في تلك الدقيقة كانت الفتاة الصغيرة تصغي إلى حديث أمها وعلى محياها أمارات الوجل والريبة.
أية فكرة أم أي مقصد خفي كان ينبت في ذلك الرأس الجميل الذي لم يبلغ بعد عامه السادس؟
عندما صعدت السيدة فارس إلى غرفتها وجلست إلى آلة الخياطة لتنجز عملها احتالت الفتاة الصغيرة على رفيقاتها اللواتي كن يلعبن تحت شجرة الطلح، وابتعدت خفية حتى توارت عن الأنظار فانسلت وراء الأشجار واحتجبت خلف أغراس الكرمة.
وبعد مضي ثوان قلائل كانت الفتاة تجتاز الطريق بالرغم من نباح الكلاب، وتنحدر إلى حديقة المحطة من ثغرة السياج خائفة من أن تشعر بيدها تلامس حشرة أليمة أو حية سامة.
بعد ذلك اتجهت بخطى عجلة إلى زاوية من الحديقة ظليلة هي غيضة ملأى بشجر الغار تتخللها أغراس ذات أغصان لماعة وأفنان محددة الأطراف تمتد من شجرات الند إلى مطارح النبات والعوسج؛ وكانت تعرف كل المعرفة تلك الجزيرة الصغيرة الطافحة بالخضرة التي عمدها لبيب راغب بهذا الاسم: «مدينة الأزهار».
كان ابن الرئيس قد احتفظ في تلك الأجمة بغرسة من زهر «الياسمين» الأبيض تنحدر إلى الجهات الأربع بأغصانها المثقلة بالأزهار، وتبعث رائحة زكية إلى أطراف الأجمة. على قمة هذه الشجرة سمر لبيب خشبة في مذاري الأغصان، كان يتسلق إليها في ساعات الوحدة ويصرف وقتا طويلا في قراءة مؤلفات أدباء وطنه.
أما فريد فكان يختلف إلى هذه الأجمة كلما أراد الهرب من وجه الأم سالم ويجثم في مخبإ أخضر بنت جدرانه أوراق الغار الكثيفة وانفرجت عن أغصان ترتعش فيها أوراقها الخضراء، وكان رفاقه الأحداث يعرفون سر عزلته هذه، إلا أن الفتاة ابنة أديب كانت في المدرسة يوم ذاك وكان أديب يتلقى أمثولته العربية في منزل كاهن جونية، فما بقي في البيت إلا الفتاة فارس الملقبة بالفتاة الزرقاء.
عندما أبصرت هذه أمها مضطربة البال قالت في نفسها: إذا لم يكن قد هرب فهو بدون شك مختبئ في الأجمة التي تعود الفرار إليها، ولكن إذا كشفت أمره لا تتردد الأم سالم أن تذهب إليه وتشبعه ضربا، فالأحرى بي أن أسرع إليه وأخبره عما جد.
أزاحت الأغصان بتأن وانسلت إلى داخل المخبأ فرأت فريدا مضجعا على الحضيض يبكي، وقد ألقى رأسه على كتفه المنحنية إلى الأمام.
كان يبكي كل من يحب! كان يبكي الأيام السعيدة التي صرفها، والتي كانت شعاع أفراحه الضئيل! كان يبكي عطف السيدة أديب وقبلات السيدة فارس التي أفهمته معاني قبلات الأم! كان يبكي لما سيلاقيه من شراسة الأم سالم ومن الأوجاع التي تنتظره في المستقبل القريب!
অজানা পৃষ্ঠা