام
وتنتشر الأساود بعد هذا ... عقاب الله في الآثام
ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبيّ لا يرخّص في الحرام
1 / 18
يفارق أهله وله كتاب ... يوافق خطه رجع الكلام
يسمى أحمدا يا ليت أني ... أُؤخّرُ بعد مخرجه بعام
ويملك بعده خلفاء برّ ... ويملك بعدهم أولاد عام
ويظهر راية المنصور فيهم ... على خاء إذا نطقوا
ويملك بعده رجل نجيل ... على آبائه أزكى السلام
وربما إنها أكثر من هذا. فإنه أخبر في هذه القصيدة بمن يملك اليمن من حمير وبنيهم بقوله
فإن أهلك فقد أثّلت ملكا ... لكم يبقى إلى زمن التهامي
فكان كما قال ولم تزل ملوك قحطان يتوارثون ملك اليمن إلى أن قامت دولة الإسلام. ويعني بالتّهامي النبي ﷺ. وقوله:
ويملك بعدنا منا ملوك ... بنو عزّ كعالية الغمام
فكان كما قال يعني الملوك الذين ملكوا اليمن بعد الحارث الرائش وقبل ظهور الحبشة. وقوله:
وتنتشر الأساود بعد هذا ... عقاب الله في القوم الآثام
فكان كما قال من انتشار الحبشة في اليمن والملك هنالك وكان ملك الحبشة في اليمن على ما قيل إثنتين وسبعين سنة. تداولها منهم أربعة رجال وهم أرياط ثم أبرهة ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروقا بن أبرهة. وقوله:
ويملك بعدهم منا ملوك ... ضعيف أمرهم ثقل المرام
فكان كما قال. وذلك أن الملوك الذين ملكوا اليمن بعد دولة الحبشة ليسوا كمن تقدمهم من ملوك حمير في العصر الأول. وقوله:
ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبيّ لا يرخّص في الحرام
يفارق أهله وله كتاب ... يوافق خطه رجع الكلام
1 / 19
يسمى أحمدا يا ليت أني ... أُعمر بعد مخرجه بعام
فكان كما قال من ظهور النبي ﷺ وخروجه من مكة إلى المدينة مفارقا لأهله وإقامته في المدينة بين الأنصار إلى أن توفيّ ﷺ. وقوله: " وله كتاب يوافق خطّه رجع الكلام " أي ينزل عليه كتاب باللسان العربي ويكتب بالخط العربي يعني القرآن العزيز قال الله تعالى) إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا (. قال الله تعالى) لسان عربيّ مبين (. وقوله. ويملك بعده خلفاءُ برّ. فكان كما قال من قيام الخلفاء الراشدين بعد رسول الله ﷺ وقيام الخلفاء من بني أُميّة وبني العباس وبملكهم اليمن بعد رسول الله ﷺ. ثم أخير بظهور ملوك غسان في اليمن وتملكهم عليها. فقال: ويملك بعدهم أولاد عام. يريد أولاد عامر فرخّمهُ للضرورة يعني عامر بن حارثة بن امرؤ القيس بن ثعلبة بن مأرب بن الأزد ابن الغوث. وإنما أشار إليه دون غيره ممن سلف أو خلف لأنه كان معاصرًا له إذ هو قائم معه من ولد كهلان لحفظ الأطراف وسد الثغور وجباية الأموال. فخصه بالإشارة والبشارة. ثم حقق ذلك وأوضحه بقوله:
ويظهر راية المنصور فيهم ... على خاء إذا نطقوا ولام
فكان كما قال من ظهور الملك المنصور واستقلاله بالملك في اليمن وتواتر ذريته من بعده إلى يومنا هذا وهو عُمر بن علي ابن الرسول.
وكان استقلاله بالملك في اليمن في سنة ثلاثين وستمائة من تاريخ الهجرة. وهو معنى قوله على خاء إذا نطقوا ولام. فإن الخاء على حساب الجمّل ستمائة واللام ثلاثون. وكان ملك الحارث الرائش قبل ظهور النبي ﷺ نحو ستمائة سنة على ما قيل والله أعلم قال علي بن الحسن الخزرجي تجاوز الله عنه. وقد كنت شرحت هذه
1 / 20
القصيدة التي قالها الحارث الرائش في جزء لطيف وسميته المحصول في انتساب بني الرسول. وذلك لما شهدت به من صحة انتسابهم. وقل أن يوجد دليل على صحة نسب أحد من الناس كصحة هذا النسب.
فصل
فلما هلك عامر بن حارثة الأزدي وكان يسمى ماء السماء لجوده وكرمه وقام بالآمر بعده ولده عمرو بن عامر. وتقّل ما كان يتقلد آباؤه من القيام بحفظ المملكة وسد ثغورها واستخراج الإتاوات من أربابها وهو المُسمّى مُزيقياء وفيه وفي ابنه يقول بعض الأنصار
أنا ابن مُزيقيا عمرو وجدّي ... أبوه عامر ماء السماء
إنما سُمي عامر بن حارثة ماء السماء لأنه مان قومه سنة وقد أخلفت السماء فأجدبت الأرض جدبا شديدا فلم يزل يمون قومه حتى مطروا وأخصبوا فسموه ماء السماء لذلك لكونه خلف ماء السماء ومانهم سنة كاملة. وإنما سُمي عمرو بن عامر مزيقياء لأنه كان يلبس كل يوم حلتين ثم يمزقها آيومه يأنف أن يعود فيهما ويكره أن يلبسها غيره. وعُمّر عمرا طويلا يقال أنه بلغ من العمر ثمانمائة سنة. والله أعلم. وفي أيامه كان خراب السُدّ. وكان أوّل من أسس السُّدّ سبأ الأكبر وأسمه عامر وقيل عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم بناه حمير بن سبأ بعد موت أبيه ثم أتمه بعد ذلك الحميري وهو الصعب بن أبي مرائد. وكان
السّد من جبل مأرب إلى الجبل الأبلق وهما جبلان منفيان على الجبال الشامخة الممتدة من يمين السّد وشماله. وكان ينصب إلى السدّ من أعلى اليمن سبعون واديًا سوى ما يأتيه من الأنهر الصغار وكان ما فوق السّد بستة أشهر يصل إلى ذلك السد. وكان ماء السد يسقي شهرين في شهرين. وكان ما يلي مأرب من شمال السد لبني كهلان وما يلي الأبلق من جنوبي السد لأولاد حمير. وكان ماؤه يقيم من الحول إلى الحول
1 / 21
إلى سعة الأرض وعموم السقي. وكان للسد ثلاثة ثقوب وكان السد بركة عظيمة فإذا احتاجوا إلى السقي فتحوا الثقب الأعلى فينصبّ الماء في تلك البركة فيسقوا به. فإذا نزل الماء عن الثقب الأعلى فتحوا الثقب الأوسط فينصب الماء منه إلى تلك البركة ثم يسقون منها. فإذا نزل الماء عن الثقب الأوسط فتحوا الثقب الثلث فينصب الماء إلى البركة كما هو. وكانت بلقيس قد جعلت في البركة اثنتي عشرة عينًا. فكانوا يسقون جنانهم وزراعاتهم وما حاولوا من شيء على حسب ما يريدون وأفضل. وكان الخادم يمشي بين الشجر والمكتل على رأسه فيمتلأ من الفواكه من غير إن يتناول شيء بيده ولا يلقط شيئًا من الأرض. وكانت الشمس لا تصل إلى أحد يمشي في تلك الجنان من تراكب الشجر. وكانوا يتعاطوا يتعاطون النيران فيما بينهم مسيرة شهرين في شهرين وقيل مسيرة ستة أشهر في مثلها) آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (. قالوا: وكان الرجل يسير من بلده الثانية فيقيل بها ويمسي في الثالثة من القرى التي بارك الله فيها وهي قرى بيت الله المقدس) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا (. فلما كفروا نعمة الله أرسل إليهم رسله. فيقال الله أرسل إليهم اثنتي عشر نبيا. وقيل ثلاثة عشر نبيا. فكذّبوا رسل الله وأعرضوا عن طاعة الله. فأرسل الله عليهم سيل العرم والعرمُ المطر الشديد قاله صاحب التّيجان. ثم أخرب الله السُّدّ.
فصل
ذكر خراب السد
قال صاحب التيجان: بينما طريفة بنت لجبر الحجورية زوجة عمرو بن عامر المزيقياء نائمة إلى جانب عمرو في ليلة من الليالي إذ رأت في منامها كأن سحابة سوداء غشيت أرض اليمن
فبرقت وأردعت وأصعقت فلم تمر على شيء إلاّ
1 / 22
أحرقته. ففزعت من منامها وقامت وهي مرعوبة وقد ذرعت ذعرا شديدا. فسكن عمرو روعتها وسأل عن قصتها. فقالت: والنور والظلماء ليهلكن الشجر ويتلف اليمن ويخرب البلاد ويتشتت العباد. قال: وكيف يكون ذلك. قالت سبع سنين شداد تأتي بالزلزال والأوابد يقطع فيها الولد الوالد. قال لها عمرو: قد نصحت وصدقت فما وجه الرأي قالت سرْ إلى السدّ فإذا رأيت البرق والرعد وطلع النحس وغاب السعد فعند ذلك الجرذ الجرذ إذا رأيته يكثر الحفر ويقلّب بيديه عظام الصخر فقد أزف الأمر فعليك بالصبر ولا تجزع للدهر. قال لها: فمتى ترين ذلك يكون. قالت له: لا أدري غير أنه أمر من الله نزل وحكم منه سبق في الأزل لا ينصرف عن سهل ولا جبل حيثما أراد وصل فليكن منك الحذر الوجل. فانطلق عمرو إلى السد فلم يزل يتعاهده حتى رأى يوما جرذا يحفر السد بيديه ورجليه فكان يقلب الصخرة التي لا يقلبها إلا أربعون رجلا: وكان الجرذ أعمى فلما رأى ذلك رجع إلى طريفة وقال لها رأيت تصديق مقالتك يا طريفة. فقالت له يا عمرو الأسفار دارا بدار وجارا من جار عند ما ينزل الأقدار ويستأثر الليل والنهار. قالت ومتى ذلك. قالت: لسبع سنين ينزل الأمر بيقين بتفريق اليدين ويكثر الرين. وقال قوم أنها السبع الشداد التي رآها عزيز مصر وفسر له روياه يوسف الصدّيق ﵇. ففعل عمرو ما أمرته طريفة وكتم الأمر وأجمع أن يرتحل في ولده وقومه وكتم ذلك لئلا ينكره الناس عليه. ثم أنه يوما أمر بعمل مائدة فنحر مائة من الإبل وذبح من الغنم شيئا كثيرا ونادى في العرب أن هلموا إلى مجد مزيقياء. فتأتي له الناس من كل جانب ولم يتخلف عنه شريف ولا وضيع. ثم أمر أكبر أولاده وهو ثعلبة العنقاء جدّ الأوس والخزرج أبو أبيهم حارثة بن ثعلبة العنقاء. وقال له: إذا أمرتك بأمر فلا تأتمر. فإني سأضربك بعنزتي هذه فإذا ضربتك فالطم وجهي. فقال له ثعلبة: والله يا أبت ما أستطيع دفع يدي إلى وجهك ولا تطاوعني نفسي على ذلك. قال: يا بني أن لي عليك حقا فلا تخالف أباك فإذا في ذلك مصلحة لي ولك. فقال له ثعلبة: سمعا وطاعة. فلما طعم
1 / 23
الناس وفرغوا وقد اجتمعت أشراف العرب أمر الملك ابنه ثعلبة بأمر فعصاه فضربه بالعنزة فوثب ثعلبة عليه فلطمه. فقال الملك: وأذلاّه يُلطم وجهي يوم مجدي. فوثب سائر أولاده وبنو عمه على ثعلبة ليقتلوه. فقال: لا تفعلوا فإن الرحمة سبقت له في قلبي قبل السخط ومع العجلة الندم ولكني سأعاقبه بما يكون لي نصفة منه. أبيع مالي وعقاري ولا أدع له شيئا ينقلب إليه وأنتقل من مأرب إلى غيرها. فقال أهل البلاد: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه جميع أموال. فلما أحرز أثمان أمواله أنتقل في ولده وولد ولده وسائر قومه وعشيرته. ثم أخرب الله السد بعد ذلك فأقلع الصخور والقصور الشجار والأنهار فرمى فيها الرمل. فلما رأى من كان تحت السد خرابه وإنهم لا يقدرون على شيء منه هربوا إلى قنن الجبال بالأهليين والأموال. وفاض الماء على السد لكثرة المطر. وخرج الماء من الخلل التي حفرها الفأر. وقد ذكر ذلك الأعشى حيث يقول:
وفي ذاك للمؤُتسي أسوة ... ومأرب عفّى عليها العرم
رجام بنته لهم حمير ... إذا جاء مؤازر لم يزم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قُسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فُطم
كانوا كما قال الله تعالى وتبارك) وبدّلْناهُم بجنّتيهم جنّتين ذواتيْ أُكل خمْط وأثل وشيء من سدر قليل جزيناهم بما كفروا وهل نُجازي إلاّ الكفور (ويروى أن سيل العرم كان قبل الإسلام بأربعمائة سنة. قاله حمزة بن الحسن الأصفهاني. وفي رواية غيره أكثر من ذلك وهي الرواية الصحيحة. والله أعلم.
فصل
ولما خرب السد وخرج عمرو بن عامر مزيقياء في ولده وولد ولد وعدة من
1 / 24
قبائل قومه من مأرب متوجهين إلى البلاد يرتادون أرضا تحملهم أو بلدا يمنعهم فنزلوا بلاد عكّ مجتازين. وكان رئيس عكّ يومئذ شملقة بن الجباب. فسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام عنده حتى يأمروا من يرتاد لهم منزلًا ينزلونه. ووجّه عمرو بن عامر ثلاثة من ولده وهم الحرث بن عمرو بن عامر ومالك بن عمرو وحارثة بن عمرو بأرض عكّ قبل أن يرجع إليه أحد روّاده فاستخلف ابنه ثعلبه العنقاء وهو جد الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر. فتقلد ما كان يتقلده آباؤه من حفظ المملكة وسد الثغور. ولما توفي عمرو بن عامر كما ذكرنا وقع الوباء في قومه بعده واشتد عليهم الأمر فأرسلوا إلى عكّ وقالوا لهم أن هذا الموضع الذي انتم فيه لمقامنا عندكم ونحن سائرون عنكم عن قريب. فكرهت عكّ ذلك فهاجت الحرب بينهم فاقتتلوا قتالا شديدا واستمرّ القتل في عكّ وقتل شملقة ابن الجُباب غيلة وكان الذي تولى حربهم وقتالهم جذع بن سنان وكان شجاعا مقداما فتّاكًا. وكان أعور أصم كثير الكيد عظيم المكر شيطانا من شياطين العرب. وكان ثعلبة العنقاء كارها لذلك من فعله فحلف أن لا يقيم هنالك. فلم يزالوا سائرين حتى صاروا قريبا من مكة. وكان سكان مكة يومئذ جُرهم. فأرسل ثعلبة العنقاء رسلا إلى جرهم فسألهم أن يأذنوا لهم في المقام عندهم فأبوا عليهم فاقتتلوا وظفرت بهم الأزد فأجلوهم عن مكة ووليت خزاعة البيت دهرا طويلا نحو من ثلاثمائة سنة.
قال ابن قتيبة: ومات ثعلبة العنقاء بمكة فاستُخلف على قومه أخوه جفنة بن عمرو بن عامر. فتقلد جفنة ما كان يتقلد آباؤه من حفظ المملكة والذب عنها. ولم يزل في مكة مقيما هو وقومه من الأزد حتى ضاقت عليهم مكة وأرادوا الشخوص عنها. وكانت فيهم كاهنة وهي طريفة زوجة عمرو بن عامر مزيقياء. فلما عزموا على الخروج من مكة قالت لهم كاهنتهم من كان ذا هّم بعيد وحمل جليد وبأس شديد فليقصد عُمان المشيد. فنزلوا عُمان فسار أليه بنو نضر بن الأزد فهم أزد عُمان. فنزلوا عُمان
1 / 25
والبحرين ولوا على ما هنالك فهي مساكنهم. إلى اليوم. ثم قالت: ومن كان منكم ذا جرأة وعزيمة وفتك وشهامة وصبر على أزمات الدهر فليقصد الوادي من مرّ. فنزلت هنالك خزاعة فهي مساكنهم في الجاهلية والإسلام. ثم قالت: ومن كان يريد الراسخات في الوحل المطعمات في المحل فليقصد يثرب ذات النخل. فسار إليها حارثة بن ثعلبة العنقاء في ولده من الأوس والخزرج فهي مساكنهم في الجاهلية والإسلام. فلما عزموا على الخروج إلى يثرب قالت لهم: يا أهل الوجوه المضيئة والأنفس الأبية والمناقب السنية انزلوا يثرب القصيّة قبل نزول المنية وطول القضية لتعلموا بعد الجهالة وتبصروا صاحب الرسالة. ثم قالت: ومن كان يريد الثياب الرقاق والخيول العتاق والكنوز والأرزاق فليقصد مناهج العراق. فسار إليها مالك بن فهم الأزدي في قبائل من قومه فغلبوا عليها وصاروا فيها ملوكا فيهم ملوك الحيرة قبل ملوك لخم. ثم قالت: ومن كان يريد الخمر والديباج والحرير والملك والمسامير فليلحق ببُصرى وحفير ولباب دمشق الشام ليملكها أعواما بعد أعوام ويريها فتوة الكرام. فسار إليها جفنة بن عمرو بن عامر في ولده وولد ولده وكان أكثرهم ولدا ويروى أنه كانت له مائة امرأة منكوحة ويار معه عدة من قبائل غسان قالوا: وإنما سمي جفنة لأنه ورث حفنة أبيه التي كان يطعم فيها الناس وكانت جفنة عظيمة يدور بها مائة فارس يأكل منها القاعد والقائم والراكب: وكانت مفصلة فإذا أتى العيد أُخرجت ورُكّبت وقيّر ظهرها كما يقير السفينة فإذا انقضى العيد فُصّلت وأعيدت إلى موضعها. قال ابن قتيبة: وسار جذع بن سنان قاتل شملقة بن الجباب فيمن سار إلى الشام وكان سيدا من سادات غسان. فلما اطمأنوا أتاهم عامل قيصر يطالبهم بجباية الملك. فقال له جذع بن سنان: نحن قوم غرقى وليس معنا ما نسوقه إلى الملك ولكن خذ هذا السيف وهنا عندك إلى أن يوجد عندنا ما نسوقه إلى الملك. فقال العامل: اجعله في كذا وكذا من أمك فضحك
1 / 26
الحاضرون. وكان جذع بن سنان أصم فلما رأى الجماعة ضحكوا عرف ما قال العامل: فاستلّ السيف وضرب عنق العامل. فقال بعض الحاضرين خذ من جذع ما أعطاك. فذهب مثلا فمضى كاتب العامل إلى قيصر فأخبره بما كان من غسان وقتلهم العامل. فوجه قيصر إليهم جيشا كثيفا ليقاتلوهم ويطردوهم عن البلاد فهزمتهم غسان واخذوا سلاحهم. ثم بعث إليهم جيشا آخر فلم تقم لهم قائمة مع غسان فهزموهم وقتلوا منهم طائفة فلما رأى ذلك قيصر استنابهم على عرب الشام ورفع أيدي سليح عنها. وكانت سليح ملوكا على عرب الشام قبل غسان. ولم تزل غسان ملوكا هنالك إلى أن قامت دولة الإسلام. والله أعلم.
فصل
ذكر ملوك الشام الجاهلية من غسان
قال علي بن الحسن الخزرجي عامله الله بإحسانه: كان أول من ملك الشام من غسان بعد جفنة بن عمرو بن عامر الحارث بن عمرو بن جفنة وهم الحارث الأكبر وكنيته أبو شمر وكان يدعى مُحرّقا لأنه أول من عاقب بالنا وولده يعرفون بآل مُحرق. قال ابن خُمرْ طاش في مقصورته:
والشُّمُّ من شمّبني مُحرّق ... من طبق الأرض جنودا كالذبا
هذه رواية الاشعريّ: قال: ثم ملك بعده ابنه الحارث الأعرج بن الأكبر وأمه مارية ذات القرطين التي يقال فيها. ولو بقرطي مارية. وهي مارية بنت الأرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة. وقيل مارية بنت ظالم بن وهب ابن الحارث بن معاوية بن ثور وهو كندة وإليها ينتسب ملوك غسان. قال حسان بن ثابت الأنصاري يمدح ملوك بني جفنة:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
1 / 27
بيض الوجوه كريمة أحسابه ... شمّ الأنوف من الطراز الأول
وكان خير ملوكهم وأيمنهم طيرا وأبعدهم مغارا. وشدهم مكيدة وهو الذي غزا خيبر وسبأ ثم اعتقهم بعد ما قدم الشام. وسار إليه المنذر ابن ماء السماء للخمي في مائة ألف من قومه وأهل بلاده ووجه إليهم الحارث الأعرج مائة رجل من غسان وأظهر أنه بعث بهم للمصالحة وكان فيهم لبيد ابن يزيد الغساني الشاعر. وكان يومئذ غلاما. فأحاطوا برواق المنذر بن ماء السماء وهجم عليه جماعة منهم فقتلوه وقتلوا جماعة من قومه وأهل بيته ممن كان عنده وطاروا إلى متون خيولهم فنجا بعضهم وقتل بعضهم. وعند ذلك حملت خيول الغسانيين على جموع المنذر فهزموهم وقتلوا منهم طائفة واسروا أخرى. وكان هذا اليوم يسمى يوم حليمة. وذلك أن حليمة بنت الحارث الأعرج طيبت أُولئك المائة بطيب من طيب الملوك ثم لبسوا أكفانهم ثم لبسوا الدروع. من فوقها ثم ساروا نحو المنذر فسمي ذلك اليوم يوم حليمة لذلك ثم ملك بعده ولده الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر. ثم ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر وهو الذي قال فيه النابغة الذبياني:
هذا غلام حسن وجهه ... مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأصغر والحارث الأع ... رج والأكبر خير الأنام
ثم لهند ولهند وقد ... أسرع في الخيرات منه إمام
خمسة آبائهم ما هم ... أكرم من يشرب صوم الغمام
وفيه يقول النابغة أيضا
فإن يجزع النعمان نفرح ونبتهج ... وبات معدّا خيرها وربيعها
ويرجع إلى كهلان ملك وسؤدد ... وتلك المنى لو إننا نستطيعها
وقال ابن قتيبة: وكان للنعمان بن الحارثة ثلاثة بنين. حجر بن النعمان وبه كان يكنى أبوه
1 / 28
وعمرو بن النعمان. والنعمان بن النعمان وكلهم كان ملكا. وفيهم يقول حسان بن ثابت الأنصاري:
من يغر بالدهر أو يأمن ... من قبيل بعد عمرو وحجر
ملكا من جبل الثلج إلى ... جانبي أيلة من عبد وحر
ثم ملك بعده أخوه عمرو بن الحارث الأعرج وهو الذي أشار إليه النابغة الذبياني حين فارق النعمان بن المنذر. وفيه يقول:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ... ووالده ليست بذلت عقارب
قال ابن قتيبة: وكان يقال لعمرو بن الحارث أبو شمر الأصغر. وقال المسعودي: لما هلك الحارث الكبر كان أول ملك بعده الحارث ابن ثعلبة بن عمرو وقال. وأُمه ذات القرطين. قال: ثم ملك بعده النعمان ابن الحارث بن جبلة ابن الحارث بن ثعلبة بن جفنة: ثم ملك بعده عوف ابن أبي شمر. وكان ملكه حين بعث النبي ﷺ.
وذكر بغض الأخبار يبين أن حسان بن ثابت وفد على الحارث بن أبي شمر بالشام. وكان النعمان بن المنذر ملك الحيرة يساميه. فقال الحارث بن أبي شمر لحسان بن ثابت. يا ابن الفُريعة بلغني أنك تفضل النعمان عليّ فقال له حسان: وكيف أُفضله عليك أو أساميك به. فوالله لقفاك احسن من وجهك ولأمك اشرف منابيه ولشمالك أجود من يمينه ولقليلك اكثر من كثيره ولثمادك أمرع من غديره ولكرسيك أوسع سريره ولجداولك اغرز من بحوره وليومك أطول من شهوره وإنك لمن غسان وإنه لمن لخم فكيف أُفضله عليك أو أُدله بك. فقال يا الفُريعة أن هذا لا يُسمّع إلا في شعر فقال:
1 / 29
نُبئت أنّ أبا منذر ... يساميك للحارث الأصغر
قذا لك أحسن من وجهه ... وأُمك خير من المنذر
ويسري يديك على عسرها ... كيميني يديه على الميسر
ومنهم الحارث بن أبي جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن ثعلبة ابن عمرو بن جفنة. ذكره ابن الجون. قال: وكان ملكه ثلاث سنين. قال: ومنهم الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي جبلة بن الحارث بن ثعلبة ابن الحارث بن عمرو بن جفنة. ومنهم جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة. وهو آخر ملوكهم ة الله أعلم. وكان عدد ملوكهم ثلاثين ملكا. وقيل اثنين وثلاثين ملكا. وقيل ستة وثلاثين ملكا. ومدة ملكهم ستمائة سنة وست عشرة سنة. وفي بعض التواريخ أن مدة ملكهم ألف سنة وستمائة سنة.
فصل
قال علي بن الحسن الخزرجي عامله الله بإحسانه: وأورد صاحب التيجان فصلا ذكر فيه أسماء ملوك غسان. وكان يسمى قاتل الجوع. ثم ولده ثعلبة بن مازن. وكان يسمى زاد السفر. ثم ولده امرؤ القيس بن ثعلبة. وكان يسمى بهلول. ثم ولده حارثة بن امرؤ القيس. وكان يسمى الغطريف. ثم ولده عامر بن حارثة. وهو الذي يُسمى ماء السماء ويقال ماء المزن: ثم ولده عمران بن عامر وكان كاهنا: ثم أخوه عمرو بن عامر وهو الذي يقال له مزيقياء: ثم ولده ثعلبه بن عمرو بن عامر واسمه عُلبة ابن عمرو: ثم ابنه عمرو بن جفنة: ثم ابنه الحارث بن عمرو بن جفنة وهو الحارث الأكبر: ثم ابنه الحارث وهو الحارث الأعرج: ثم ابنه الحارث بن الحارث وهو الحارث الأصغر ثم أخوه النعمان ابن
1 / 30
الحارث الأعرج: ثم أولاد النعمان وهم ثلاثة عمرو بن النعمان وحجر بن النعمان والنعمان بن النعمان بن الحارث: ومن ولد الحارث الأعرج أيضا المنذر بن الحارث الأعرج والأيهم ابن الحارث الأعرج وولده جبلة بن الأيهم وأبو جبلة بن عمرو وهو الذي قتل اليهودي بالمدينة: قال: ومنهم جبلة بن جفنة وثعلبة بن عمرو وعمرو ابن عمرو والمنذر بن الحارث بن جبلة: قال: والأياهم الأربعة هم: الأيهم بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن أبي جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة: والأيهم بن الحارث بن لبي جبلة والأيهم بن جبلة ابن الحارث بن أبي جبلة قال وذكر ذلك ابن الجون في شرح الخمر طاشية عن ابن الكلبي قال وللحارث بن جبلة أولاد النعمان بن الحارث وجبلة ابن الحارث والمنذر بن الحارث أيضا قال وكلهم كان هذه رواية صاحب التيجان والله أعلم. قال علي بن الحسن الخزرجي عامله الله بإحسانه. وقد أثبت الفقيه أبو الحسن حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المعروف بكتاب تواريخ الأمم اثنين وثلثين ملكا من ملوك غسان واحدا بعد واحد وعدد ما ملك كل واحد منهم من السنين على الانفراد. وذكر أن جملة تلك ستمائة سنة وسنة وقد حكيت ما حكاه في هذا الفصل الثاني الذي يأتي بعد هذا الفصل. وبالله التوفيق.
فصل
وقال أبو الحسن حمزة بن الحسن الأصفهاني ﵀ كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام كما كان آل نصر عمال الأكاسرة على عرب العراق. قال وأصل بني جفنة من اليمن ثم من الأزد. وذلك أن الأزد لما أحست وهي بمأرب بانتقاض السد وخشيت سيل العرم في مأرب فتشاءم قوم فنزلوا ماء يقال له غسان بالماء الذي نزلوا عليه وهو ماء بسدّ مأرب. وقيل هو ماء بالمشلل قريب من الجحفة. وقيل هو ماء بين زبيد ودمع وهما واديان للأشعر بين اليمن.
1 / 31
قال: ثم أنزلهم ثعلبة بن عمرو بن عامر وهو الذي يقال له العنقاء بادية الشام. وكان ملوكها يومئذ من قبل القياصرة سليح بن حلوان بن عمران بن الجان قضاعة. فلما نزلت غسان في جوالر سليح ضربوا عليهم الاتاوة. وكان الذي يتولى جبايتها سُبيط بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن ضجهم بن حماطة فقصد سبيط ثعلبة بن عمرو وطاب من الأتاوة فاستنظره ثعلبة فقال سبيط لتعجلن الأتاوة أو لآخذن أهلك. وكان ثعلبة حليما. فقال لسبيط هل لك في من يربح عليك بهذه الأتاوة. قال نعم: قال عليك بجذع بن سنان. وكان جذع بن سنان فاتكا كما ذكرنا فأتاه سبيط فخاطبه بما خاطب به ثعلبه بن عمرو. فخرج إليه جذع ومعه سيف مذهب. فقال له هل لك أن تأخذ هذا السيف عوضا عن حقك إلى أن أجمع لك الأتاوة. قال: نعم قال. خذه. فتناول سبيط جفن السيف وكان قائمه في جذع. فاستلّه جذع وضرب به سبيطًا حتى برد. فقيل له: خذ من جذع ما أعطاك. فذهب مثلًا: ووقعت الحرب بين سليح وغسان فأخرجت غسان سليحًا من الشام وصاروا بها ملوكا فكان أول ملك من غسان في أرض الشام جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعابة البهلول بن مازن زاد السفر ويقال قاتل الجوع بن الأزد بن الغوث. قال ويزعم الأزد أن عمرو بن عامر إنما سمي مزيقياء لأنه كان يمزق في كل يوم من أيام مملكته حلتين يكره أن يعود فيهما ويأنف أن يلبسهما غيره فلذلك سمي مزيقياء وقيل لأن الأزد تمزقت في أيامه وافترقت عند هربهم من سيل العرم. فاتخذت العرب افتراق الأزد من مأرب بسيل العرم مثلا فقالوا ذهب بنو فلان أيدي سبأ. ويقال أيادي سبأ. والله أعلم. وكان الذي ملك جفنة على الشام ملك من ملوك الروم يقال له نسطورس فلما ملك جفنة بن عمرو الشام بعد الملوك السليحيين من قضاعة دانت له قضاعة وغيرها من أهل الشام وغيرهم. وبنى جلق والقرية وعدة مصانع. ثم هلك وكان ملكه خمسًا وأربعين سنة وثلاثة اشهر. ثم ملك بعده ابنه عمرو بن جفنة خمس سنين وبنى
1 / 32
الأديار دير حالي ودير أيوب ودير هنادة. ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو بن جفنة وهو الذي بنى صرح الغدير في أطراف حوران مما يلي البلقاء وكان عمرة ملكه سبع عشرة سنة ثم ملك بعده ابنه الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ولم يبن شيئا وكان ملكه عشرين سنة. ثم ملك بعده ابنه جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ثم ملك بعده ولده الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعابة بن عمرو بن جفنة وأمه مارية ذات القرطين بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة وكان مسكنه بالبلقاء فبنى بها الحفير ومصنعة بئر عجاف وقصر أبيرق وكان ملكه عشر سنين. ثم ملك بعده المنذر ولده الأكبر بن الحارث بن ماربة وبنى جأثاء وزرقاء قريبًا من القرنين وكان ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث بن مارية وكان ملكه خمس عشرة سنة وستة اشهر ثم ملك بعده أخوه المنذر الأصغر وهو أبو شمر بن الحارث بن مارية وكان ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث بن مارية وكان منزله بخارب فبنى قصر خارب ومخاربا وممنعة وكان ملكه أربعا وثلاثين سنة. ثم ملك بعده أخوه الأيهم بن الحارث بن مارية وبنى الأديار دير ضخم ودير النبوة وكان ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده أخوه عمرو بن الحارث بن مارية ونزل السدير وبنى قصر العفار وقصر منار وكان ملكه ستا وعشرين سنة. ثم ملك بعده ابن أخيه جفنة الأكبر بن النعمان الأكبر بن الحارث بن مارية وهو المعروف بمحرّق وهو الذي احرق الحيرة وبه سموا آل محرّق وفيه يقول عدي بن زيد مخاطبا النعمان بن المنذر حيث يقول:
سما صقر فأشعل جانبيها ... وألهاك المروّح والغريب
فبتن لدى الثويةّ ملجمات ... فصبحن العباد وهنّ شيب
1 / 33
وكان سيّارة جوابه: ثم هلك وكان ملك ثلاث سنين: ثم ملك بعده النعمان بن المنذر الأصغر بن المنذر الأكبر بن الحارث بن مارية وكان ملكه سنة واحدة ولم يبن شيئا: ثم ملك بعده ابن أخيه النعمان بن عمرو ابن المنذر الأصغر بن المنذر الأكبر بن الحارث بن مارية فبنى قصر السويداء وقصر خارب. ولم يملك أبوه عمرو ولكنه كان يغزو بالجيوش وهو الذي امتدحه النابغة بقوله حيث يقول:
عليّ لعمر ونعمة بعد نعمة ... ووالده ليست بذات عقارب
قال عليّ بن الحسن الخزرجي عامله الله بإحسانه: والذي يظهر لي أن النابغة لم يدرك عصر هذا المذكور فإن المصنف ﵀ ذكر النابغة في آخر الفصل. وذكر أنه مدح الأيهم بن جبلة. وبين الأيهم بن جبلة وعمرو ابن المنذر الأصغر على ما أثبته هو في التاريخ ما يزيد على ثلاثمائة سنة. ومعلوم أن النابغة كان قريبا من دولة الإسلام. لان حسان بن ثابت عاصره ووفدا معا على النعمان بن المنذر اللخميّ. قال حمزة بن الحسن الأصفهانيّ: وكان ملك النعمان بن عمرو سبعا وعشرين سنة: ثم ملك بعده ولده جبلة بن النعمان بن عمرو بن المنذر الأصغر وكان منزله بصفّين وهو عيْن أُباغ وقاتل النعمان بن ماء السماء وكان ملكه ست عشرة سنة: ثم ملك بعدهُ النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية ولم يحدث شيئًا وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ثم ملك بعدهُ النعمان بن الحارث بن الأيهم فأصلح صهاريج الرصافةٍ وكان بعض ملوك لخم آخر بها. وكان ملكهُ ثماني عشرة سنة: ثم ملك بعدهً أخوه المنذر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم فلم يحدث شيئًا وكان ملكهُ تسع عشرة سنة ثم ملك بعده أخوه عمرو بن النعمان فلم يحدث شيئًا وكان ملكه ثلاثًا وثلاثين سنة وأربعة أشهر: ثم ملك بعده أخوه حجرُ بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن
1 / 34
مارية وكان ملكه ستًا وعشرين سنة: ثم ملك بعدهُ ابنهُ الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث وكان ملكهُ اثنتي عشرة سنة: ثم ملك بعدهُ ابنهُ جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان وكان ملكهُ تسع عشرة سنة وشهرًا: ثم ملك بعدهُ ابنهُ الحارث بن جبلة ابن الحارث بن حجر قال: ويسمى الحارث بن أبي شمرٍ. وهو الذي أوقع ببني كنانة وكان يسكن الجابية وكان ملكهُ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهرٍ: ثم ملك بعدهُ ابنهُ النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن حجرٍ وكنيته أبو مرز فبنى ما اشرف على الغور الأيسر وبكاهُ النابغة بقوله:
بكى الحارث الجولان ... وحوران منهُ خاشعُ متضائلُ
وكان ملكهُ سبعًا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر: ثم ملك بعدهُ الأيهم ابن جبلة بن الحارث بن أبي شمر وهو صاحب تدمر وقصر ترعة وهو الذي أوقع ببني العنبر بن حشر وعامله وفيه يقول النابغة:
شلت حلومهم عنهم وغرهم ... سن المعيدي في رعي وتعزيب
ثم ملك بعدهُ أخوه المنذر بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر وكان ملكهُ سنة: ثم ملك بعدهُ أخوه عمروُ بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر وكان ملكهُ عشر سنين وشهرين: ثم ملك بعدهُ ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر وكان ملكهُ أربع سنين: ثم ملك بعدهُ جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الأيهم بن الحارث بن مارية ذات القرطين وهو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة: واسم جفنة ثعلبة بن عمرو مزيقياءَ بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازنٍ زادِ السفر ويقال قاتل الجوع ابن الأزد بن الغوث وكان ملك جبلة بن الأيهم ثلاث سنين وهو آخر ملوك غسان في أرض الشام: والله اعلم: هذا آخر ما حكاهُ حمزةُ بن الحسن الأصفهاني في كتابه المعروف بتواريخ الأمم والله اعلمُ.
واتفق المؤرخون جميعًا أن جبلة بن الأيهم كان آخر ملوك غسان في الجاهلية
1 / 35
وكان طوله عشر شبرًا وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض وأدرك الإسلام فأسلم في أيام عمر ﵁ ثم انتصر ولحق بالروم. وكان سبب تنصره أن رجلًا وطئَ على طرف ردائه وهو يطوف البيت. فالتفت إلى ذلك الرجل فلطمه لطمة هشمت انفه وكسرت سنه وخضرت عينه فاستعدى ذلك الرجل على عمر بن الخطاب ﵁ فقال له عمر أرضه أو أقيدهُ. فقال إني ملك وهو سوقة: فقال لهُ عمر أن الإسلام قد سوَّى بينكما. فقال: أمهلني إلى غدٍ. فأمهلهُ. فلما جنَّ الليل خرج في حشمه وعبيده ومن أطاعهُ من قومهٍ فلحق بالروم وتنصر. ثم ندم على ما كان منهُ. وهو الذي يقول:
تنصرت الأملاك من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبَرتُ لها ضررْ
تكنفني فيها لجاجُ ونخوةُ ... فكنت كمن باع الصحيحة بالعَوَرْ
فيا ليتَ أمي لم تَلدْني وليتني ... رجعتُ إلى القول الذي قاله عمرْ
ويا ليتني أرْعى المَخَاض بقفرهِ ... وكنت غريبًا في ربيعةَ أو مُضَرْ
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ ... أجاورُ قومي ذاهبَ السمح والبصَرْ
أدينُ بما دانوا بهِ من شريعةٍ ... وقد يصبرُ العَودُ الضَّجُورُ على الديَرْ
قال عليُّ بن الحسن الخزرجي. ومن ولد جبلة بن الأيهم بنو رسول ملوك اليمن في الإسلام وسأذكرهم في الفصل الذي سأذكره بعد هذا أن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
فصلُ
ذكر بني رسول ملوك اليمن في الإسلام
قال عليُّ بن الحسن الخزرجي عاملهُ الله بإحسانهِ: كان اسمُ رسولٍ محمد بن هارون بن أبي الفتح بن يوحي بن رستم وهو من ذرية جبلة بن الأيهم بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياءَ بن عامرٍ ماءِ السماء بن حارثة الغطريفِ بن امرئ
1 / 36